علي طليس… موهبة تخطّت التوحّد ليلمع نجمها في سماء الفنّ التشكيليّ

لمى نوّام

عيناه اللّامعتان كقوسِ قُزَح، تشعّ منهما ألوان الأمل والفرح. ابتسامته البريئة تُخبّئ خلفها شغفه الكبير بالرسم. إنّه علي طليس، شاب لبنانيّ في السنة الأولى بعد العشرين من عمره، ومصاب بالتوحّد. إلّا أنّه يصِف نفسه بالرسّام الكبير، إذ بدأت رحلته مع الرسم وهو حدث بعد. وبفضل احتضان والديه والمشرفين عليه في المدرسة التابعة لـ«الجمعية اللبنانية للأوتيزم ـ التوحّد»، والتي كان والده أحد مؤسّسيها، استطاع أن يتقدّم ويتطوّر، ويلفت انتباه نقيبة محترفي الفنون التخطيطيّة والرسوم التعبيريّة ريتا مكرزل، التي اكتشفته وساعدته حتى وصل إلى باريس، بعدما نظّم معارض في بيروت وحقّق نجاحاً لافتاً كفنان تشكيليّ موهوب، حتى أصبح في مخزونه الفني ستة معارض فرديّة، ويفخر الناس باقتناء أعماله الفنية. المعرض المنفرد الأول لعلي كان عام 2011، في «غاليري مارك هاشم»، وباع في هذا المعرض ما يُقارِب 90 في المئة من لوحاته، وجنى 24 ألف دولار أميركي، وتبرّع بنصف هذا المبلغ للمدرسة التي يتعلّم فيها، وسدّد بالنصف الآخر قسطه المدرسيّ.

درس علي في صغره في مدرسة «الليسيه عبد القادر»، في القسم المخصّص لمرضى التوحّد. ثمّ انتقل للدراسة في مدرسة «الفرير» في قسم «LIS» الذي تُشرِف عليه أروى حلاوي، رئيسة «الجمعية اللبنانية للتوحّد».

يُحبّ علي أن يتفنّن بالرسم. فهو يرسم الطبيعة والورود والأشجار والبحر والنجوم. كما يُحبّ فن الكتابة «تيبوغرافيا». ويملك حسّاً فنياً جميلاً، وهو متخصّص في أسلوب التنقيط. علي يحفظ جيّداً المشاهد وينفّذ بدقّة ما يراه، وهذه ميزة ينفرد بها مريض التوحّد كما قالت معلّمته ريتا مكرزل لـ«البناء».

بخطوة لافتة من وزارة الثقافة، إزاء ذوي الاحتياجات الإضافية، وتقديراً لموهبته وتفوّقِه في الفنّ التشكيليّ، كرّم وزير الثقافة ريمون عريجي في مكتبه في الوزارة الإثنين الماضي، الشاب المبدع علي طليس، من «الجمعية اللبنانية للتوحّد»، والذي يُعتبر رسّاماً من الطراز الأول. ومنحه عريجي «ميدالية وزارة الثقافة» التي تُمنح مرّة واحدة في السنة. وذلك بحضور مدير الشؤون الثقافية فيصل طالب، رئيسة «الجمعية اللبنانية للتوحّد» أروى حلاوي، مديرة «مركز الشمال للتوحّد» سابين سعد، نقيبة «محترفي الفنون التخطيطية والرسوم التعبيرية» ريتا مكرزل، الإعلامي عبد الغني طليس، وعائلة المكرّم.

وقال عريجي: «إنّ تقليد علي طليس ميدالية وزارة الثقافة لتفوّقه في الفنّ التشكيليّ، لهو تقدير لإرادته وجهده وفنّه الجميل، وتأكيد على أنّ في كل إنسان منّا طاقة، سواء كان إنساناً سويّاً، أم من ذوي الاحتياجات، حيث للقطاع العام والخاص والجمعيات المعنية دورها في اكتشاف الموهبة والطاقة، والعمل على تنميتها وتطويرها، لإن لا إنسان جاء إلى هذه الدنيا عبثاً».

ووجّه عريجي كلامه لطليس قائلاً: «وجودك معنا اليوم في الوزارة هو تكريم لنا، وستكون مثالاً يحتذى لعدد من الشباب الذين لديهم حالات خاصة، لحثّهم على الابداع والتفوق». كما نوّه بمساندة عائلة طليس ابنها والوقوف إلى جانبه وتشجيعه. متمنياً من كلّ عائلة لديها حالة مشابهة لوضع علي، التعامل معها بموضوعية وبوعي لأن التجارب أثبتت أن الأشخاص ذوي الصعوبات التواصلية والاحتياجات الإضافية، هم مواطنون فاعلون، وأن لا حاجز يقف أمام اندماجهم في المجتمع متى أُمّن الدعم المطلوب.

وأثنى عريجي على عمل كل الجمعيات المعنية في دعم ذوي الاحتياجات الإضافية، لا سيما «الجمعية اللبنانية للتوحّد» التي ساندت علي. وخصّ بالشكر «مركز الشمال للتوحّد» الذي له في قلبه مكانة خاصة، لدعمه الحالات الإنسانية بمختلف الوسائل.

وأشار إلى أن تعرّفه إلى طليس كان صدفةً، خلال رعايته مهرجان «لوّنها بتهون»، إذ لمس أن لدى الشاب طاقة مميزة ولا بدّ من تكريمه في وزارة الثقافة لتوجيه رسالة إلى كل من لديه حالة خاصة، بأنه قادر أن يكون عنصراً منتجاً وفاعلاً في مجتمعه كما صار علي اليوم، إذ وصل عدد معارضه الفردية إلى خمسة، وباستطاعته تأمين اكتفاء ماديّ ذاتيّ.

ولفت عريجي إلى أهمية رعاية شركة «آلفا» لعلي طليس ضمن برنامجها «آلفا من أجل الحياة» بإدارة «أوراسكوم للاتصالات» والجمعيات المعنية، من دون إغفال الطابع الإنساني الأهمّ، لأنه علينا التفاعل كبشر.

بدوره، كان للمكرّم طليس كلمة عفوية شكر فيها الوزير عريجي على التكريم والميدالية، كما شكر الجميع «لأن كل واحد منكم ساعدني حتى أصبح فناناً ورساماً كبيراً». وتوجّه إلى عريجي قائلاً: «أبي وأمي وأخوتي يفتخرون بي، ونحن نفتخر بك، أريد أن أقدم لحضرتك لوحة رسمتها أنا وعليها توقيعي، لتعلّقها في الوزارة أو أنى أحببت». فأعطى عريجي توجيهاته فوراً بأن تعلّق اللوحة في قاعة الاجتماعات في الوزارة.

رئيسة الجمعية اللبنانية للتوحّد أروى حلاوي، وبِاسم كلّ العاملين في الجمعية، شكرت عريجي لتكريمه ابن الجمعية علي طليس، ومنحه ميدالية الوزارة التي ستكون وساماً مميّزاً.

كذلك، اعتبرت مكرزل التي أشرفت لمدة خمس سنوات على تطوير قدرات طليس في الفنّ التشكيلي، أنّ الالتفاتة الكريمة التي قام بها عريجي في تكريمه علي، خطوة غير مسبوقة في تاريخ وزارة الثقافة، بالنسبة لذوي الاحتياجات الإضافية».

وفي تصريح لـ«البناء»، قالت مكرزل: «التقيت علي طليس منذ خمس سنوات في المعرض الذي نُظّم في قاعة ميوزيك هول، الهادف إلى دمج الأولاد والشباب ذوي الحاجات الإضافية بالمجتمع، إذ تعاونت مع الجمعية اللبنانية للتوحّد. حينذاك كان علي يرسم بقلم رصاص، لفتت انتباهي ضربة قلمه، فقّررت أن أعلّمه الرسم والتلوين، وجعلت من التلوين علاجاً لحالته. الفنّ علاج، خصوصاً أن مشكلة المتوحّد تكمن في التكرار والدوران في أرضه والانزواء. فقرّرت أن أعلّمه التنقيط بوانتيزم ، وأصبح علي متمرّساً في ذلك وتفوّق علينا».

وتتابع مكرزل: «علي يملك موهبة فذّة، وذوقاً خاصاً، ومجموعة ألوان في رأسه وعيونه بما يختص بالألوان باليت كولوري . فهو يجيد رسم البورتريه والوجه وينظر إلى العيون والوجه بنظرة خاصة كالتي يملكها بيكاسو».

وختمت: «علي موهبة مميّزة من لبنان، تستحق الدعم والتقدير».

بدورها، تحدّثت حلاوي لـ«البناء» قائلةً: «إنّ مبادرة وزير الثقافة الشخصية وتقديمه ميدالية السنة، أمر هام جداً. وساعد ذلك في اندفاع علي معنوياً ليكون مثالاً للأشخاص ذوي الاحتياجات الإضافية، خصوصاً المصابين بمرض التوحّد».

وأضافت: «التوحّد درجات، وعلي من النوع الخفيف، حالة علي مختلفة، وهو فنان موهوب. كما أنه مصاب بدرجة توحّد خفيفة. فهو يملك موهبة لافتة في الرسم. وتطوّرت موهبته بمساعدتنا كجمعية وبرعاية ريتا مكرزل التي صقلت موهبته وجعلتها تبصر النور وتبرز للعلن. أما بالنسبة إلى باقي حالات التوحّد، فهناك قسم كبير من المتوحّدين يمكن العمل عليهم، ولكل حالة أسلوبها الخاص. كما أشكر شركة آلفا تليكوم التي آمنت بموهبة علي، وقدّمت له الدعم ليستمر ويقيم معارضه الفردية الخاصة».

علي منهم!

تفيد بعض الدراسات أن غالبية عباقرة الفنّ والأدب، وبعضهم حازوا على جائزة «نوبل»، كانوا يعانون من خلل جيني في المخّ، ما جعلهم مرضى بالتوحّد، أو ما يُسمّى «مرض أسبرجر»، وهناك نحو 21 شخصاً من الكتّاب والفلاسفة والمؤلفين الموسيقيين والفنانين التشكيليين، يذكرهم التاريخ ويشير إلى أنهم كانوا يعانون من أعراض مرض التوحّد. وعلى رغم أنّ الفن وحده كان يمدّهم بعذابات ومتعات يتعذّر تفسيرها أو تبريرها، إلّا أنّ هذا المرض يُعدّ بحدّ ذاته الطريق الوحيد للوصول إلى قمة القدرة على التخيّل.

من بين هؤلاء العباقرة: موزار، وبيتهوفن، ومايكل آنجلو، وهيرمان مليفل، وإسحق نيوتن، وآينشتاين، وفان غوخ. فهل ينضمّ علي طليس إلى قافلة العباقرة؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى