اليونان أول الغيث… أوراسيا قيد الولادة

ناصر قنديل

– من يقرأ تقرير الطاقة الصادر عن الكونغرس الأميركي لعام 2000 وما يتضمّنه من تحليل لمستقبل الرفاه الاقتصادي في الغرب عموماً وأميركا خصوصاً وعلاقته بمستقبل السيطرة على سوق الطاقة، وما أسّس عليه المحافظون الجدد في الفترة ذاتها مشروعهم المسمّى بزعامة القرن الواحد والعشرين، وما فيه من دعوة واضحة لشنّ حروب تتيح السيطرة الأميركية على منابع الطاقة واحتياطيات النفط والغاز وممرات وأنابيب نقل الطاقة، خصوصاً أفغانستان والعراق، سيقرأ في التقرير كيف أنّ الأولوية هي لحصار روسيا كمورد للطاقة ببدائل تنهي تحكّمها بتدفق النفط والغاز إلى أوروبا، وحصار الهند والصين بالسيطرة على موارد وخطوط نقل الطاقة المتلازمة مع تصاعد مستويات النمو والاستهلاك لديهما والقدرة على التحكم بالأسعار، بالتالي بمستويات النمو نفسها، ويقرأ أنّ عائدات الشركات العالمية الغربية الكبرى وحركة الاقتصاد العالمي واستطراداً مستوى رفاه الغرب اقتصاداً وشعوباً وشركات وقف على نجاح هذا المسار.

– ماذا لو لم ينجح هذا المسار؟ يحذر الباحثون الغربيون من تشققات ستبدأ بالظهور في المجتمعات الغربية، على ثلاثة أشكال، الأول هو بدء تشقق الكيانات الكبرى الجامعة للدول، التي ستفقد قوتها الصاعدة التي تشكل قاطرة أطرافها، فلا ألمانيا ستستطيع حمل أعباء دول أوروبا الفقيرة، ولا الولايات الأميركية الغنية ستستطيع حمل أعباء الولايات الفقيرة، والثاني هو التشقق داخل المجتمعات نفسها على أساس إتني وعرقي وديني وارتفاع نسبة التوترات فيها بضغط التزاحم على الفرص وازدياد ضغط الفرز بين المكونات، وتصاعد الشعور بالمظلومية والتمييز العنصري لدى الفئات التي تنتمي إلى الشرائح الأضعف في المجتمع، والتشقق الثالث، على أساس الانتماء إلى الطبقات ومستوى شعورها بالحماية الاجتماعية، والضمانات التي يفترض أنّ الدولة توفرها لمواطنيها على السواء.

– رسمت أميركا وسار وراءها الغرب وحلفاؤها في الشرق، خطة «الشرق الأوسط الكبير» و«الشرق الأوسط الجديد» و«الربيع العربي» وحرب سورية وعزل إيران وتحجيم روسيا وحصار الصين، وها هو القطار يقترب من خط النهاية، فروسيا يتعاظم دورها، والصين تقتحم أسوار الاقتصاد العالمي بقوة، وإيران تقترب من لحظة قطاف ثمار صمودها، وسورية تخوض حربها نحو النصر، وحلفاء واشنطن في الشرق يعيشون أسوأ أيامهم، من السعودية الغارقة في رمال اليمن، إلى تركيا المرتبكة بنتائج انتخاباتها، و«إسرائيل» العاجزة عن التحرك نحو أولوياتها، وحلفائها الأوربيين الذين ذهبوا بعيداً في خطابهم نحو التصعيد يحسبون ألف حساب للنتائج خصوصاً في فرنسا وبريطانيا، ويسعون إلى رسم خطوط حمراء لهيمنتهم على مستعمرات قديمة كانت قد بدأت تتجه نحو الاستقلال، فيما ألمانيا تقيم حسابات التوازن بين قطبين عالميين يحيطان بها روسيا وأميركا، فتبدو حجارة الدومينو التي تحدّثت التقارير الغربية عن تساقطها بالتتابع، قد انتقلت إلى الغرب، حيث حجارة الدومينو تتجه إلى التهاوي.

– على ضفة مقابلة تبدو روسيا وحدها تملك خطة سياسية متكاملة لرسم صورة العالم الجديد حيث الندية في العلاقات الدولية، والاحتكام إلى القانون الدولي وسيادة روح التسويات والحلول السياسية واحترام سيادة الدول وخياراتها المستقلة. وفي قلب كلّ ذلك مشروعها المثلث، كقوة أوروبية مجدّدة تتطلع إلى ثنائية أرثوذكسية كاثوليكية مع ألمانيا تجمع النهوض الصناعي مع امتلاك مخزون لا ينضب من الثروات الطبيعية، وإلى جانبها صياغة هوية إقليمية لأرثوذكس العالم المتمركزين في الشرق. وبعد ثالث لتكامل أوروبي آسيوي تشكل مركزه موسكو الأوروآسيوية بامتياز، وإلى جانبها تتقدّم الصين كقوة اقتصادية عملاقة تملك قدرة مالية متعاظمة، كنواة لنظام تجاري مالي جديد، تقدّم نموذجه مع بنك آسيا الدولي الذي يضع نفسه بديلاً للبنك الدولي بعد أن تحوّل إلى أداة للهيمنة الأميركية وإفقار الشعوب والدول. وتتقدّم إيران كقوة ضامنة للاستقرار في المنطقة المركزية في العالم المنتجة للطاقة والمتضمّنة أعلى الاحتياطات وممرات الناقلات والأنابيب، من بحر قزوين وأفغانستان إلى مضيق هرمز وخليج عدن. وتتقدّم سورية كنموذج للدولة المدنية القادرة على حماية التعايش الديني وخوض الحرب على الإرهاب نحو النصر بجدارة. ويتقدّم حزب الله نموذجاً لحركات التحرّر في القرن الواحد والعشرين ملهماً للشعوب الضعيفة مع وصفته الناجحة… المقاومة.

– في قلب هذا المشهد صوّت اليونانيون الأرثوذكس الفقراء الأوروبيون الواقفون على بوابة آسيا، على رفض شروط الدائنين الذين يتزعّمهم البنك الدولي ويتبنّى وصفتهم الاتحاد الأوروبي، بصورة وضعت مستقبل استمرار اليونان جزءاً من منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي على بساط البحث. والحدث الذي يعني الاتحاد الأوروبي ومستقبله بداية، في ظلّ أوضاع مشابهة لكلّ من البرتغال وأسبانيا وإيطاليا، يبدو أنه يعني روسيا والصين بنسبة أكبر، حيث تختبر روسيا مشروعها لتشكيل أوراسيا بحلقة وصل بين آسيا وأوروبا عبر مدّ اليد الأرثوذكسية لمساعدة اليونان، وتختبر الصين مشروعها بالبنك الدولي الجديد القادر على حلّ مشكلات البلدان النامية خارج وصفات الإفقار والتجويع. والقضية بسيطة أمام دولة متخمة بعشرة تريليونات دولار من الأموال النقدية، قضية جدولة ديون بمئة وخمسين مليار دولار يدين بها الاقتصاد اليوناني للدائنين بشروطهم من قبل البنك الدولي الجديد من جهة، وجدولتهم بطريقة يحتملها الاقتصاد والمجتمع في اليونان من جهة مقابلة. وربما تكون فرصة تحويل البنك الجديد إلى بنك أوراسيا وليس بنك آسيا فقط، وتمهيد للتفكير الهادئ بأنّ وقت صك عملة منافسة لليورو والدولار بمنطقة نقدية جديدة قد حان سريعاً، عملة تحمل اسم أوراسيا تستخدمها في التجارة الخارجية دول مثل روسيا والصين والهند وإيران واليونان وسورية والبرازيل وفنزويلا التي ضاقت ذرعاً بتقاسم أميركا وأوروبا لثروات الشعوب بقوة السيطرة على النظام النقدي والمصرفي، وهي دول تمثل في العالم من سوق النفط والغاز وحدها بيعاً وشراء أكثر من النصف، ومن عدد السكان قرابة الثلثين.

– اليونان أول الغيث لحجارة دومينو تتهاوى، وحجارة دومينو تتهاوى بالاتجاه المعاكس، فمن يسقط من هذه الشجرة ستتلقفه الشجرة المقابلة، والحبل على الجرار. وفي المنطقة العربية ستحدث غرائب وعجائب لا نتخيّلها، وبين الولايات الأميركية ستتصاعد نغمة انفصال يستبعدها كثيرون ويعتبرون الحديث عنها مجرد أحلام ليلة صيف.

– لا يريد الكثيرون تصديق حقيقة أن نظاماً إمبراطورياً يحكم العالم منذ الحرب العالمية الثانية يستعدّ للسقوط، وينسون ما كتبته وزيرة الخارجية الأميركية ومستشارة الأمن القومي الأميركي السابقة غونداليسا رايس في أطروحتها لنيل الدكتوراه عن أزمات الاتحاد السوفياتي التي كانت في رأيها ترسم سياق انهيار مقبل، وقد أقبل، حين قالت، إنّ الإمبراطوريات الكبرى حين تصير آيلة إلى السقوط يبقى هيكلها الخارجي متماسكاً، فحركتها نحو السقوط كحركة الطوفان والزلزال، لا تنبئ بقدومها ولا تحدّد له موعداً مسبقاً، إنها تسقط فقط ونعلم بسقوطها حين تسقط.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى