الشعر على الشعر: حرّية الشاعر… سلطة اللغة

منصف الوهايبي

تستوقفنا في الشعر الحديث قصائد كثيرة، لا موضوع لها سوى الشعر نفسه. نجد هذا عند كلّ شعراء العربيّة المعاصرين: السيّاب وأدونيس ونازك الملائكة والبيّاتي وسعدي يوسف ومحمود درويش ومحمّد بنّيس وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ويوسف الصائغ وسامي مهدي والمقصود في السياق الذي نحن به، «فعل الشعر» نفسه لا موضوعه، أو الشعر من حيث هو غاية أو قيمة في ذاته أو «الشعر على الشعر». والحقّ أنّ هذا موضوع قديم، لا بل ضارب في القدم.

وفي الشعر العربي الكلاسيكي، تستوقفنا مثل هذه «اللغة الواصفة» التي تشير إلى تفكير الذّات المتكلّمة في خطابها ورؤيتها له وطريقتها في أدائه. والإشارات إليها في شعر الجاهليّين والمحدثين، أكثر من أن نحصيها في حيّز كهذا. فقد روي عن امرئ القيس «المشهور بالذائد» وهو آخر غير صاحب «قفا نبك» قوله:

أذود القوافيَ عنّي ذيادا

ذياد غلام جريء جَرادا

فلمّا كثرن وعنّينهُ

تخيّرَ منهنّ شتّى جيادا

فأعزلُ مرجانها جانبا

وآخذ من درّها المستجادا

وهي أبيات من الشّعر الذي عالجه القدامى في حديثهم عن الصنعة الشعريّة، وما سموه بـ«تنقيح» الشّعر و«تثقيفه» و«تحكيكه» و«تجويده». وقد ذكروا غير واحد من هؤلاء الشعراء «عبيد الشعر» الذين كانوا يثقّفون شعرهم مثل زهير والنابغة والحطيئة وطفيل الغنوي الذي كان يسمّى بـ«المحبّر»، والنمر بن تولب الذي سمّاه أبو عمرو بن العلاء بـ«الكيّس» وسويد بن كراع. وأوردوا شواهد كثيرة قد تكون أمسّ بالكتابة التي تتملّى ذاتها وتتدبّر لغتها وتكشف عن جوهرها في اللحظة ذاتها التي تتوارى فيه خلف ما تكشفه وتصرّح به أو تومئ إليه.

ولعلّ مصطلح «الصنعة» التي وسم بها هذا الشّعر المنقّح ـ وهي ليست صنعة المحدثين ـ أن تثبت نسبه إلى الكتابة التي لا تعني الخطّ ضرورة، إنّما بنية النصّ. فكلّما كانت مفاضلة بين الكلمات أو موازنة كانت كتابة، إذ يمكن أن تشطب الكلمة، ما أن تدوّن، وتطرح وتستبدل بأخرى. وهذا صنيع لا يتسنّى إلّا في الكتابة وليس له مقابل في الأداء الشفهيّ إلّا إذا دوّن. بَيْد أنّ حقّ رواة الشعر عند العرب، في تنقيح الشعر وتقويم ميله وسناده ـ وقد أقرّوا لهم بذلك ـ قد ينمّ على إثر الكتابة في نوع من الأداء الشفهيّ وإن كان هذا الأداء لا يرتقي بأيّ حال محلّ النصّ المكتوب ولا يعدو كونه من الأدب الشفويّ الذي تأثّر بالكتابة في مجتمع عرفها بنسبة أو بأخرى.

أمّا الكتابة «الخالصة» فهي صناعة. ولا يمكن لمن يكتب إلّا أن يصنع ويصحّح ويزيل. ولكن ما يعنينا من هذا «الشعر على الشعر» أنّ الشاعر ليس مطلق الحريّة في انتقاء الكلمات وتخيّرها وتركيبها، كما يوهم بذلك إدلاله بقدرته وفرط تدلّهه بنفسه فهذا من مقتضيات الفخر ليس إلّا. وهو الغرض الذي تنضوي إليه الأبيات التي تمثّلنا بها.

يصدر الشاعر في انتقائه الكلمات عن الثروة اللغويّة التي يمتلكها ومخاطبه كلاهما. وهو من ثمّة، ملزم أن يستعمل الدليل اللغويّ المشترك. وقد يوهم الانتقاء من حيث هو استبدال كلمة بأخرى، بحرّية ما، والحقّ أنّ الانتقاء والاستبدال وجهان لصورة واحدة. ذلك أنّ العلامة اللغوية تقتضي طريقتين في التنظيم هما: الموالفة والانتقاء، وأنّ تأويل العلامة محكوم بمرجعين: مرجع الدليل ومرجع السياق سواء كان «مقنّناً» أم حرّاً مرسلاً. وفي الحالين، فإنّ العلامة تتعلّق أبداً بمجموع آخر من العلامات، أي بِصلة تناوب في حال الدليل أو بِصلة تجاور في حال السياق. فإذا كان الشاعر في هذا «الشعر على الشعر» يستبدل علامة بأخرى، فإنّ أثر الأولى المنحّاة لا ينقطع ولا يزول، لا بل إنّ معنى الثانية السياقيّ موسوم في جانب منه، بِسِمة الكلمة الغائبة أو بِسلطة أخرى منظورة قد تكون سلطة المخاطب.

يقول سويد العكليّ:

أبِيتُ بأبوابِ القوافي كأنّما

أصادي بها سِرباً من الوحش نُزّعا

وجشّمني خوف ابن عفّان ردّها

فثقّفتها حوْلاً حَريداً ومربعا

وقد كان في نفسي عليها زيادة

فلمْ أرَ إلّا أن أطيع وأسمعا

وهي قصيدة، يتوجّه فيها الشاعر إلى مخاطب مخصوص عالم بالشعر متضلّع فيه، فلا غرابة أن يفيض عليه حياة تجعله حاضر المثال، حيّ الصورة، وأن يثقّف قصيدته ويسوّيها ويقوّمها على طريقة متوازية حتّى يستقيم أمرها على الجادّة التي ينشدها الممدوح من جهة، وتشهد لحذق صاحبها وحسن تهذيبه، من جهة أخرى. وقد يكتنه الخطاب في هذا النصّ، على ضوء التقبّل من حيث هو مفهوم جماليّ يتّسع لشتّى المواقف المزدوجة أو المختلفة التي هي في البيتين محصّلة مشادّة بين «الكتابيّ» و«الشفهيّ».

وربّما كان هذا الخطاب أمسّ بالشفهيّ، كما يدلّ على ذلك قوله: «فلم أرَ إلّا أن أطيع وأسمعـا». و«ثقافة القصيد» في هذا السياق، إنّما هي ثقافة الذاكرة، أو «ثقافة الأذن» أيضاً، إذ كلّ سمع وطاعة، أو هي، في معنى أوسع وأرحب، ثقافة السلطة والتقليد والوثوق التي تلزم الشاعر أن يقدّ قصيدته على طريقة عقلية متوازية فلا يُنْميها ولا يزيد فيها استرسالاً إلى طبع أو إرسالاً على سجيّة. ولذلك يكون من التعسّف أن نعدّ مثل هذا الخطاب الذي يتكبّد صاحبه اللغة، وكأنّ الكلام يدرك بعضه دون بعض، قائماً بمقوّمات الكتابة الخالصة فلم يتمّ في العصور الوسطى، إحلال الكتابة والقراءة محلّ الكلام والسماع، ولا كان بميسور الكتابة أن تسلب الشاعر قدرته من حيث هو منشئ/ منشد، ولا القارئ من حيث هو متقبّل/ مستمع. وفي السياق ذاته، يمكن أن نقرأ إشارات أخرى كثيرة يتضمّنها هذا النوع من الخطاب، وهي إشارات جاء بعضها منظوماً، وبعضها منثوراً. ومنها قول إدريس ابن أبي حفصة:

وأنفي الشعر لو يلقاه غيري

من الشعراء ضنّ بما نفيتُ

وإليه تُنسب الكلمة المأثورة «قول الشعر أشدّ من قضم الحجارة على من يعلمه».

ومن هذه الإشارات، قول بشّار وقد سئل: «بم فُقتَ أهلَ عمرك، وسبقت أهل عصرك في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه؟ فقال: لأنّني لم أقبل كلّ ما تورده إليّ قريحتي، ويناجيني به طبعي، ويبعثه فكري، ونظرت إلى مغارس الفطن، ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات، فسرت إليها بفهم جيّد، وغريزة قوية، فأحكمت سبرها، وانتقيت حرّها، وكشفت عن حقائقها، واحترزت عن متكلّفها ». على أنّ في بعض هذه الإشارات ما يدلّ على أنّ «الشعر على الشعر» كان محكوماً بقوانين الكتابة وإكراهاتها وما تقتضيه من تأنّ ومراجعة دائبة، خصوصاً عند شعراء القرنين الثاني والثالث للهجرة. فقد روي أنّ منصوراً النمري قال لأبي العتاهية: «في كم تقول القصيدة وتحكمها؟ قال: ما هو إلّا أن أضع قنّينتي بين يديّ حتّى أقول ما شئت. قال: أمّا على قولك: ألا يا عتبة السّاعة فأنت تقول ما شئت. ولكنّني ما أخرج القصيدة إلّا بعد شهر حتّى أمحو بيتاً وأجدّد بيتاً ثمّ أخرجها».

وروى الناجم الشاعر أنّه دخل على ابن الروميّ، قال: «فوجدت بين يديه قصيدة طويلة جدّاً فعجبت من سرعة عمله وقلت: أعزّك الله متى عملتها؟ قال: الساعة. قلت: وأين مسوّدتها؟ قال: هي هذه. قلت: وما فيها حرف مصحّح؟ قال: قد استوت بديهتي وفكرتي، فما أعمل شيئاً فأكاد أصلحه». وواضح من هذه الرواية أنّ النصّ «مسودّة» تكتب ابتداء بقصد المراجعة ـ قبل أن يستوي «مبيّضة» ـ ويجرى عليها على ما يجرى من تصحيحات، ويغيّر فيها ما يغيّر. وابن الروميّ ـ على رغم استغراب الناجم الشاعر ـ لا يخرج عن هذا التقليد.

إذا عزلنا جانباً ما جاء منثوراً من هذه الأقوال، إذ لا يعدو كونه «شهادة» يدلي بها الشاعر في فنّه، وحصرنا الموضوع في ما جاء منظوماً من هذا «الشعر على الشعر» فإنّ أهمّ ما نخلص إليه أنّ النصّ إذ يحيل على بنيته أو على قواعدها أو بعضها، هو «القول» و«مَقوله»، في الآن نفسه، مثلما هو «القول» الذي يستوفي شروط عمل القول. وزمانه ليس إلّا زمان إجراء القول، وحضوره من حضور المتكلّم الماثل في كلّ حلقة من حلقات الخطاب.

نعود لنذكّر بما أثبتناه من أمر الحرّية المتاحة للمتكلّم أو للمنشئ وهو يثقّف قصيدته وينقّحها، ويصحّح فيها ما يصحّح، ويغيّر ما يغيّر، فهي حرّية تتفاوت بتفاوت قواعد الموالفة أو«النظم» بالمعنى البلاغي عند الجرجاني، أو «قمع» اللغة أو سلطتها واللغة «فاشية» كما يقول بارت، عن حقّ وقد تقول بنا أكثر ممّا نقول بها.

كاتب تونسيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى