قراءات ثلاث في «حلوى الأعياد»… دراسة تأويليّة نقديّة في نصّ الشاعر العراقيّ هاني عقيل

ليندا نصّار

لا شكّ أنّ النصوص الحديثة لا يمكن تأويلها والاحتفاء بها إلّا من خلال استقراء رموزها التي تكمن في عمق مفرداتها فتفرض تأويلاً خاصّاً على الناقد. ولا يسمّى حكماً نقدياً نهائياً. إذ إنّ لكلّ إنسان رؤى خاصة ينطلق منها لتحقيق الدراسة وفهم المعنى والمقصود من خلال القصائد. إنّ طبيعة العمل النقدي والبحث المعمّق في أبعاد القصيدة، يضعانا أمام بوّابة واسعة إذا شرّعناها، نستطيع اكتشاف آلية النصّ ورموزه فنصبح جزءاً من دائرة الإبداع الحديث. من هنا وقع الخيار على نصّ «حلوى الأعياد» للشاعر والناقد العراقي هاني عقيل، وسيُدرَس على طاولة القراءات الثلاث للولوج في معناه ومبناه وإيقاعه.

ـ النصّ «حلوى الأعياد»:

في الذاكرة طفل ينام

وحشو وسادته ريش النعام

وتحتها أخفى الكنوز أسمالاً مرتقةً وبعضاً من كلام

العيد أقبل يا سلام

وغداً ستشرق شمسنا كي تملأ الفلوات حلوى

ماضرها إن كان سناؤها نوراً وحلوى

كيما أنام كيما أرى أمي في كفها

كسرة خبزٍ طازجٍ فيه شيء من طعام

وأرى أبي نضَّ التراب

واستحال القبر أحلى حلّة أزهى الثياب

قد أطال رقوده فمتى القيام؟

قد مللت الضربَ برحاً من قفا ومن أمام

ماذا يسمّى العيد إن زارني وأنا يتيم

في مهجعٍ يدعونهُ ظلماً وغدراً ملجأ الأيتام

ـ القراءة الأولى: خلال القراءة التأويلية للكشف عن أبعاد النصّ، نلمح العمل الواعي الذي يستحضر أشياء من الذاكرة. إذ يبدأ النص بـ«في الذاكرة» ويظهر العمل المنطقي المتسلسل الذي يؤكّد تأثّر الشاعر بالوضع الراهن، بما فيه من ألم وحرقة وحرمان. فكان لا بدّ لنا من دراسة مقارنة للمعجم الذي يدلّ على المرحلة الانتقالية بين حالتين متناقضتين وزمنين مختلفين على الشكل التالي:

الحالة الأولى: معجم فرح الحياة: طفل، نوم، كنوز، العيد، سلام، نور، حلوى…

الحالة الثانية: معجم الحزن والموت: ملجأ، أبي، التراب، القبر، ضرب، يتم…

في الذاكرة طفل ينام

وحشو وسادته ريش النعام

وتحتها أخفى الكنوز أسمالاً مرتقةً وبعضاً من كلام

تكشف هاتان الحالتان عن تساؤلات معمّقة نابعة من الظلم والحرقة والألم. في الحالة الأولى تبدو لنا الحياة بكل ما فيها من راحة وسلام أثناء الأعياد. إنّه طفل يتنعّم بالراحة في بيت أهله، وهو محاطٌ بكلّ ما يحتاج إليه من أمان وسلام. أمّا الحالة الثانية، فهي انتقال من الزمن الماضي إلى الزمن الحاضر، أي من البيت والأمان إلى الملجأ واليتم. وتأتي مفردات المعجم لتؤكد ذلك: الأب في التراب، وهنا الموت والابن في الملجأ أي اليتم والضرب… فالكنوز تحوّلت من البيت إلى التراب بعد وفاة الأب:

وأرى أبي نضَّ التراب

واستحال القبر أحلى حلّة أزهى الثياب

قد أطال رقوده فمتى القيامْ؟

نحن نعلم أنّه لطالما كانت صورة الأب تهامس رؤى الطفل. وقد تدلّ صورة الأب على أيّ راعٍ يسوس رعيّته، وفجأة يفقد فيُشرَّد أبناؤها. وتجدر الإشارة إلى أن للنصّ أبعاداً أخرى. فقد يكون اليتم نفسياً أحياناً، وهو نتيجة الوحدة والفراغ والمعاناة التي يعيشها الإنسان في ظلّ الأوضاع المؤلمة.

لجمالية الانزياح التي حفل بها النصّ أثر كبير في اختيار النصّ للدراسة، فهو يثور اللغة بتراكيب جدّية رائعة من خلال استحالة القبر «أحلى حلّة أزهى الثياب» ولا يخفى ما لهذه الصورة من جمال انزياح وإيقاع واضح.

ـ القراءة الثانية: في القصيدة كما سبق أن ذكرنا، أبواب تحثّنا على الولوج إلى المعاني التضمينية. في هاتين الحالتين المتعارضتين فُرض التعارض في الصور الشعرية أيضاً. على سبيل المثال عندما ذُكرت الكنوز وهي دلالة الثراء، انتقل الشاعر إلى ذكر التراب. وفي الكنوز والتراب استلهام للتاريخ. فإذا عدنا إلى الوراء نجد أنّ الكنوز تكون مخبّأة تحت الأرض في الممالك القديمة، وما زال البحث والتنقيب عنها ساريين حتى اليوم. وهنا يتدخّل اللّاوعي وهو نتيجة جهد وقراءات ومعرفة كبيرة لدى الشاعر والناقد هاني عقيل. فيظهر اطّلاعه أيضاً على الأطياف الشعرية المتنوّعة، والدليل على ذلك أن قصيدته تحمل أكثر من معنى ومبنى، وهو غنى أضافه الشاعر إلى الشعر:

كيما أنام كيما أرى أمّي

في كفها كسرة خبزٍ طازجٍ

فيه شيء من طعام

ويبدو جليّاً أن الشاعر عمد إلى بناء نصّه وفق شبكة متسلسلة للعبارات فرضت الانتقال من الحالة الأولى إلى الحالة الثانية. نعني من الحياة إلى الموت ومن الأمان إلى التشرّد. كما أن هندسته البنائية قدّمت لنا رؤيته التراتبية في تداعي الصور الشعرية في بناء نسق جمالي للنصّ. فقد نجح الشاعر هاني عقيل في بناء تلك الأنساق الحرة بموازاة الإيقاع الباذخ الذي أتحفنا به:

العيد أقبل يا سلام

وغداً ستشرق شمسنا

كي تملأ الفلوات حلوى

ماضرها إن كان سناؤها نوراً وحلوى

إنّ بناء النصّ وفق رؤى الفلسفة العميقة، كان أدعى لنا من تناوله فهو يورد ثيمة الشمس الكونية على غير حقيقتها. فهي لا بدّ أن تهب الضوء والحلوى وهو انعكاس لأكثر من حقيقة، فقد تكون الشمس هنا الأمل الذي يبزغ على كل مظلوم وقد تكون الثورة التي تهبنا الكنوز.

ـ القراءة الثالثة: تسير هندسة النص وتشكيلاته الإيقاعية على نحو متواز مع المعنى، ما ساعد على بثّ الجمالية أكثر في بنائه وأطلق أبعاداً تنقل المتلقي إلى تلك الحالات التي سبق أن درسناها.

إنّ التفعيلات أبرزت موسيقى النصّ وجعلته قريباً من أذن القارئ. استطاع الشاعر اختيار طيف التفعيلة وهو طيف حرّ متنوّع الضربات الإيقاعية. فلقد شدّنا الإيقاع الباذخ في النصّ والمنظومة الموسيقية التي أبهرتنا بانسيابية الحركة والصوت.

من الملاحظ احتفاء النصّ بإيقاع داخليّ من خلال التراكيب والجمل التي أوردها الشاعر منها: أخفى الكنوز، استحال القبر، أحلى حلّة، نوراً وحلوى، كيما أنام. وهو يورد التكرار الإيقاعي مع التكرار اللفظي في قوله:

كيما أنام كيما أرى أمي

في كفها كسرة خبزٍ طازجٍ

فيه شيء من طعام

وقد يطرح تساؤل من أين لهذا النصّ بكل هذا الإيقاع؟ هل هي التفعيلة أم التراكيب أم اللغة الحقيقة؟ حالة تشير إلى قدرة الشاعر على بناء التفعلية مع القافية، المتمثلة بحرف الميم ذي الايقاع الفخم، وهو طيف شعري قلّما نجده في الساحة الأدبية. فكما نعرف أن التفعيلة تحتفي بقافية متنوّعة، لكن أن يثبّت لها قافية موحدة وبهذا الشكل السلس، هذا ما يحسب للشاعر في قدرته على أن يختطّ له أسلوبيةً بنائية وإيقاعية خاصة به:

قد مللت الضرب برحاً من قفا ومن الأمام

ماذا يسمّى العيد إن زارني وأنا يتيم

في مهجعٍ يدعونه ظلماً وغدراً ملجأ الأيتام؟!

ختاماً، نقول إنّ هاني عقيل يحمل قلماً باتجاهين وبعدين، هما: الناقد والشاعر. وقد استطعنا من خلال القراءات الثلاث أن ندرك صدقه وإحساسه من خلال هذا الإبداع الجليّ في حروفه. ويبقى من الحقّ أن نقول إنّ القراءات الثلاث طريقة نقديّة تحتفي بالنصوص بدقّة وتعطيها حقّها، ما يسهّل تقديمها وعرضها للمتلقّي، وقد ساعدنا نصّ الشاعر والناقد هاني عقيل في تحقيق الهدف من هذه الدراسة التأويلية للكشف عن الأبعاد المنشودة في القصيدة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى