«هنا ترقد الغاوية» لمحمد إقبال حرب… تنويعات على لحن مميّز

أيمن دراوشة

في مجال الرواية كما الحال في المؤلفات الموسيقية، دائماً هناك الفكرة الأساس، أو اللحن الأساس الذي يبني عليه الفنان معزوفته الأدبية أو الموسيقية.

وكلما تزايدت خبرته واتّسع نطاق تجاربه الإنسانية، تعدّدت أفكاره أو ألحانه، وتشابكت خيوطها، وتنوع بالتالي نسيجها الفني. فنراه قد أكسب روايته ملمساً جديداً في كل جزء من أجزائها، ومذاقاً مختلفاً.

وهذا ما فعله الكاتب محمد إقبال حرب في روايته «هنا ترقد الغاوية».

نظَّم الكاتب روايته أن أعطى كل باب من أبواب الرواية عنواناً جاذباً برَّاقاً بدءاً من العنوان الرئيس «هنا ترقد الغاوية»، ومروراً بعناوين أخرى «معبد منسيّ»، «ذات الخمار»، «جريمة شرف»، «حديث الوحدة»، وزيارة ملاك». ومن خلال هذه العناوين التي تضمنّتها الرواية، يطرح أمامنا القضية المركزية التي بنى عليها روايته، إنها قضية جرائم الشرف، القضية التي ما زالت تؤرّق المجتمعات العربية التي تحكمها عادات وتقاليد، هي بلا شك ضدّ المرأة التي ابتليت بتلك القضية، سواء كانت بريئة أم غير بريئة. فوصمة العار ستطاردها طوال حياتها، وربما بعد وفاتها أو قتلها بوحشية، لـ«غسل العار» كما يحلو للبعض أن يصف.

اللحن المميّز الذي يأسرنا في هذه الرواية، هو لحن الحبّ والحرمان والقهر والظلم بكل ما ينبض به من أسى وشجن، وما يفجّره من ذكريات مؤلمة ودموع غزيرة، يقدّمه لنا المؤلف في تنويعات أو معالجات مختلفة، من خلال علاقة العادات والتقاليد بظلم المرأة ووأدها.

سننتهج منهجاً اجتماعياً للدخول في خبايا هذه الرواية، وهو المنهج المفروض. أو بتعبير أدقّ، ما فرضه علينا النصّ نفسه.

يبدأ الكاتب روايته بذكريات بطل الرواية «آدم»، وكيف قُتِلت شقيقته أمام عينيه بوحشية، بدعوى «شرف العائلة وغسل عارها» لتُدفن في مكان «حقير»، بعيداً عن «الشرفاء والصالحين».

«الألوان تزداد عمقاً، والصوت يردّد كلاماً قالته أمه مذ كان يداعب الضفادع عند ترعة مجاورة لمنزله. كلام كانت توحيه في طفولته لم يدرك كنهه حينذاك. لكن في سردها الآن خبايا وحكايا. حكايتها بلا وجل بلا خوف من عقاب. مات سجّانها فارتخى حبل قيدها، بينما يعوقها قيد العجز….».

«العدل… نعم، هو العدل الذي تسعى إليه والدته، كما سعت إليه من قبلها أمل. نعم لا بدّ لأمّي أن تلتقي بأمل. تلك الزهرة التي قضت مقيّدة بخشبة المقصلة، بينما جوقة العازفين تنشد لحن غسيل العار. يومها كان عُرف غسل العار مقدّساً كما اليوم وأبداً. يومها كانت جريمة الشرف قدس الأقداس، ولم تزل أيقونة يعلّقها الشرفاء على صدورهم، تتغذى بدماء كريماتهم. في ذاك اليوم، أصبح والدي مفوضاً سامياً ينفّذ حكم مجتمع متخلّف قاس، لا يلتزم حكم الله أكثر من التزامه جاهليته…».

الرواية عبارة عن روايتين، رواية «آدم»، ومشهد قتل شقيقته بوحشية وذكرياته المؤلمة عن والدته، ورواية «صابرين» التي اغتُصِبت، لكنها لم تفقد عذريتها وعاشت حياتها مُعذَّبة خائفة من شبح هذا المغتصب اللعين حتى دخلت تحت الرعاية النفسية.

والشخصية الثالثة هي «هنادي» ابنة أخ «صابرين»، أما الشخصية الرئيسة الرابعة فكانت «تامر» شقيق «صابرين» ووالد «هنادي».

ومن الشخوص الثانوية، كانت شخصية «حودة»، الشاب اليتيم الذي تم تبنّيه على يد جدّ «صابرين». ومن الشخوص الثانوية أيضاً شخصية الطبيبين النفسيين، إذ اعتمد المؤلف على التحليل النفسي العميق لكل الشخوص، لا بل استشار أطباء أيضاً، وعاد إلى أكثر من مصدر ومرجع حول قضايا الشرف واضطهاد المرأة وهضم حقوقها، كما يبدو أنَّ المؤلف قد قابل أشخاصاً مثل شخصية «صابرين»، الفتاة المغتصَبة البريئة.

لقد نجح الكاتب في تصوير الجوانب النفسية والإنسانية لشخوصه من خلال تحرّكاتهم وتصرّفاتهم، وترك الشخوص تحلل نفسها بنفسها سواء بالكلام أو الحركة أو التصرّفات، وكذلك تصويرهم من الداخل والخارج.

ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: «ارتجت في داخله… القبيلة التي تربى عليها وهزّته ارتجاعات مواقف مماثلة لأناس وقفوا شامخين عندما غسلوا شرفهم بدماء أخواتهم، وتمتعوا بتصفيق المنافقين والمتزمّتين… سطوة على نساء هُنَّ أمّهات وأخوات، مدرّسات وعالِمات… هُنَّ من يرفعن شأن أمم ويضعن أخرى بما ينشئن من أجيال…».

كما تأثر الكاتب بالواقعية المعاصرة في تصويره جريمة الشرف، بصراعاتها وهمومها وطموحاتها ووسائلها، لتحقيق حياة أفضل في ظلّ متغيّرات العصر وإشكاليات الواقع الاجتماعي للعالم العربي، من خلال انحلال المجتمع بكلّ طبقاته الفقيرة والغنية والحاكمة والمحكومة. وهذا ما هدف إليه من خلال خطابه الروائي بتصوير واقع المرأة المرّ قديماً وحديثاً، حتى بعد الرسالة المحمدية التي كرّمت المرأة وساوت بين الرجل والمرأة في مسألة الثواب والعقاب.

لماذا يتم الاقتصاص من المرأة بالذات؟ فيما يذهب الجاني ليبحث عن فريسة أخرى بعدما يكون قد نال كلّ عبارات الفخر، كالـ«فحولة» و«زير النساء» و«الرجولة» وغيرها من الألفاظ المتخلّفة، والتي تزيد من امتهان المرأة وسهولة النيل منها.

لقد مثّلت لنا الرواية واقعاً معيشاً، ونقداً لاذعاً للمجتمعات، متّخذةً شكل التراجيديا أو المأساة.

يطلق الكاتب لمخيّلته العنان في رسم شخوصها بدقة وتفصيل من خلال مواقف عدّة. ولا شك أن الرواية تعجّ بالواقعية المعاصرة، وفيضان الحوادث وتفصيلاتها، إضافة إلى كثافة الشخوص وطول الرواية.

وما يميّز الرواية، تنويعات المؤلف في الأسلوب وذلك بتحوّله من أسلوب السرد إلى أسلوب الحوار. ما أبعد الملل عن القارئ. فيما سارت الأحداث في الرواية بصورة منطقية، وتطوّرت بحيث حقّقت التشويق في أبعد صوَره. فهناك مواقف كثيرة تجعلك تقفز من مقعدك فيما لو كانت فيلماً سينمائياً، خصوصاً المشهد السينمائي الأخير، حيث تتفجّر لنا مفاجآت لم تكن في الحسبان، وتضعنا في حالةٍ من الترقب والقلق في آنٍ، لا يسعني المجال لكشفها حتى لا أُفْقِد الرواية متعتها ورونقها.

أقام الكاتب روايته على صراعات داخلية بين ماضٍ أليم ومستقبل مجهول، من خلال لغة رقيقة شفافة ـ «يكاد سنا برقها يضيء» ـ فجاءت الأحداث متماسكة ومتشابكة في الوقت نفسه. ورواية محمد إقبال حرب لا نستطيع تلخيصها لكثرة شخوصها وأدوارهم المختلفة. فلكلّ شخصية من شخصياتها قصّة على حدة، لتتّحد بطريقة عبقرية في نهاية القصة عند التقاء أبطالها في مكان واحد.

تأتي أهمية رواية «هنا ترقد الغاوية» في ظلّ تصويرها الصادق المجتمع المغلق الفارغ الذي يعيش في التردّي، والتمسّك بعادات وتقاليد بالية، وتسجيل حقائق الواقع وسلبياته إزاء المرأة بطريقة جليّة، من خلال طرح معاناة شخوصها وحلم كلّ واحدٍ منها.

وفي تركيز وعنف شديدين، يختم المؤلف روايته بنهاية غير متوقّعة وبتصوير سينمائيّ دقيق ومبهر… هذا الربط بين الشخوص لم يكن مصطنعاً، إنما كان بقدرة الكاتب على جودة السبك وبناء الرواية من خلال بنية تحتية يصعب هدمها.

في الحدث المرتبط بالشخصية نجد الشخصيات، وقد تنامت بعد سكون وسلبية: «هنادي»، «صابرين»، «آدم»، وبعد تفكير واستغراق في صراع الذات حتى انتقالها إلى مرحلة الحركة والفعل، ومصدر هذا السكون أن الشخصية تجابه واقعاً من نوع خاص، أو قدراً لا مفرّ منه، والاستسلام لقضائه. وتتمثل هذه القدرية في تقاليد المجتمع وعاداته وغلط العلاقات الاجتماعية السائدة فيه، بكل ما تفرضه من سدود وقيود تكبّل هذه الشخصيات، وتحدّ من قدرتها على الحركة والفعل.

هذه القيود هي نظرة المجتمع إلى المرأة الغاوية أو غير الغاوية. ولهذا، تعيش المرأة في عالم مليء بالقيود والسدود التي تقف حائلاً أمام تحقيق الذات. وعلى رغم وعي هذه المرأة مأساتها، فإنها تطوي الصدور على صنوف المعاناة في سلبية تامة، وتُغرق نفسها في بحر من الدموع واليأس، تشكو في استسلام، وتستمرئ عذاباتها من دون أن تسعى أو تفكر في تغيير ملامح هذا الواقع المرير، أو اجتياز تلك السدود وتحطيم ما يكبّلها من قيود.

تقول «صابرين»، بطلة الرواية والتي تعرّضت للاغتصاب والتي لا تخرج عباراتها عن تخلّف المجتمع العربي وقيوده: «أخاف أن أموت فيكتب الناس على ضريحي: هنا ترقد الغاوية، غاوية تحيك حبال غيّها للرجال كالأرملة السوداء. لا بل سيكتبون: هنا ترقد الزانية. نعم… لن يكتبها شخص واحد، إنما كلّهم سيكتبون معه بإفكهم: هنا ترقد الزانية».

وختاماً، لقد استطاع مؤلف الرواية أن ينقلنا إلى قلب الحدث، موظّفاً تقنيات علم النفس وتقنيات الأدب وفنونه لينسج لنا خيوط روايته، متجاوزاً ظاهرة السرد المعتاد إلى ظاهرة التنويع بالاتصال والانفصال وحوادث متسارعة مفاجئة.

دقّ أسلوب الكاتب لحناً عذباً قَرَّبه من الشعر المنثور الذي يلائم طبيعة الموضوع. والواقع أن ما يأسرنا إزاء هذه النصوص التي اتخذت عناوين مختلفة، ليس مجرد رقّة الألفاظ وعذوبة العبارات، وإيقاع الكلمات بما تشعّه من موسيقى داخلية، إنما ما يعنينا أكثر من ذلك، تلك الصور الجزئية التي رسمها الكاتب ببراعة الفنان الحاذق، إذ تجسّد بها الموقف وتكثّف بها الإحساس.

ناقد أردني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى