عودة زعيم الحزب إلى الوطن… قائدٌ هزّ كيان الدولة اللبنانية برموزها وقتذاك

إعداد: لبيب ناصيف

ما من أحد منا يجهل أن سعاده عاد من مغتربه القسري في 2 آذار 1947، وأن مطار بيروت في منطقة بئر-حسن، شهد حشداً غير مسبوق أذهل بشارة الخوري ورياض الصلح اللذين كانا يراقبان سيل القوميين الاجتماعيين يتدفقون من كل أنحاء الوطن لاستقبال زعيمهم. وكان هذا دافعاً للتعجيل في تنفيذ المؤامرة الصهيونية المطعّمة من قوى عالمية وعربية لتصفية سعاده.

كثيرون من الأمناء والرفقاء كتبوا عن هذا الاستقبال التاريخي، وكتاباتهم تشكّل مصادر لتاريخ تلك المرحلة، منهم:

– الأمين عبدالله قبرصي في عبدالله قبرصي يتذكر».

– الأمين يوسف الدبس في في موكب النهضة».

– الأمين مصطفى عبد الساتر في أيام وقضية».

– الأمين أديب قدورة في حقائق ومواقف».

– الأمين إبراهيم يموت في الحصاد المرّ».

– الأمين شوقي خير الله في مذكراته.

– الأمين نواف حردان في الجزء الأول من على دروب النهضة».

– الأمين هشام شرابي في الجمر والرماد».

– الرفيق أنور فهد في أيام من الذاكرة».

– الرفيق علي حمزة في مذكراته.

ومن خارج الحزب، كتب سياسيون ومؤرخون، سوريون وأجانب، منها كلها اخترنا ما يلي:

الأمين نواف حردان

بعد أن يعرض لتجمع الباصات والسيارات التي انطلقت من مرجعيون، وصولاً إلى النبطية حيث كانت القوى الأمنية اعتقلت الرفيق المناضل محمد أمين صباح 1 فسعى مع الضابط المسؤول في المخفر للإفراج عنه وقد تمّ ذلك، يروي الأمين نواف حردان في مؤلفه على دروب النهضة» بدءاً من الصفحة 163، التالي:

تابعنا سيرنا بعد ذلك إلى بيروت… وسط تعالي الهتافات والحداءات والأناشيد القومية المرتفعة تشقّ عنان السماء. وعندما بلغنا مدخل بيروت الجنوبي، وجدنا رفقاء لنا ينتظروننا بإيعاز من المركز الموقّر، فساروا أمامنا بسياراتهم.

وراح موكبنا يشقّ شوارع المدينة، إلى أن التقى بمواكب أخرى عديدة، من الشوف والغرب والمتن وصور وصيدا ومناطق أخرى، أخذت تزحف نحو المطار في جو عابق بالحماس والعز، والنفوس يغمرها الإيمان، والقلوب تخفق بالشوق العارم الذي ليس له حدود، للقاء الرجل العظيم الحبيب المفدّى، باعث نهضة الأمة، الذي نذر نفسه لها وأقسم أن يقودها إلى النصر، وأقسمنا له يمين التأييد والولاء، واخترناه لكي يكون لنا قائداً وهادياً وزعيماً.

وكنا كلما اقتربنا من المطار… كلما انضمّت إلينا مواكب أخرى آتية من كل أنحاء الوطن الكبير… من الشام وحمص وحلب وحماه واللاذقية وحوران ودير الزور… والقدس وحيفا ويافا وعكا… والأردن والعراق… وكل أنحاء لبنان…».

مواكب عديدة ومئات القوافل من السيارات الكبيرة والصغيرة تقلّ ألوف القوميين الذين كانوا ينشدون ويحدون ويهتفون، فتهتز بيروت كلها لهتافاتهم وأناشيدهم التي تمجّد النهضة وتبعث الحماس وتغذو العز والإيمان، وتناجي الزعيم الكبير العائد.

وصلنا المطار أخيراً… فانتشر ألوف القوميين على جانبي الطريق القريب المؤدّي إلى مدخل المطار، تحت إشراف عمدة الدفاع التي كان يتولاها الأمين جورج عبد المسيح، وبعد دقائق بدأت الطائرة التي تقلّ الزعيم والآتية من القاهرة تحوم فوق المطار لتتعلق عيون القوميين بها وتخفق قلوبهم لهديرها، وهم يستعجلون الوقت شوقاً لرؤية الزعيم.

بعد هبوط الطائرة وإجراء المعاملات الرسمية اللازمة مع رجال الأمن في المطار، وبعد انتظار دقائق خلناها ساعات طويلة… رأيناه يتقدّم بخطىً ثابتة، يحيط به مسؤولو الحزب المركزيون: نعمة ثابت وفؤاد أبي عجرم ومعروف صعب وعبدالله قبرصي وعبدالله سعاده وفايز صايغ والياس جرجي ومأمون أياس وعبدالله محسن وجبران جريج وسواهم… رأيناه يتقدم بين صفوف القوميين المحتشدة على جانبي الطريق بطلعته البهية وقامته المنتصبة ورأسه المرفوع وشخصيته الجذابة، رافعاً يمينه ملوّحاً بها، محيياً جموع المستقبلين، وعلى شفتيه تلوح ابتسامات حلوة يطفح منها السرور وتنهمر المحبة، ومن عينيه البارقتين النافذتين تشرق نظرات لطيفة أخّاذة آسرة تنفذ إلى نفوس القوميين وأعماق قلوبهم، مخاطبة إياهم، حاملةً لهم الأمل، موحية البطولة والقوة والفروسية والعز والإيمان، والثقة التي لا حدّ لها بالنصر».

راح يتقدّم بين صفوف ألوف القوميين وهتافاتهم، وأعلامهم الملوحة الخفاقة، وهتافاتهم تشق الفضاء في تظاهرات حماس وفخر ونظامية وثقة ومحبة لا نظير لها… ويمناه إلى فوق، تلوّح مستنهضة الآمال والقوة والبطولة والعز، إلى أن بلغ سيارة أحد المسؤولين المركزيين في آخر الصفوف، فسارت به وأمامها الدراجات إلى بيت الأمين مأمون أياس في الغبيري، وسارت وراءه مواكب القوميين وحشودهم تزحف إلى المكان نفسه، إلى أن بلغوه، فراحوا يترجلون من سياراتهم وينتشرون بين أشجار الصنوبر، في الساحة الكبيرة أمام البيت ينتظرون أن يطل الزعيم عليهم من شرفة الطابق الثاني، لكي يرووا عطشهم وشوقهم لرؤيته، ورغبتهم العارمة بسماع صوته المحيّي».

بعد قليل أطل الزعيم من شرفة الطابق الثاني… يحيط به المسؤولون المركزيون، وما أن وقعت عليه أنظار القوميين، حتى تعالت الهتافات من جديد، متتابعة طويلة متموجة قاصفة كالرعود، فيما كان الزعيم يرفع يده اليمنى إلى العلاء ملوحاً بها، يجيل بين الجموع نظراته اللطيفة النافذة ويوزع ابتساماته الجميلة.

واستمرت الهتافات كالانفجارات تتكرر وتدوي كالرعد، تأبى أن تتوقف.

– من هو قائدنا؟ – سعاده – لتحي سورية، تحيا… تحيا… تحيا. – ليحي سعاده – يحيا… يحيا… يحيا.

إلى أن بسط الزعيم ذراعيه أفقياً، إشارةً للتوقف عن الهتافات، فكفّ الجميع على الفور، وساد سكون عميق منتظر ملهوف.

وتقدم عميد الإذاعة الرفيق فايز صايغ، فوقف أمام الزعيم ورفع صوته قائلاً: أيها الزعيم الجليل… ولئن وقفت، في هذه المناسبة السعيدة.. وفي هذا اليوم الرهيب لأقول أن في قلب كل قومي غبطة بمقدمك ونشوة برؤيتك فأنا أقول حشواً.

ولئن وقفت أحاول أن أصف لك شوق القوميين وولاءهم وتعلقهم فأنا أحاول المستحيل. لأن الشعور الذي عبّر عنه هذا الحشد الكبير، لا يمكن للكلمات أن تنقله أو تصفه أو تعبّر عنه.

ولقد لمست ذلك، ولا بدّ بنفسك… فإنك لم تطأ منذ هبطت من الطائرة أرضاً، وإنما وطئت قلوباً ترفرف وحناجر تهتف وتزغرد، وأيادٍ تصفق، وعيوناً ترافقك أنّى تحرّكت!».

ووسط هذا المشهد كله… تنطق كلمة واحدة تعبّر عن كل قلب وكل فكر: أيها الزعيم إننا على استعداد».

ولئن شئت شهادة أبلغ من شهادة القلوب والحشد، فإن على مرمى الحجر من هذه البقعة، يثوي شهيد، شهيدنا الأول 2 ، يشهد لك على صدق ما أقول: ففي صمته الرهيب شهادة صارخة تقول: أيها الزعيم، إننا على قسمنا مخلصون نسير وراءك حتى الموت لتسير الأمة على جثثنا قدماً نحو الحياة».

والتفت الزعيم نحو الجموع بعد ذلك باسطاً ذراعيه، فأدركت الجموع أنه سيتكلم، فكفّت عن الهتاف وساد سكوتُ عميق.

كان الرفيق أسعد رحال 3 ناموس منفذية مرجعيون إلى جانبي فقال لي:

– إنني واضع يدي على قلبي، خوفاً من أن لا يحسن الزعيم الخطابة بعد غياب تسع سنوات في المهجر عسى أن يتكلم مثل فايز صايغ على الأقل!

فأجبته: إنني أشاركك التمني…

وهنا رنّ صوت الزعيم قوياً صافياً جميلاً غامراً متجاوباً:

أيها القوميون الاجتماعيون».

هل أقول رنّ صوته كالجرس؟ أم كالموسيقى المتموجة الملائكية الهادرة الهابطة من الأعالي؟

يعجز القلم أن يصف حالة القوميين، عندما سمعوا ذلك الصوت المحيي الموحي، الهاتف بالقوّة الغامرة، العابق بالمحبة والأمل… المضمخ بالعز والبطولة، النابع من صميم وجوده وقلبه وضميره… يخاطب وجداناتهم ونفوسهم.

هكذا شعر القوميون، مثلما شعرت، عندما سمعوا صوت الزعيم… فاستقبلوه بالهتافات، وتفجُّر العواطف المكبوتة، والأشواق المخزونة… إلى أن أشار إليهم بالكف عن الهتاف فامتثلوا… وتابع بعد أن كفّت الهتافات:

إن هذا اليوم هو أسعد يوم رأيته في حياتي إذ أعود بعد 9 سنوات، لأنضم إلى هذه الجموع النامية التي أبت أن يكون قبر التاريخ مكاناً لها تحت الشمس».

سبق وذكرت أن فايز صايغ كان خطيباً كبيراً وبليغاً، كان القوميون يفاخرون به ويتوقون لسماعه، ولكن ما أن سمع القوميون عبارات الزعيم، حتى تضاءلت صورة فايز صايغ أمامهم واختفت لتحلّ محلها صورة القائد الزعيم الحقيقي الأصيل.

لم يكن يتكلّف البلاغة، بل كانت تنقاد له صاغرة عانية، حتى لكأنه سيد البلاغة والفصاحة نفسه ولا أحد سواه. كل عبارة من عباراته حكمة منزلة وآية مثلى، وكل كلمة من كلماته ينبوع غزير، يتدفق إيماناً وقوةً وأملاً وجبروتاً.

تضاءلت صورة فايز صايغ الخطيب أمامنا تلك الساعة، ثم اختفت نهائياً… لتحلّ محلها صورة الزعيم، الذي بدا لنا وهو يتدفّق فصاحة وقوةً وإيماناً وأملاً وجبروتاً، وصوته يدوي وينخع الأفكار والعواطف ويهزها، ويضعها في المناخ الذي يريد. بدا لنا بأنه لم يكن إنساناً عادياً، وخطيباً كبيراً وحسب، بل بطلاً أسطورياً من أبطال أمتنا التاريخيين، وعظيماً من عظمائها، أرسلته إرادة الأمة، واختارته حيويتها ليقود نهضتها الجديدة بعد أن جهزته بعناصر نبوغها، وخلاصة عبقريتها على مرّ العصور.

بدا وهو يخاطب القوميين من شرفة ذلك البيت العالية، مرفوع الرأس، شامخ الجبين، برّاق النظرات، كأنه يخاطبهم بعيونه ونظراته الناطقة بألف معنى، إلى جانب المعاني الكثيرة الأخرى الزاخرة بها كلماته.

وكأن سلكاً كهربائياً كان يوصلهم به، كما يوصله بهم، فاتحد بهم كما اتحدوا به، وراح في خطابه يعبّر لهم عما يجول في أفكارهم، وما تتوق إليه نفوسهم في أعماق أعماقها، وما تريده وتتمناه أمتنا، حتى لكأنه كان ينطق بلسان الأمة، ويعبر عن مكنونات أفكارها وطموحاتها وغايتها وقصدها.

بدا لنا عظيماً من عظماء أمتنا التاريخيين الكبار الخالدين، في شكلٍ جديد، هو شكل سعاده… يخاطب شعبه، داعياً إياه إلى السير على طريق الجهاد والعز والبطولة.

لا شكّ أنني رأيته تلك الساعة أعظم خطيب في العالم، نظراً لما كانت عباراته الصارخة تتركه من تأثير بين جموع القوميين فائق حدّ الوصف، وفي بحر تأثري وسروري ودهشتي وفخري التفتُّ إلى رفيقي أسعد رحال فرأيته لا يقلّ عني سروراً وفخراً فقلت له:

– إنه خطيب كبير، لم نسمع مثله من قبل.

فأجابني: ولن نسمع من بعد، الآن علمت لماذا هذا الرجل هو الزعيم.

وتابع الزعيم خطابه، متدفقاً كالشلال الكبير، تنهمر مياهه العظيمة من فوق، من الأعالي، وتتغلغل في النفوس والقلوب، تاركةً إياه مضمخة بالإيمان، مليئة بالعزم والتصميم، طلابة للجهاد والاقتحام، في إرادة غلّابة جبارة تسحق الجمود والتراجع والميعان، وتتقدم لتشريف الحياة بالموت في سبيل المبادئ المثلى ونصر الأمة وعز الحياة.

وعندما أشرف الزعيم على الانتهاء من خطابه، كانت الحناجر قد بحّت من دون أن ترتوي النفوس العطشانة المشتاقة لسماع أبلغ ما يمكن أن ينطق به قائد، وأن يقوله رجل عظيم.

وأخيراً، تجاوب صوت القائد العائد العظيم، طالباً من جنوده أن يعودوا إلى صفاء العقيدة، والجهاد الحقيقي من أجلها، هاتفاً بهذه الكلمات:

إن كلمتي إليكم أيها القوميون الاجتماعيون هي العودة إلى ساحة الجهاد.

أيها القوميون الاجتماعيون…

كنت أودّ أن يتسع الوقت لأصافح كلاً منكم، كل واحدٍ بمفرده وأتعرف عليه… وهذا الوقت لا يكفي، ولكن عزيمتي اليوم كما كانت في الماضي… أن أقصد مناطقكم وأزوركم من جديد».

وانفجرت الهتافات من جديد تحييه وتناديه لا تريده أن يبتعد، وهو يرفع يده ملوحاً بها، محيياً الجموع مجيباً عليها… في مشهد رائع لا يمكن أن ينساه من رآه… مهما كرّت الأيام ومرّت السنين. وكان لا بد لذلك أن ينتهي، فغادر الزعيم الشرفة محاطاً بأركان الحزب وغاب عن الأنظار.

بعد قليل رأيت الرفيق فارس معلولي الأمين لاحقاً ناموس عمدة الداخلية، يتطلع هنا وهناك بين الجموع كمن يبحث عن أحد… وما أن وقعت أنظاره عليّ حتى أشار إلي بالتقدم نحوه… فرحت أحاول ذلك إلى أن بلغته بصعوبة فقال لي:

– حضرة الزعيم يريد أن يتعرّف بالمنفذين العامين… فاذهب إلى باب البيت الرئيسي من الجهة الأخرى، وقدّم نفسك هناك بصفتك منفذ عام مرجعيون. ولم أنتظر كلمة أخرى، لأنطلق أشقّ طريقي بجهد إلى الباب الرئيسي، حيث وجدت بعض المنفذين زملائي ينتظرون وأمامهم الأمين عبد المسيح.

وعندما تجمع هناك أكبر عدد ممكن منهم، صعد عبد المسيح الدرج أمامنا وراح يتقدم ونحن وراءه، إلى أن دخلنا قاعة كبيرة… كان الزعيم جالساً في صدرها، يتحدث إلى المسؤولين المركزيين الذين كانوا يملؤون المقاعد حوله، وهم يصغون إليه كأن على رؤوسهم الطير.

كفَّ عن الكلام عندما تقدم عبد المسيح وأسرّ له بعض الكلمات، ووقف لكي يتقدم منه كل منّا الواحد بعد الآخر بنظام، فيقدم نفسه ويصافحه. وعندما جاء دوري، تقدمت متهيّباً وأنا لا أكاد أصدق بأني سأصافح ذلك الرجل العظيم، الذي طالما انتظرنا عودته بشوق ورغبة وفارغ صبر.

أديتُ التحية، ثم قدمت نفسي، فمدّ لي يده مصافحاً وهو يبتسم محدقاً بي بلطف ووداعة، ضاغطاً على يدي ضغطاً خفيفاً… ثم سمعته يسألني: أأنت من نفس مرجعيون يا حضرة المنفذ العام؟

وتبخر من نفسي عندما سمعته كل شعور بالتهيّب، وشعرت تواً بأنه قريب جداً من نفسي، كانه أخي أو أبي أو صديقي، إلى جانب كونه زعيمي بنفس الوقت… وبادرت للإجابة: كلا يا حضرة الزعيم… بل من قرية تبعد عنها 15 كيلومتراً… تقع في سفح حرمون، اسمها راشيا الفخار.

– عرفت رفيقاً من راشيا الفخار في الأرجنتين، اسمه الياس فاخوري 4 ، انتقل إلى البرازيل في ما بعد وكان رفيقاً نشيطاً.

أعرفه بالاسم فقط.

– كم مديرية عندك في المنفذية؟

16 مديرية.

– جيد… جيد… قريباً أستدعيك ونتحدث مطولاً عن مرجعيون التي أودّ زيارتها في أقرب فرصة.

سيزحف الشعب لاستقبالك، من سفوح حرمون إلى شواطئ الليطاني حضرة الزعيم. إن مكانة الحزب في مرجعيون كبيرة.

– بلّغ الرفقاء هناك أن يبقوا جنوداً مستعدين على حدود فلسطين.

إنهم سيبقون… حضرة الزعيم.

وهزّ يدي من جديد وهو يبتسم مسروراً راضياً، ثم أفلتها لترتفع من جديد بتحية الحياة، وقلبي يرتفع أيضاً ويكبر، ويخفق خفقات العز والفخر، والإيمان الكبير الذي لا حدّ له.

بدوره يتحدث الأمين شوقي خيرالله في مذكراته عن عودة الزعيم ويقول:

منذ منتصف شباط 1947 بدأت الصحافة تشير إلى إمكانية عودة الزعيم إلى الوطن، ثم قويت اللهجة ثم تأكدت العودة في 02 آذار، يوم أحد. نزلت إلى ساحة البرج فإذا بها فارغة. التقيت توفيق البزّي ورحنا نعجب من هذه الظاهرة. لا سيارة على ساحة البرج أو موقف الأشرفية. تمشينا إلى شارع المعرض وساحة السمك ومواقف التياترو الكبير فقلّما رأينا سيارة. من بيروت ولبنان ونصف الشام، من أعالي الجزيرة إلى عمان، ومن فلسطين، قدمت وفود منذ أيام لتستقبل هذا الرجل. من العراق أقبلت قلّة، وعراقيو الجامعة الأميركية ذهبوا إلى المطار، وفي اليوم التالي قابلوا الزعيم لمناقشته في موضوع الأمة والعراق.

وبدأت أخبار المطار تصل. لقد اختفى المطار، حرفياً، اختفى المطار وبئر-حسن ورمل بيروت… آخ يا رمل بيروت!

كل وفد ومنطقة وكيان أقبلوا بسحر من ربنا وبتوق لم يصفه أحد، وبولاء لم يعرفه سوى قلّة في تاريخ الناس. وما أن أطلّت الطيارة في الجوّ حتى هدر جورج عبد المسيح كان يتولى مسؤولية عميد الدفاع .

– القوميون إلى صفوفكم!

واصطفت الأمة كلها من دون أوامر أخرى. واصطف المطار والرمال والناس وساد صمت مثل يوم الحشر. وإنه ليوم حشر.

ولما فُتح باب الطيارة هدر عبد المسيح.

– القوميون! للزعيم تحية خذّ!

ولم يكملها، بل اختنق ودمع، ودمعوا معه جميعاً. فوق المئة ألف من دون شكّ ولا ريب حيّوا دامعين مختنقين. فأطلّ فوزي القاوقجي على الباب ثم فريد الأطرش 5 ثم بقية الركاب. لم يفهم أحد ماذا يجري. ما هذا الشعب المتسمّر «سنكي طقّ»، كله؟

ولما فرغت الطيارة أطلّ. الله أكبر.

– يا أبناء الحياة! وراح القوميون يهتفون لوحدهم كبحر أفلت من ألف كبت وألف جيل من القيود والسدود. سورية كلها كلها، هذه المرة، بعراقها كله مهما قل عدد العراقيين. ماذا جاء بحفنة العراقيين من الجامعة ومن العراق بذاته؟ كيف أحسّوا بما حصل في الأرجنتين خلال الغيبة؟

نزل الزعيم ببسمته، بسحره، بهيبته، بمجده، بما لا يقاس ولا يوصف، وخلفه نعمة ثابت وأسد الأشقر اللذان رافقاه من القاهرة بالطيارة. وعلى كعب السلّم كانت القيادات الحزبية والأمن الحزبي. فتقدّم إليه عبد المسيح وأدّى التحية وقدّم له الصفوف. الصفوف المتراصة أدركت لتوّها أن قائدها الفعلي والشرعي والحقيقي قد عاد. سكروا به، وانتشى بهم. هم انفجروا طرباً وهو التجم مختنقاً. هو ذا الرجل! هو ذا الزعيم! وهو ذا الأمة! وهلّي عالريح يا زوابعنا!

هو ذا الزعيم! قدامى الصف، مقرقحو» السنوات السرية والسجون والمعتقلات والعارفون بالباطن أيضاً كانوا يتهيبون أمراً، وكانوا خائفين حتى العظم، وتعروهم رهبة تساوي وجودهم، تضاهي قَسَمهم. وكانوا يصلّون. بلى كانوا يصلّون كما لم يفعلوا من قبل. ولربما لم يأخذهم إحساس بهذه الكثافة والثقل سوى بعد الإعدام: في المرتين قالوا: يا رب صُن سورية!

استعرض الزعيم الصفوف بسيارة مكشوفة يقودها الرفيق عثمان أرضروملي، ومعه في السيارة نعمة ثابت وفؤاد أبو عجرم، وبقرب عثمان، محمد راشد اللادقي منفذ عام بيروت، وصعد بقربه زكريا اللبابيدي. السيارة ظلّت تستعرض حوالى الكيلومترين من رفيقات ورفقاء مصفوفين بأبدع نظام وإن من دون تدريب، صامتين انضباطاً وأكثرهم صامت في انتظار ردّة الزعيم، البوسطات وحدها كانت حوالى 500 والسيارات إذا قلت لا تُحصى فإنها لا تُحصى. أكبر حشد شهدته هذه الأمة منذ دخول فيصل إلى دمشق، بعد ألف سنة من استعمار تركي مملوكي ديلمي عثماني صليبي. في بيت مأمون أياس أتى الردّ. هناك سار عثمان أرضروملي بالسيارة ولحقه الركب الأكبر. ووقف الزعيم خطيباً، ورأى من واجبه أن يحيي هو مرؤوسيه ورفقاءه وأصحاب دربه وبني قَسَمِه وشرارات روحه ومستقبله وآل الحق عليه بالوفاء بقسم الزعامة. فرفع يده بالتحية وهتف بهم تحيا سورية! ويا أرض انشقّي وزلزلي! فرحة غضبة سكرة صلاة زفير زئير ولست أدري ماذا، انفجرت معاً من مئة ألف وأكثر، وتَحيَّت سورية كما لا قبل ولا بعد، ودمع المئة ألف إلا قليلاً وليس يدرون لماذا. وارتفع صوت خليل الطويل 6 على منصة من عشرين كتفاً يحملونه على الراحات:

– يا أبناء الحياة لمن الحياة؟ لنا.

– ومن هو قائدنا؟ الزعيم.

– ومن الزعيم؟ سعاده.

– ولمن نحيا؟ لسورية.

– تحيا سورية! ينبغي أن تقال ثلاثاً. ولكنهم قالوها ألفاً حتى بُهتوا هم من مخالفتهم، وبهتت سورية من الحنين إليها من دون حدود، وبهت الزعيم مما يجري، ولكنه أدرك كبتهم وما يعانون. فرفع يده ليسكتوا. وسكتوا على غليان. فأعلن لهم العودة إلى الزوبعة، وإلى التحية التامة، وإلى العقيدة، وإلى الأمة التامة، وإلى الجهاد الحقيقي، وإلى الاستشهاد متى وجب وحقَّ.

هو ذا الرجل!!

في تلك الدقائق المعدودات، ردّت إلى الحزب روحه، وردّ إلى الزعيم حزبه، والحزب إلى زعيمه الحق. وسورية أنت الهدى، سورية نحن الفدى.

في السيارة نحو بيت مأمون إياس اقترح نعمة ثابت على الزعيم لو يذهبون ويسجلون اسمهم في القصر الجمهوري. هكذا يرضى بشارة الخوري ويطمئن رياض الصلح ويوقَف على خاطر كميل شمعون. فلم يوافق الزعيم على المشورة قائلاً إنه يعود إلى بلده بحقّه الطبيعي ولا ضرورة لشكر أو منّة. بعد الخطاب في بيت مأمون، وقبل الغداء في بيت نعمة ثابت سرح عثمان أرضروملي بالسيارة وركابها نحو الأونيسكو وجوارها، فإذا ببشارة الخوري ورياض الصلح، وقد وصلتهم أخبار الحشود، واقفين في مكان ما هناك في منطقة الأونيسكو يريان قيام الساعة وحشد الأمة.

ومنذ تلك الساعة نزع الشيطان في قلبيهما. ويوم ستأمرهما «إسرائيل» وأعرابها وفاروقها والاستعمار وسينفذان عملية الاغتيال الصلب ـ الإعدام.

لقد عاد الزعيم، ولا زعيم إلا هو.

أمي ستقول له بعد حوالى السنة وقد استمعت إليه ينثر الآي والحكمة والحق في بيتنا ببحمدون: يحرس دين البطن اللي حملك، والثدي الذي أرضعك… الله ينصرك!! تحيا سورية ويحيا سعاده، ولو أني مش بالحزب».

أم أديب وصلاح الشيشكلي، في عام 1937 استمعت في حماة للزعيم يتكلّم في بيتها، كانت هي خلف الحجاب تستمع، وهي مؤمنة ممارسة وحجة. فلمّا أقبل صلاح قالت له: يا أمي، برضاي عليك، إذا وقف الزعيم فانظر هل تطال أصابعه ركبتيه، فهو إذن المهدي المنتظر. وكيف لا يكون المهدي المنتظر؟».

من جهة يروي الأمين مصطفى عبد الساتر في مذكراته أيام وقضية» ما يلي:

كان ذلك اليوم مشهوداً تقاطر فيه عشرات الألوف إلى مطار بيروت القديم في بئرحسن، مرحبين بالرجل الذي قاوم الاستعمار في أوجّ جبروته. كانوا يرون فيه الربان الوحيد المنتظر لقيادة السفينة وتوجيهها في الاتجاه الصحيح، بعد خيبات الأمل المريرة في حكام عهد الاستقلال، الجدد – القدامى، ومع بوادر العاصفة الهوجاء التي كانت تتجمّع في الأفق للانقضاض على فلسطين.

من كل المناطق اللبنانية والشامية والأردنية والفلسطينية جاؤوا وفوداً غفيرة، كموج البحر، غير أنها منتظمة لا متلاطمة.

كنت على رأس وفد كبير من قضائي بعلبك والهرمل، في عداد أعضائه الكثيرون ممن استدانوا ربما أجرة السيارة، وقد حشروا أنفسهم في عشرات الأتوبيسات، في داخلها وعلى ظهورها وعلى سلالمها، وفي عشرات السيارات للتخفيف من وقع هذه المشاهد الرائعة عن الرأي العام في العاصمة، أقامت السلطات حواجز على مداخل بيروت لمنع المواكب من المرور في شوارع العاصمة. قيل يومئذٍ أن بشارة الخوري ورياض الصلح، حضرا شخصياً في سيارة عادية إلى القرب من المطار ليشاهدا بأعينهما ضخامة الحشد الذي لم يصدّقا أخباره من الأجهزة الرسمية .

لم تقتصر عظمة ذلك اليوم على ضخامة الحشد فحسب، بقدر ما تركّزت على الخطاب المهم الذي ارتجله معيداً فيه القوميين والبلاد بأسرها إلى الجو الثوري الذي خلقه اكتشاف أمر الحزب أيام الفرنسيين، وأصبح سعاده، وخطاب سعاده، وأقوال سعاده، وتحركات سعاده الشغل الشاغل لكل اللبنانيين منذ ذلك اليوم… حتى أصبحت الصحف التي لا تحمل خبراً عن سعاده أو تصريحاً له في صدر صفحاتها الأولى، يتراكض الباعة على المناداة به، لا تلقى شارياً.

هزّ ذلك الخطاب القوميين الاجتماعيين والرأي العام بشكلٍ عميق وعنيف، وإن كانت مذكرة الإحضار التي أصدرتها الدولة بحقّه عقب ذلك، وما نتج عنها من ترك سعاده بيروت ولجوئه إلى الجبل قد خلّفت صدمة في نفوس القوميين، فإنها زادت في حماسهم وفي إقبال الناس على الحركة، وأشعلت نقمة عارمة على التصرّف الطائش المتحدّي الذي أقدمت السلطة عليه مدفوعاً بذعرها على مصالح للفئة الحاكمة.

وفي كتابه في موكب النهضة» يروي الأمين يوسف الدبس، في الصفحات 106- 109 عن عودة الزعيم، وخطابه:

في آذار 1947 عاد الزعيم من مغتربه القسري وكنت آنذاك أدرّس بعض المواد في اللغتين العربية والإنكليزية في مدرسة قب الياس، وكان يأتينا الطلاب من القرى المحيطة، وكان أكثرهم يرغبون بدراسة اللغة الإنكليزية. وبصفتي منفذ عام البقاع الأوسط قمت بجولة إلى المديريات أزفّ إليهم النبأ المفرح بعودة القائد وأحثّهم للذهاب إلى بيروت لملاقاته في المطار وفتح المجال لأي مواطن يرغب مشاركتنا في هذا اللقاء. لاحظتُ من اجتماعي بالقوميين أن البعض لا يملكون أجرة السيارة إلى العاصمة، فكيف يقدرون أن يدفعوا ما يتوجب عليهم وعلى المواطنين.

رجعت للبيت ورحت أفكر بما يجب عمله وكيف أؤمن المال للسيارات، فلاحظت والدتي أنني قلق فسألتني ما الأمر، فأخبرتها بالواقع، وكنا نملك سجادة قديمة العهد هي إرث من جدي فقالت: خذّ هذه السجادة وضعها رهينة عند أحد أصدقائك وخذّ منه ما تحتاج من المال، فالسجادة عدا أنها عجمية» وقديمة العهد هي ذكر من الجد إلى الوالد ثم لك، ويمكنك أن تعيد المبلغ لصاحب الرهينة بمبلغ صغير تدفعه كل شهر حتى تستعيد السجادة».

وهكذا كان. قصدت صديقي محمد درخباني صاحب الحانوت الصغير، وعرضت عليه الأمر فوافق حالاً، وأعطاني أربعمئة ليرة دفعتها له بالتقسيط لمدة تزيد على سنتين ونصف.

كان يوم العودة وكانت المنفذيات تتسابق إلى بيروت من جميع المناطق في لبنان والشام، وقيل يومذاك إن منفذية البقاع الأوسط كانت في الطليعة من حيث العدد والتنظيم. بعد وصول الطائرة واستعراض الزعيم للقوميين حتى بيت الرئيس» نعمة ثابت، طلب الزعيم أن يجتمع بالمسؤولين، وإذا بمكبر الصوت يطلب المنفذين العامين لمقابلة المعلم، وبعد المصافحة كان سؤاله الثاني الذي وجهه إليّ: هل والدتك لا تزال على قيد الحياة؟ أرجو ان تبلغها تقديري واحترامي».

كان خطاب الزعيم يوم وصوله تاريخياً هز أركان الدولة اللبنانية وأثار غضبها، ولكن القوميين كانوا بحالة من الفرح والسرور لا يمكن وصفها، أولاً لعودة القائد، وثانياً لخطابه التاريخي الذي وضع حداً للبلبلة بين الذين كانوا ينادون بالواقع اللبناني، ولكن لم تكد اللقمة تصل إلى الفم، والابتسامة إلى الثغر والفرح إلى القلب حتى فوجئنا بقرار الحكومة اللبنانية ومذكرة التوقيف المشهورة».

يفيد الرفيق الشاعر شفيق عبد الخالق 7 في اتصال هاتفي منذ نيّف وشهرين، أنه نزل سيراً على الأقدام من عاليه، حيث كان يتابع دراسته، إلى المطار للمشاركة في استقبال الزعيم. كانوا خمسة، من بينهم الرفيق شفيق صدقة عبد الخالق 8 . لم يشعروا بالتعب. كان في داخلهم فرح عظيم جعلهم يقطعون كل هذه المسافة كأنها بضعة أمتار.

يروي الرفيق نديم القدسي في رسالة له بتاريخ 18/12/2001، من مدينة اللاذقية: كنا أكثر من خمسين رفيقاً، وقد استقلينا بوسطة وعدداً من السيارات الخاصة وسيارات الأجرة.

لم أشاهد في حياتي كلها أكبر من ذاك التجمع البشري، قياساً لعدد السكان في الشام ولبنان وقتئذٍ.

هوامش

1 – محمد أمين الصباح: من الرفقاء الذين عرفوا النضال الحزبي، وتولّي المسؤوليات في النبطية، ثم في المهجر الأفريقي أبيدجان ، لمراجعة ما كتبنا عنه الدخول إلى أرشيف تاريخ الحزب على الموقع التالي: www.ssnp.info

2 – هو الرفيق الشهيد ابراهيم منتش الذي استشهد بتاريخ 4 تشرين الثاني 1945. للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول إلى الموقع أعلاه.

3 – أسعد رحال: من جديدة مرجعيون». مُنح رتبة الأمانة، كان عضواً في المجلس الأعلى عند حصول الثورة الانقلابية. أستاذ جامعي، بات في عمر متقدّم.

الياس فاخوري: اقترن من الصحافية ماريانا دعبول، 4 – التي أصدرت مجلة المراحل» ثم ابتعدت عن الحزب وخانت قضيتها.

5 – فريد الأطرش: ليس صحيحاً أنه انتمى إلى الحزب كما يشيع بعض القوميين الاجتماعيين.

6 – خليل الطويل: رفيق مناضل، كما شقيقه الرفيق يوسف. من منطقة المريجة.

7 – شفيق عبد الخالق: شاعر معروف في البرازيل، له أكثر من ديوان، ساهم في تأسيس عصبة الأدب العربي، ورأسها لمدة سنتين. صاحب نشيد المهاجر الذي صدر في C/D ووزع في الوطن والمهجر.

8 – شفيق صدقة عبد الخالق: نشط حزبياً وتولى مسؤوليات، منها مندوبية المتن الاوسط العبادية، شويت… . كان موظفاً متقدماً في مصلحة الليطاني. غادر إلى الولايات المتحدة وفيها وافته المنية. أنشأ عائلة قومية اجتماعية، وكان رفيقاً مثالياً في التزامه وأدائه الحزبيين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى