آثارنا والهويّة القوميّة

د. نسيب أبو ضرغم

إن الأمم التي تزخر بآثار تعود إلى الألف الثامن قبل الميلاد، في هذا العالم أمم قليلة، ذلك أن الحضارات من الوجهة التاريخية قد نشأت في مربع حضاري تاريخي وهو الحضارة السوراقية «الشام وما بين النهرين» وحضارة وادي النيل وحضارة الصين «الأحواض النهرية» وحضارة الإغريق.

هذه الحضارات الأربع الأم، ما زالت واقفة تحت الشمس تنبئ كل يوم بما قدمته الشعوب التي كونتها، وما ساهمت به من دفق حضاري لن يتوقف. ولأنها كذلك، فقد أصبحت موضوعاً استفزازياً للتوحش اليهودي المُنتج من لا حقيقة تاريخية، ومن خواءٍ حضاري حقيقي. لقد شكلت حضارتنا السورية الاستفزاز الأساس والأخير لهذا الخواء الثقافي اليهودي، ذلك أن أي أثرٍ تاريخي في أية بقعة سورية من بلاد سومر في جنوب العراق إلى أعالي الفرات، مروراً ببابل إلى قلب الباديةـ وتدمر بالتخصيص، إلى آشور وحضارة الشام داخلاً وساحلاً، أي أثر، أي حجرٍ ينطق بالتاريخ السوري هو تسفيه ونقد للكذبة التاريخية التي اسمها الوعد الإلهي.

الصراع دهري، آثار مقابل وعد. صاحب الآثار، دليله ما ترك وما صنع وبالتالي حقيقته منتجة من حركته وإبداعه وتاريخية هذين العنصرين، أما الوحش اليهودي فليس له مقابل تاريخية الحركة والإبداع سوى «الوعد». وما حاجة شعبٍ «بوعد» يملك عبره أرضاً، لو كانت له، هذان هما قطبا الصراع. وهمٌ وعدوانية عبّر عنهما «وعد» مقابل حقيقة وانفتاح ورسالة ثقافية عبرت عنها حركة شعبنا. وها هي آثاره تشهد على تاريخية حقيقته. بين حقيقتنا ووهمهم يكمن لبّ الصراع.

عندما نقول: «نحن سوريون، ننتمي إلى الأرض السورية والأمة السورية»، يعني أننا نقول بأننا قد نبتنا مع الصخور من هذه الأرض، عمرنا عمر صخورها، لم نتعايش مع صخور سورية وترابها بشكلٍ سلبي، بل حوّلنا هذا الموجود إلى حضارة، كانت دائماً تنهض من بين خرائبها التي يحدثها الغازي والمعتدي، وتكمل بناءها، وتتقدم إلى العالم بصورةٍ أبهى ومضمون أكثر عمقاً، بفعل استيعابه للتاريخ. كل حجرٍ في سورية، يقول إنه سوري وإننا سوريون، وهذه الـ»سورية» ليست «إسرائيل» ولن تكون، لأنها حقيقة تاريخية مادية ـ روحية، ولا يلغيها إسقاط «وعد» كاذب مشعوذ عليها.

إن أكثر ما يكون الوحش عدوانياً علينا، هو في موضعين: أطفالنا وآثارنا.

أما لماذا أطفالنا فلأنه يرى أنهم الكنعانيون الجدد الذين تعلموا ألا يقدموا لأحدٍ «قبراً» أو «بستاناً» أو «بئراً»، تعلموا أن تكون الأرض السورية وقفاً أبدياً للسوريين وللسوريين فقط. يعلم أن أطفالنا سوف يشكلون الجبل الذي أخذ حقيقة الفاجعة، وهو الأدرى بكيفية الرد.

أما لماذا أطفالنا، فلأنهم الطاقة التي يستودعها الزمن والثقافة القومية في المستقبل، الطاقة التي لا تزول. وأما لماذا آثارنا، فلأنها الشاهد على حقيقتنا وعلى وهمه، وكيف لا يحقد على آثارنا وهو لا يملك حتى حجراً واحداُ، حجر واحد يدل على أنه حقيقي في التاريخ. يهوّد ما وقع بيديه، يطحن ما لا يستطيع تهويده، يريد ألا تبقى سورية في التاريخ، عبر إبادة آثارها. ويكون بنظره قد أعاد البشرية إلى مربع البربرية الذي يقيم هو فيه.

هو يعرف أنه لا يمكن إقناع العالم بأن سورية الطبيعية هي «إسرائيل» بحسب وعد ربه الزنيم، وكيف تكون، وعلماء الآثار في العالم يقولون إن لكل إنسان في هذا العالم وطنان: وطنه وسورية.

كيف يمكن أن تكون هناك «إسرائيل» الكبرى، وثمة حضارة تعود إلى خمسة آلاف عام قبل أن يظهر ذاك البدوي التائه، راعي الغنم، موسى، على حواشي بلادنا. «وثمّة علماء تاريخ كمال الصليبي يقولون إنه أتى من جزيرة العرب». كيف يمكن أن تكون «إسرائيل» وثمة آثار منها ما ظهر ومنها ما هو تحت التراب، كلها تشير إلى حقيقة تاريخية ـ اجتماعية ـ حضارية. اسمها الأمة السورية وعلى أرض مقدسة اسمها سورية.

اليهودي يعرف، أنه يملك القنبلة النووية ولكنه لا يملك القوة الحقيقية، ذلك أن آثارنا تشكل خطراً على مشروعه يفوق مفاعيل القنبلة النووية.

آثارنا هي الجذور التي تربطنا بالتراب السوري ـ التاريخي. اليهودي يريد بتر جذورنا، وفصلنا عن نسغ التاريخ، وذلك بإبادة آثارنا. آثارنا التي تعبر عن ثقافتنا ـ رسالتنا في التاريخ.

طيارون يهود هم من قصفوا آثار بابل، الموساد هو من خطّط لطحن الآثار الآشورية وهو الآن يفعل الأمر ذاته في الشام. ليس مهماً من ينفذ الجريمة، بل بالعكس، الأفضل لليهودي أن يدمر الآخر آثاره بيده، كما يفعل مغول وتتار العصر الحديث.

ما من حربٍ اشتعلت في الأربعمئة سنة الماضية إلا وكان اليهود مسببيها ومستغليها ورابحيها. لديهم نقطة قوة هي جهلنا بهم وتصديقنا أن بين أيديهم كتاباً سماوياً، وأنهم «أبناء عمومنا» ومثل ذلك من خرافات وسمومٍ تعطل التفكير.

هم الخواء الثقافي ـ الحضاري، يسكبون في خوائهم كل نتاج «الأغيار» بعد تهويده. ونحن الامتلاء الحضاري ـ الثقافي. أخرجت «آلزهايمر اليهودي» من ذاكرتنا «من نحن؟» وبالتالي لم تعد آثارنا أمراً يعني هذا «الوعي» المشوّه المركون فينا بديلاً من النحن السورية الحقيقية.

الذي لم يستمع بالأمس لمن كشف عن حقيقة «نحن» القومية، هل يعني له اليوم، أن تهوي مطرقة بربرية ـ يهودية، تطحن شاهداً ـ أثراً يعلن أبدياً من نحن؟

الشعب الذي لا يهزّه تحطم فلذة ـ أثر من ذاته الحضارية، يهوي… هو حتماً سيهوي بعدها بقليلٍ إلى فوهة العدم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى