إقامة الدولة بالحديد والدم!

ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

بَنَت بريطانيا إمبراطوريتها على تجارة العبيد. ارتكبت ألمانيا النازية الإبادة الجماعية الأكبر في تاريخ البشرية. وقد يصبح تنظيم «داعش» ذات يوم حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة؟

كتبت روزا بروكس في مجلة «فورين بوليسي»:

قتل ما يُسمى بـ«تنظيم داعش» الآلاف في العراق، سورية، وغيرها من الأماكن، وتستمرّ الدول ووسائل الإعلام حول العالم في شجب هذه التكتيكات الوحشية، التي تشمل قطع الرؤوس، عمليات الذبح الجماعي للسجناء العزّل، فضلاً عن الاستعباد الجنسي للفتيات والنساء.

وإذا ما أخذنا التاريخ الغربي نموذجاً، فسنرى أن تنظيم «داعش» يسير يخطو خطى حثيثة نحو الشرعية العالمية.

ويؤكد لنا التاريخ أن ارتكاب الفظائع الجماعية لا يشكل عائقاً أمام النجاح في المستقبل. فخلال فترة «حكم الإرهاب» التي تلت قيام الثورة الفرنسية، قطعت حكومة الثورة الفرنسية ـ بشكل علني ـ رؤوس أكثر من 40.000 مواطن فرنسي تحت شعار الحرية والمساواة والأخوّة. وخلال سنوات العقد الأخير من القرن الثامن عشر 1790 ، قُتل ما لا يقلّ عن 150.000 مواطن، وأُحرقوا حتى الموت، أو قُطّعوا إرباً، أو أُغرقوا عمداً في مياه منطقة فيندي الفرنسية. «سحقتُ الأطفال تحت أقدام الخيول»، كتب الجنرال الفرنسي فرنسوا جوزف وسترمان بعد الحملة الوحشية التي مورست بحق المواطنين. «ذبحتُ النساء كي أتأكد من أنهنّ لن يلِدْنَ المزيد من اللصوص… أبدتهن جماعياً. غصّت الطرقات بالجثث. حسناً! هذا ما فرضه قانون العدالة والرحمة»، يخلص وسترمان، «لكن هذه ليست مشاعري وعواطفي الثورية».

لم تشكل مثل هذه العبارات يوماً، متعة في قراءتها. لكن فرنسا هي اليوم دولة أوروبية قوية وحليفة رئيسية للولايات المتحدة.

ونتابع سردنا التاريخي، لنصل إلى تركيا، فبين عامَي 1915 و1918، ارتكبت السلطات العثمانية جرائم بحقّ أكثر من مليون أرميني، والتي يُطلق عليها العالم أجمع اليوم ـ باستثناء تركيا ـ إبادة جماعية. غير أنّ مئة سنة قد مرّت على هذه المأساة، وتركيا حالياً هي شريك حيوي في حلف شمال الأطلسي الناتو.

ولنعد بسرعة إلى أربعينات القرن الماضي 1940 . بلغ عدد قتلى الهولوكوست 11 مليون مدنياً، معظمهم من اليهود. وألمانيا اليوم، هي عضو رئيسيّ في الاتحاد الأروربي. ولا غلوّ أن تكون آنجيلا ميركل قد غفرت لكلّ هذا التاريخ!

لطالما سار مشروع تكوين الدولة وتوطيد السلطة على طرق دموية، وهذا ما يدركه المؤرخون، علماء الاجتماع، الأنثروبولوجيون، والخبراء السياسيون جيداً، غير أن البقية تميل إلى تجاهله ـ أو على الأقلّ التحرّر منه تاريخياً. ولا تلبث الدولة القومية الحديثة الناجحة و«المستنيرة»، أن تشرع إلى الوقوع في بعض المطبات التاريخية: ولن تستغرق وقتاً طويلاً للبدء بنبش الجثث.

«حرب السنوات الثلاثين»، والتي شملت مساحات واسعة من أوروبا وقتلت ثلث سكان تلك المناطق، وغالباً ما يُنظر إليها من قبل المنظّرين على أنها أدّت إلى قيام الدولة الأوروبية القومية. ومنذ أربعة قرون إلى اليوم، قتلت هذه الدول الأوروبية القومية الملايين من البشر. وقال أوتو فون بسمارك ـ مهندس الوحدة الألمانية ـ عام 1862، «إن الخطب وقرارات الغالبية لا تجيب على الأسئلة الكبرى في الأوقات المناسبة… إنما الحديد والدم هما ما يفعل ذلك».

إنه درسٌ جيد تعلّمته الولايات المتحدة، بعد خطاب بسمارك الشهير. فبين عامَي 1861 و1865، قاتل مئات الآلاف من الأميركيين من أجل «الحق» في استعباد أكثر من أربعة ملايين أميركي، وقضى مئات الآلاف من هؤلاء قبل أن تُحلّ هذه القضية، تاركين حكومة الولايات الأميركية المركزية أقوى ممّا كانت عليه سابقاً!

هذا غيضٌ من فيض مما حدث في الغرب خلال القرون القليلة الماضية. وإذا ما ألقينا نظرة على باقي الأماكن في العالم، نرى أن الأحداث تتشابه كثيراً. قطع الرؤوس؟ حصل. التعذيب؟ حصل. ارتكاب المجازر بحق المدنيين العُزّل؟ حصل، وحصل وحصل.

ومع ذلك، لا شيء من هذا القبيل التاريخي يمكن أن يبرّر الفظائع الحالية التي يرتكبها تنظيم «داعش»، أو يجعلها أقلّ رعباً، وتحديداً في العصر الذي نعيش فيه والاعتراف العالمي بحقوق الإنسان الأساسية. غير أننا إذا ما تجاهلنا الاستمرارية التاريخية بين سلوك «داعش» الحالي وتصرّفات عشرات الدول في الماضي، والتي تعتبر الآن جهات عالمية فاعلة ومثالية، فإننا نخاطر في فهمنا المنطق الذي ينضوي وراء عنف هذه الجماعات غير المبرّر، كما أننا نخاطر أيضاً في الرهان على أن جهود الولايات المتحدة لإنهاء عهد إرهابها سيفشل بالتأكيد.

إن الفشل في النظر إلى أفعال «داعش» من منظور تاريخي يسمح لنا بالحفاظ على الوهم المريح، والاعتقاد بـ«جنون» هذا التنظيم ـ أو، كما صرّح الرئيس باراك أوباما عام 2014، «عدم امتلاك هذه الدولة رؤية تتخطى حدود… الذبح»، وكذلك في العام 2015، حين قال: «لا يمكن لهذا التنظيم أن يكسب الحرب بأفكاره وعقائده الإيديولوجية لأنها لا تقدّم شيئاً».

وأقول: لا تقعوا في خطأ هذا الاعتقاد. فقد يكون زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي المسؤول الحقيقي عن آلاف جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، لكنه ليس غبياً بالتأكيد: كما يؤكد كلّ من جيسيكا شتيرن وجاي أم بيرغر في كتابهما الجديد حول «داعش»، من أن أفكاره قد تمّت قولبتها على يد أبي بكر ناجي، الرجل الذي ترك كتاباً قصيراً بعنوان «تنظيم الوحشية»، والذي يحثّ فيه على تطوير أساليب استخدام العنف وكيفية الترويج لها إعلامياً، وهي أفكار زرعت الرعب والاحترام في نفوس أعداء الإسلام الراديكالي وأنصاره على السواء.

نعم، «داعش» تنظيم همجي ووحشيّ، غير أنه يمتلك ـ من دون شك ـ رؤية تذهب أبعد بكثير من مجرد الذبح، بغضّ النظر عن رفض أوباما التصديق عكس ذلك. إنها رؤية أثبتت بوضوح قدرتها على اجتذاب آلاف المجنّدين من جميع أنحاء العالم.

قد يكون من الحكمة أن نفترض فهم قيادة «داعش» بعض الدروس غير الرحومة في التاريخ. يدوّر التاريخ الزوايا حتى في حالات الجرائم الأكثر عنفاً وهمجية: فبعض العقود القليلة التي تمرّ، ستكون كفيلة بنسيان المجتمع الدولي الجرائم الأكثر فظاعة. وتركيا هي المثال الأهم على ذلك، فهي لم تكلّف نفسها ـ بعد مرور مئة سنة على حصول المجازر ـ عناء الاعتذار أو حتى تقديم العزاء مجاملةً.

يبدو أن الولايات المتحدة تبقى الأقلّ شهرة في هذا المضمار، نظراً إلى عمرها الحديث وإلى ذاكرتها قصيرة الأمد، فضلاً عن قلّة حيلتها في تبنّي وجهات النظر بعيدة المدى: فنحن أمّةٌ يرتكز اهتمامها على «الآن»، وغير قادرة على تطوير رؤية استراتيجية متسقة تستمرّ لأكثر من بضع سنوات. لكني أرفض الرهان على أن «داعش» سيحذو حذوها. فقادته يُفترض أنهم يدركون جيداً مقدار وحشيتهم التي تحرّض على العداء الدوليّ ضدّهم ـ لكنهم قد يغامرون بتعزيز سيطرة دولتهم على حقول النفط والموانئ وغيرها من مصادر الثروة، فضلاً عن تقليص أعمالهم العنفية شيئاً فشيئاً، وبالتالي الجلوس بهدوء بانتظار تحقيق العفو الدولي.

وإذا كان هذا هو المنطق الذي يرسو خلف أفعال التنظيم الحالية، فقد يستطيع المجتمع الدولي حمل «داعش» على التخلي عن فظاعاته العنفية بطريقة أسرع، مما لو أنه كان سيتركه وحيداً.

حققت الحملة العسكرية بقيادة الولايات المتحدة ضدّ «داعش» ـ حتى الآن ـ أهدافاً إيجابية عدّة: على رغم أن المسؤولين الأميركيين قد اعترفوا بمقتل أكثر من 10.000 مقاتل إسلاميّ، إلا أن التقارير الاستخباراتية لا ترى أن هذه الضربات قد تمكنت من إضعاف التنظيم. وفي أفضل الأحوال، هناك تمديد لحال الوضع الراهن. فهذه الحملة الجوية لم تعُد قادرة على هزم جماعة جهادية أو تدميرها، لكنها كانت كفيلة بزيادة عدائية «داعش» ضدّ الغرب. وفي الواقع، إن هناك أسباباً عدّة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن الحملة العسكرية قد ساهمت في انتشار داعش عالمياً، وعزّزت من كثافة التجنيد في صفوفه .

لكن، إذا ما كان قادة هذا التنظيم، يطمحون في النهاية إلى تشكيل «دولة حقيقية»، معترف بها من المجتمع الدولي والقوى العالمية، فقد يكون من الأفضل لنا أن نتحوّل إلى استراتيجية بديلة ـ ألا وهي استراتيجية الاحتواء ـ بدلاً من العمل على تحلّل، وبالتالي، تدمير هذه الجماعة.

نعم، إنها لفكرة محبطة للغاية ـ لكن إذا ما توقفنا عن قصف «داعش»، فقد يستطيع ترويض نفسه بشكل أسرع مما لو أردنا نحن القيام بذلك وسيجد قادة هذا التنظيم ـ على الأقل ـ وعلى غرار عددٍ من الأنظمة الوحشية التي سبقتهم، أن الأعمال الوحشية ستولّد ـ في نهاية المطاف ـ مزيداً من الفوضى الداخلية والتمرّد.

قد لا يكون لدى البغدادي ودائرته الضيقة أيّ نيّة في التخفيف من حدّة العنف. لا بل قد يكونون مصرّين على المضيّ قدماً في وحشيتهم إلى أجل غير مسمّى ـ وربما هم غير مهتمين في ممارسة الرقابة الدائمة على المناطق والأقاليم التي يسيطرون عليها.

ولمَ قد يفعلون عكس ذلك؟ إذا ما قلّبنا صفحات أساسية من التاريخ الإنساني، سنجد أن الدين وولاء الدم، أهمّ من التنظيمات السياسية باعتبارها مبدأ يُعتمد للسيطرة على الأراضي آخذين بالاعتبار التغييرات الجيوسياسية والإمبراطورية الرومانية المقدسة ، والتغييرات الجيوسياسية الحديثة التي تتمظهر مرة أخرى في أشكال غير إقليمية تبدو قابلة للحياة كالولاء والسلطة والسيطرة.

قد لا يعني قياديو «داعش» ما اذا كانوا سيُدفعون ـ في نهاية المطاف ـ إلى خارج العراق أو سورية، طالما أنهم يكسبون أنصاراً جدداً، ومصادر جديدة للثروة والسلطة في أماكن أخرى، حتى لو كانت هذه الأماكن متغيرة وغير متجاورة. وفي الواقع، فإن خطاب «داعش» يوحي بأكثر من ذلك.

وبغضّ النظر، فإن الأحداث الأخيرة تقترح أن «داعش» لن يحتاج بالضرورة إلى التخلي عن تكتيكاته الوحشية بهدف تأكيد شرعيته وكسبها.

وها هي «طالبان». فمنذ عام 1996 إلى 2001، تسيطر جماعة «طالبان» على أفغانستان، بعد عزلها دبلوماسياً واقتصادياً ومنذ عام 2011 ولغاية تاريخه، يستهدف هذا التنظيم المصالح الأميركية الاستخباراتية والعسكرية. وعلى رغم أن المسؤولين الأميركيين لا يكفّون عن إدانة وحشية «طالبان» بالطريقة نفسها التي يدينون فيها أعمال «داعش»، فإن واشنطن تحثّ قيادات تنظيم «طالبان» على تحقيق تقدّم يُذكر على مستوى المفاوضات. وتشير الإشاعات المتلاحقة إلى أن المسؤولين الأميركيين قد يكونون من المشاركين في مثل هذه المفاوضات وبشكل مباشر أيضاً.

ونرى، انطلاقاً من هنا، أنه بإمكان قياديّي «داعش» أن يخلصوا إلى استنتاج واضح: فكما قال الجميع، من ماو حتى كيسينجر، أن المتمرّدين ليسوا بحاجة إلى «الربح» كي ينجحوا إنما أكثر ما يحتاجون إليه هو عدم الخسارة.

البقاء في هذه الدوّامة لوقت طويل غير مفيد، وعلى غرار «طالبان»، إذ لا تأثير لحدّة وحشيتهم فسيتعب خصومهم من هذه الممارسات في نهاية المطاف، فإما أن يستسلموا ويتركوهم وشأنهم، أو أن يستسلموا ويلجأوا إلى التفاوض، وقد يريحهم حفظ ماء وجههم بهذه الطريقة بادّعائهم نسيان فظاعاتهم، والتركيز فقط على المفاوضات مع «المعتدلين» أو «الإصلاحيين». وأستطيع هنا عرض تعريف للإصلاحي الطالباني على أنه ذلك الإصلاحي الذي نشعر بالحاجة إلى التفاوض معه .

وبعبارة أخرى، يمكن لتنظيم «داعش» الحفاظ على حقه بقطع الرؤوس، وإذا لم نستطع تدميره فسنتعب من قتاله، وسنقرّر قطع جميع مصالحنا معه. وحينئذ، لن تمرّ بنا إلا عقود قليلة، حتى نرى تنظيم «داعش» يحصل على مقعد في الأمم المتحدة ـ إذا كانت هذه الأخيرة لا تزال حيّة ـ سواء على شكل دولة جديدة أو شبه دولة معترف بها عالمياً، وسيُعمل على نسيان فظاعاتها بأدب ورقة وتهذيب!

لا حاجة لنا إلى القول: على رغم أن التاريخ يشير إلى أن ارتكاب الفظائع المروّعة واسعة النطاق لن يشكل عائقاً أمام دخول المجتمع العالمي، كذلك فإن التاريخ يؤكد أن هذا الاستنتاج ليس حتمياً. تعيش حركات تمرّد وأنظمة وحشية كثيرة لتشهد على تبرئتها ونسيان جرائمها، لا بل وانطفاء ألسنة اللهب من حولها.

أما عندما يتعلق الأمر بالتنبّؤ بمستقبل «داعش»، فسنجد عدداً من البطاقات الصعبة التي يُفترض بالتنظيم مواجهتها وتخطيها. فالبيئة الإعلامية العالمية الحديثة تختبر أحداثاً جديدة عليها، ومن المستحيل التكهن بكيفية إضفاء الطابع العالمي في مجال حقوق الإنسان، إذ إن هذا سيؤثّر على قدرة «داعش» على المدى الطويل في الحفاظ على نفسه أمام تصميم المجتمع الدولي على دحره وإنهائه.

تتغيّر سيادة الدول عبر خضوعها لمنظومة معقدة للغاية، ومن الصعب بمكان معرفة أشكال القوة العالمية، السياسية والعسكرية التي ستكون عليها بعد عشر أو عشرين أو خمسين سنة من الآن. فقد تغيّر الانتخابات الأميركية الديناميات العسكرية الأميركية وقد تقرّر الصين أو روسيا أو أيّ من دول العالم الأخرى قطع أيّ صلات لها بـ«داعش». وأخيراً، يمكن لديناميات هذه الجماعة أن تعمل على تغيير مساراتها، والمؤكد أنها لا تزال تنظيماً غامضاً ومبهماً بالنسبة إلى عددٍ من الغرباء.

ومع ذلك: فلو كنتُ أنا المراهن، لوضعتُ قائمة من الخلافات الطويلة مع «داعش» قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من هزيمته. فقد يصدر البيت الأبيض عدداً من البيانات كونه يدّعي تقدّماً كبيراً وملحوظاً في الجهود لتدمير «داعش» والقضاء عليه. لكنني أشكّ بأن هذه الجماعة ستبقى قوية لأكثر من خمس إلى عشر سنوات منذ الآن. كما أنني لستُ واثقةً تماماً في شأن ذلك المقعد في مجلس الأمن، لكن لا ضير في انتظارنا لبضعة عقود قليلة!

آمل أن أكون مخطئةً في تصوّراتي هذه.

«داعش» وجذب المراهقات الأوروبيات

كتب لي سميث في موقع «Tablet Middle East»:

الفتيات في سنّ المراهقة هنّ مركز الجاذبية للغرب: صُمّمت ثقافة «البوب» الغربية، مفتاح القوة الناعمة للغرب، بما يراعي أذواق الفتيات في سنّ المراهقة.

في الواقع، جعلت الحضارة الغربية إلى حدّ كبير من العالم مكاناً آمناً للفتيات ممن هنّ في سنّ المراهقة للذهاب إلى المدرسة، والحصول على وظيفة، واتخاذ قرار في شأن الزواج. ولكن عندما تتحول الفتيات في سنّ المراهقة بعيداً، وتنضمّ إلى تنظيم «داعش»، فإن ذلك يعني أن الغرب يخسر.

أظهر استطلاع لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أن تنظيم «داعش» يحظى بمزيد من الدعم في أوروبا، بدرجة أكبر مما يحظى به في الشرق الأوسط. وأفاد الاستطلاع أن 3 في المئة فقط من المصريين، و5 في المئة من السعوديين، وأقل من 1 في المئة من اللبنانيين ينظرون بشكل إيجابي إلى تنظيم «داعش».

من ناحية أخرى، ينظر 7 في المئة في المملكة المتحدة بشكل إيجابي إلى تنظيم «داعش»، وترتفع هذه النسبة إلى 16 في المئة في فرنسا التي ينظر فيها 27 في المئة من المواطنين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة بشكل إيجابي إلى التنظيم.

يجب ألا ننظر إلى الأرقام بشكل مفاجئ. فالآلاف من الشباب المسلمين في أوروبا غادروا القارة العجوز متجهين إلى الشرق الأوسط لمساعدة زعيم تنظيم «داعش» أبي بكر البغدادي في إقامة «دولة الخلافة الإسلامية الحقيقية». مما لا شك فيه أن هناك آلافاً آخرين في طريقهم إلى القتل والموت من أجل فكرة يؤمنون بها.

لا يقتصر تأييد تنظيم «داعش» على الشباب من الذكور وحسب، إنما يتعدّى ذلك ليشمل الفتيات الأوروبيات. مئات منهن ذهبن إلى العراق وسورية للزواج من مقاتلي تنظيم «داعش».

بالتأكيد، بعض منهن، كتلك الفتاة الفرنسية اليهودية التي غادرت إلى سورية، ربما يندمن على قرارهن. ولكن هذا لا يكاد يغيّر النقطة الأساسية: سعت الفتيات نحو مقاتلي تنظيم «داعش» لأن الغرب يبدو ضعيفاً وجباناً من جهة، ونظراً إلى شغفهن «بالرجال الحقيقيين الذين هم على استعداد للقتل والموت في سبيل ما يؤمنون به».

ولكن لماذا تتجه فتيات أوروبا المراهقات نحو تنظيم «داعش»؟

فأوروبا لديها عناية صحية كبيرة، ورعاية اجتماعية، وكثيرون من الشبان والنساء ممن يتمتعون بجاذبية، وهناك تجري ممارسة الاتصال الجنسي من دون قيود، على عكس الغالبية العظمى من النساء في الشرق الأوسط باستثناء «إسرائيل». لذا، لماذا إذاً، مع الأخذ في الاعتبار الخيار بين الحياة المريحة والقتال والموت في الصحراء، يختار الآلاف من المسلمين الغربيين الخيار الأخير؟

لأن أوروبا أصبحت غير قادرة على منح حياة ذات معنى ومغزى لمواطنيها، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. هناك جيل من الشباب المسلمين في أوروبا يتخلون عن حياتهم السهلة نسبياً في مالمو، ومرسيليا، ومانشستر وينضمون إلى ساحات القتال في سورية والعراق، لأن أوروبا خالية من القيم التي تستحق العيش أو الموت من أجلها. إنهم يغادرون للسبب نفسه الذي يدفع اليهود في أوروبا للاتجاه إلى «إسرائيل»: القوة، والشعور بالقيمة التي يمكن العثور عليها في أيّ مكان آخر، سواء كان ذلك مع تنظيم «داعش»، أو الجيش «الإسرائيلي».

من جانبها، تبدي الأجهزة الأمنية الأوروبية قلقها من أن يسبب عدد كبير من المقاتلين الجهاديين الذين يحملون جوازات سفر غربية مشاكل لدى عودتهم إلى أوطانهم. إنهم يشعرون بالقلق، كما يقولون، إزاء المهارات الخاصة التي يحصل عليها المتشدّدون في الخارج، كما الحال مع مهدي نيموشيه، الفرنسي الذي قتل أربعة أشخاص في متحف بروكسل في أيار الماضي.

تغفل السلطات الأوروبية عن نقطة هامة في هذا الإطار. ربما يكون نيموشيه ذهب للقتال إلى جانب التنظيمات المتطرفة في سورية، ولكن ذلك لا يعادل إطلاق النار من بندقية آلية، فهي مهارة متخصّصة يمكنك معرفتها فقط في ساحة المعركة الجهادية. لا يعادل ذلك السفر إلى الشرق الأوسط لتتعلم كراهية اليهود.

ليست المشكلة في ما يمكن أن يعود به المسلمون الأوروبيون من الشرق الأوسط، ولكن الحقيقة هي أنهم تركوا أوروبا في المقام الأول. فـ«الخلافة» التي أعلنها البغدادي تبدو بالنسبة إلى المقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم «داعش»، خصوصاً ممن ينتمون إلى أوروبا، كحقيقة وجودية مفقودة في الأحياء الأوروبية التي يسكنها الشباب المسلمون.

ليست المسألة في أن الغرب يتمتع بالمهانة. فقط لا يؤمن الغرب حقاً بأن هناك شيئاً يستحق القتال من أجله، وهذا هو السبب الذي يدفع الآلاف من الشباب المسلمين في أوروبا للانضمام إلى تنظيم «داعش»، ويجعل الفتيات الأوروبيات المراهقات ينظرن إلى بلادهن بازدراء.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى