فعل المقاومة في انبجاس العام الدرامي من الذات الغنائي 3

الدكتور نذير العظمة في كتابه «أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ» يقدّم للقارئ دراسة تغوص في أعماق العلاقة بين الشعر والثورة، وحدود تأثير الواحد منهما في كينونة الآخر، مقدّماً من أجل توضيح ذلك أمثلة عديدة عن ثورات كبيرة وقعت كالثورتين الفرنسية والبلشفية الروسية.

لقد حاول الدكتور العظمة أن يعالج بنفسٍ فلسفي عملية الانبثاق الثوري والانبثاق الشعري وطبيعة العلاقة بين الاثنين وكذلك دور الإيديولوجية في هذا الشعر.

يتكلم المؤلف في مقدمة الكتاب ـ الدراسة عن الموروث التاريخي لدى معظم مفكرينا وكتّابنا والمتعلق بالتبعية للحضارة الغربية والانبهار بها، والتي شكّلت لوقتٍ طويل عاملاً مانعاً من توليد الإبداع عندنا.

يتوزّع الكتاب على خمسة أبواب تعالج في الباب الأول شعر النضال الجزائري والتجربة الثورية، وفي الباب الثاني اتجاهات الشهر المقاوم والكفاح الفلسطيني. أما في الباب الثالث يتطرّق إلى المرأة المقاومة، وفي الرابع يشير إلى الرؤية العربية، أما في الباب الخامس فيتكلم على الشعر المقاوم بين الوظيفة التاريخية والفنية.

و«البناء» إذ تنشر الدراسة على حلقات فلأنها تعتقد بأنه من الضرورة بمكان إبراز طبيعة العلاقة بين المقاومة والشعر، وطبيعة العوامل المؤثرة سلباً أم إيجاباً، الأمر الذي أبرزه الدكتور العظمة في دراسته.

في هذا العدد، يتناول المؤلف موضوع اقتران الشعر بالمقاومة من دون أن تحد عالميته حدودها الوطنية. ويعود الكاتب ليؤكد حداثة الشعر الوطني بفعل استعمار البلدان العربية وكذلك ما تميّزت به حركة الشعر المقاوم بانفتاحها على شعر المقاومة في العالم لا سيما المقاومة الفرنسية ورموزها: بول إيليوار ولويس آراغون. ولقد أشار الدكتور العظمة إلى أن «الشعر والفن ليسا مجرد محاكاة طبيعية بل تفاعل الفطرة مع الطبيعة والخروج من هذا التفاعل بإبداع طبيعة فنية إنسانية على الطبيعة الطبيعية».

ويؤكّد العظمة أهمية تحوّل القصيدة من طبعها الغنائي إلى مضمونها الدرامي تعبيراً عن مأساة الاقتلاع من الوطن والأرض التي خلّفتها الهجمة الأوروبية.

وبذلك تكون قد توحدت في هذا التحوّل الذات الخاصة بالذات العامة معبّراً عن ذلك بقصيدته… «محمد الدرّة». إضافةً إلى ذلك يعرض الكاتب موضوع المقاومة والمرأة والأسطورة عبر نماذج اقتطعها من قصائد لنزار قباني وبدر شاكر السيّاب، موضوعها المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد كمثال على تجسيد الأسطورة في الواقع حينما جرى النظر إلى جميلة وكأنها عشتار في إخصاب الإنسان والتراب.

الشعر فن من فنون القول. له شروطه ومواصفاته. وهو سابق على المقاومة. يدخل في تاريخ الآداب العالمية. ويتميّز بأجناسه الملحمية والقصصية والدرامية والتعليمية والغنائية. كما يتميّز بتنوع مصطلحه وأساليبه. والشعر كالعلم والفلسفة والدين والتاريخ مقولة أساسية من مقولات الحضارة وتجلياتها. يأخذ منها. وتأخذ منه. لكنه يخضعها للتخييل والحدس والإحساس والغناء.

أما المقاومة فهي فعل ينبثق من الانتماء إلى هوية قومية أو وطنية مخصوصة، متى تهدتها المخاطر. وأحاط بها العدوان والويل.

والمقاومة قد تكون بالسلاح، أو بألف بالفكر والسياسة والشعر، أو بها جميعاً. لكنها ليست لها عالمية الشعر. فاقتران الشعر والمقاومة ليس عالمياً. وهو محصور بالأوطان والأمم التي خضعت للاحتلال من الأمم الأخرى أو الاستيطان.

لذلك كان ترتيب العنوان محافظاً على أولوية الشعر. فالمقاومة عطفت عليه.

والأغراض الشعرية أو موضوعاته لها أيضاً صفة العالمية. فمعظم التقاليد الشعرية في العالم تحتوي أغراضاً من مديح ورثاء وهجاء وغزل واعتذار تبلور تقنيات فنية لهذه الانفعالات والعواطف.

فالشعر العربي، والشعر الأوروبي بلغاته المتعددة. سواء في هذه الأغراض. لكنهما ليسا موحدين. فعلى حين أن الغزل عالمي ومثله الرثاء والمديح والهجاء إلا أن الخمريات والطرديات والاعتذاريات قديماً لا تتوفر في التقاليد الشعرية الأخرى توفرها في شعرنا العربي لأسباب نفسية واجتماعية وتاريخية لسنا في مجال التفصيل فيها في هذه الدراسة.

كذلك الشعر الوطني أو ما يطلق عليه القوميات والوطنيات سواء في الدفاع عن الوطن أو الحنين إليه. فهو من أغراض القصيدة العربية الحديثة. نشأ جراء استعمار البلدان العربية أو الهجرة منها إلى العالم الجديد.

أما شعر المقاومة فهو أكثر توفراً في التقاليد الأدبية الأخرى من الشعر الوطني لتوفر الأسباب التي توفرت لشعرنا. وأعني الاحتلال والعدوان. فالحرب الأهلية الإنسانية بين الجمهورية والفاشية 1936م خلقت شعرها المنبثق من حركة مقاومتها. كذلك حركة المقاومة الفرنسية إبان الاحتلال النازي لفرنسا في الحرب الكونية الثانية، وحركة المقاومة السوفيتية للغزو الهتلري لموسكو والأراضي الروسية.

أما عندنا في الشعر العربي في الشعر الوطني شعر المقاومة توأم تولّد الأول بدافع الحركة الاستعمارية والثاني بعامل الاحتلال للأرض العربية وعدوان الحركة الصهيونية على فلسطين وسورية ولبنان بنيّة الاستيطان. والعدوان على العراق وتونس ومصر لحماية هذا الاستيطان.

تحكّمت بشعر المقاومة عوامل عدة. وساهمت هذه العوامل بإعطاء هذا الشعر تياره وملاحمه وشكله.

أولاً: شعر المقاومة رافد من روافد حركة الشعر العربي الحديث ككل، على رغم تفاعله مع الواقع الوطني وظروف الاحتلال، إلا أنه ورث أدواته ومفرداته الفنية من تقاليد ومصطلح القصيدة العربية شكلاً ولغةً وإيقاعاً، كما استفاد من حركة الحداثة الشعرية وما رافقها من مذاهب وتيارات فكرية وفنية على المستويين القومي والعالمي.

ولا نذيع سراً إذا أعلنا أن حركة المقاومة الفلسطينية لم تكن حكراً على الفلسطينيين، بل شاركهم فيها إخوانهم بالعروبة ولا سيما سورية ولبنان والأردن ومصر والعراق. وكما في الحياة كذلك في الشعر. فما من شعر المقاومة شارك به الرواد قبل أن يتبلور ويتركز بأسماء بعينها من فلسطين. وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد في ديوان بدر شاكر السياب ونزار قباني وعمر أبي ريشة وبدوي الجبل وغيرهم قصائد عديدة يمكن أن تندرج في شعر المقاومة.

استنفرت الثورة الجزائرية قرائح الشعراء لا في الجزائر فحسب بل في العراق وسورية ومصر وغيرها. فلنزار قباني قصيدة بعنوان جميلة بوحيرد وكذلك للسياب قصائد عدة حول جميلة وغيرها من رموز المقاومة.

وقد أصدرت مجلة شعر في بيروت عدداً خاصاً و17 شتاء 1961م عن شعر المقاومة لنا فيه قصيدة سمفونية بعنوان: «شعر النضال الجزائري على ضوء التجربة الثورية» 1 .

ويمكن القول: إن قصيدة الشعر المقاوم كما عرفناه عند الثلاثي محمود درويش وتوفيق زيّاد وسميح القاسم مدينة إلى الشعر الوطني روحاً كما عند ابراهيم طوقان وأبي سلمى وغيرهما. كما هي مدينة من حيث الشكل إلى حركة الشعر الحديث لا سيما في مرحلة الريادة وما حققته هذه المرحلة من إنجاز في شكل القصيدة العربية ومصطلحها وإيقاعها.

كما استفاد هؤلاء من شعر المقاومة كما عبر عنه شعراء غير فلسطينيين من الطليعة العربية.

وتميزت حركة الشعر المقاوم بانفتاحها على شعر المقاومة في العالم لا سيما حركة المقاومة الفرنسية ورموزها كبول إيليوار ولويس أراغون ومن قبلها شعر الثورة الأهلية الإسبانية.

فبالإضافة إلى عقيدة الالتزام التي أنزلت الشعر الفن من برجه العاجي إلى الحياة والواقع قام مذهب الواقعية الحديثة بمصطلح النقد الأوروبي والواقعية الاشتراكية بمصطلح النقد في الفكر الماركسي بترسيخ علاقة الشعر أو الفن بالواقع كان بابلو نيرودا وناظم حكمت من أعلامه وغارسيا لوركا عدّ من طلائع هذا الاتجاه الذي تأثر به في العراق مع عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب وشعراء المقاومة الفلسطينية الذين مرّ ذكرهم.

تعوّدنا من الشعر أن يستلهم الفطرة والطبيعة وأن ينهل من الوجدان ونبض القلب مما جعله يستحق المصطلح: الشعر الغنائي أو الوجداني. لكن التراكم الشعري لقرائح وفطرات أجيال شعرية متعددة جعلت الشعر يتولد لا من الطبيعة الطبيعية والإنسان فحسب. بل من الذاكرة الفتية أيضاً. فأصبحت القصيدة تلد ولادة حضارية بمعنى أن تراكم الشعر في الوجدان والذاكرة جعل الشعر يتولد من الشعر بالإضافة إلى نبض القريحة والفطرة.

ففي مدرسة البديع متمثلة بابن المعتز تنوعت الصور الشعرية بين البياتية والحسية وفقاً لمصطلحات شعرية بلاغية تعبق بأكثر من حاسة السمع التي تكفلها الإيقاع العروضي ونسق التقفية.

انظر قوله في وصف الهلال:

انظر إليه كزورق من فضة

قد أثقلته حمولة من عنبر

فتشبيه الهلال بالزورق يستدعيه شكله المجوف وجعله من فضة إشارة إلى توهجه وإشعاعه النوراني وترشيح التشبيه أثقلته حمولة من عنبر يصف حركته المائلة وعبق العنبر فيدعم حاسة العين بحاسة الشم تعانقهما حاسة السمع بإيقاع البحر الكامل ونسقه الموسيقى.

وتتألف الحواس أو معظمها لتعبر عن استجابة النبض الإنسانية متمثلاً بالفطرة الشعرية إلى الطبيعة الطبيعية. ما يذكرنا برأي أرسطو في كتابه وتفسيره للإبداع الشعري بأنه محاكاة للطبيعة. إلا أننا أميل إلى القول إن الشعر والفن عامة ليس مجرّد محاكاة للطبيعة. بل تفاعل الفطرة مع الطبيعة والخروج من هذا التفاعل بإبداع طبيعة فنية إنسانية على الطبيعة الطبيعية.

لكن توسّل الحواس للتعبير عن الفطرة الشعرية لا يكتفي عند أبي تمام وأبي العلاء والمتنبي وغيره باهتزازات الرؤية المسموعة المشمومة أو الملموسة بل يضيف للشعر أن يعانق اختلاج الفكر نبض القلب أو نبض الاختلاج ليعبّر عن الاستجابة الشعرية للصورة الطبيعية. فيركب الشعر تركيباً إبداعياً آخر. لا يعكس محاكاة الطبيعي بقدر ما يعبر عن التصور الشعري الذي يقدّم رؤية إنسانية لا تحاكي الطبيعي بقدر ما تبتكر أو تبدع من خلال الوجدان والمخيلة وألق الفكر طبيعة فنية.

انظر مزاوجة نزار قباني للطبيعتين الطبيعية والفنية في وصفه لشعر الحبيبة في قوله:

يا شعرها على يدي

شلال ضوء أسود

ألُمُها سنابلاً

سنابلاً لم تحصد

وقول المتنبي في شعب بوّان:

يقول بشعب بوان حصاتي

أعن هذا يسار إلى الطعان

بعد قوله:

وألقى الشعر منها في ثيابي

دنانير تفرّ من البنان

يعني في رأي المتنبي:

كيف نترك هذا الجمال الطبيعي؟

ونذهب للحرب…

هذا اللمح الإنساني نبض للقلب يتألق في اختلاج الفكر ليعبر المحسوس عن استجابة النفس الإنسانية للطبيعة والحياة.

تغيّرت الحياة وتغيّر الشاعر معها فتغيرت القصيدة العربية الحديثة بما فيها قصيدة المقاومة. فالشاعر الحديث يعبّر عن حياته الحديثة بكل ما فيها من صراع داخلي للذات وصراع خارجي مع الآخر. لم يعد يحاكي التراث في نماذجه الخالدة. بل يبتكر نماذجه الشعرية من تجاربه الحاضرة مستفيداً من جذوره الثقافية والأدبية ومشرعاً أبواب مخيلته وفكره للتراث الإنساني في حيويته الحاضرة وموروثه ومخزونه الضخم متمثلاً وهاضماً أبرز روائعه. فقصيدة المقاومة عندنا لم تكن معزولة عن تجارب الآخر الشعرية وصراعه مع الاحتلال أياً كان نوعه نازياً أو فاشياً أو إمبريالياً. تغيرت مضامين تجارب الشاعر العربي الحديث فتغيّر معمار القصيدة وتغيّرت بنيتها ولغتها ورموزها وإيقاعاتها العروضية وأساليبها.

وانفتح الشعراء على التجارب الشعرية الحديثة في العالم. فتعرفوا إلى النزعات الجديدة في أوروبا في شقيها الغربي والسوفياتي وأثرها في الإبداع الشعري الحديث في أميركا اللاتينية وبعض من الأقطار في الشرق.

فالواقعية الحديثة بانتشارها على مساحة هذه البلدان كان لها الأثر الأوسع كما أن شعر المقاومة الفرنسية لبعض شعراء السوريالية لم يكن في معزل عن تأثر مماثل.

والحداثة الغربية بشكليها الأوروبي والإنكلوسكسوني وجدت طريقها إلى نطاق واسع من الطلائع الشعرية.

فالإبداع الشعري لم يبقَ رهيناً لحركات الإحياء بل مارس مغامرات جريئة مع جماعة أبولو ومجلة شعر ومحبي الرومانسية والرمزية السوريالية عن طريق الترجمة أو إتقان اللغة الأصلي.

استطاع شعراء الوجدان أن يطوروا القصيدة الغنائية إلى قصيدة درامية لا تتكلم عن ذات الشاعر وهمومه فحسب بل تعبر عن مأساة الاقتلاع من الوطن والأرض التي خلفتها الهجمة الأوروبية.

المغرب العربي الكبير ووادي النيل بتوسّع استعماري أبقى الأراضي المغزوّة تحت الوصاية والسطوة. واضطر إلى احتلال المنطقة العربية من الهلال السوري الخصيب إلى الجزيرة العربية والخليج العربي وطريق الحرير إلى الهند. ورغم عدم توازن القوى بين المستعمِر والمستعمَر إلا أن الشعوب استطاعت أن تستعيد حرياتها، وتمارس تقرير المصير، وتحوز على استقلالها وحقوقها بالتطورات التي شهدها العالم بعد حروب عالمية تغيرت خلالها العلاقات السياسية والاقتصادية بين الشعوب وبزغت استراتيجيات دولية حديثة تغير ترتيب الصلات بين المستعمِر والمستعمَر، وواجهت بعض الأوطان لا الاستعمار بل الاستيطان كما في الجزائر وبعض البلدان الآسيوية لفيتنام اللتين حققتا تحركهما بثورات شعبية ناجحة طردت القوى الغربية واقتلعتها من المستوطنات التي كانت بمثابة قلاع استراتيجية لتحقيق مصالحها العليا.

وتفجر الوجدان الشعري بقصائد تعبر عن التوق إلى حرية تامة لا تحدّها وصاية أو رعاية. ظلت الذات هي الينبوع الذي يصدر عنه الشعر. ولكنه بنبرة حديثة تتوحد فيه الذات الخاصة بالذات العامة بتغنٍ وجداني درامي يعبّر عن الهوية والانتماء ويتفجر بعاطفة سخية صادقة صادرة عن تجربة شاعر ينطق باسم الجماعة لا ذاته فحسب كما في قصيدتنا.

محمد الدرة يخاطب أباه

أبي يا أبي ليت هذا الجدار

يرد لروحي جسمي النحيل

يؤزّ الرصاص وكفاك باللحم

تدفع عني حدّ الصليل

أبي فلأمتْ ضمني ضمني

قبل الوداع وقبل الرحيل

فإخوتي الجائعون هناك

ولا خبز ولا ماء يشفي الغليل

وأم تضم الفراخ الصغار

وقلب يرف على المستحيل

أبي فلأمتْ قبل أن يقتلوك

فإنك أنت المعين المعيل

وأغمض جفني على صورة

مثل السنابل فوقي تميل

نموت هنا تحت جفن الورى

وسنسقط مثل جذوع النخيل

وهذي فلسطين شاردة

تفتّش عن ضامن أو كفيل

صهاينة جردت نابها

لتفترس القدس بعد الخليل

وقناصة ليس في شرعهم

سوى القتل، فالموت ليل طويل

تغطّ على الحقل مثل الجراد

فيغتصب الحقل رحم الحقول

أبي يا أبي إن روحي

تفيض على الأفق مثل جراح

وكيف نخصّب هذي الحياة

بغير الدم الحر في كل جيل

نصبّ على الأرض أرواحنا

فيصفو التراب وزهو الحقول

أبي يا أبي صار جسمي

لقلبي المروّع ترساً ضئيل

فمدده حولك حتى يصونك

يا أبتي في الزمان البخيل

نموت ولكننا عائدون

ونفنى لنرجع مثل الفصول

على صخرة القدس أرواحنا

ترفرف مثل الضياء الجميل

إذا كان من حلمهم أن

وشرعهم قاتل أو قتيل

فإنا سنطلع في عتمهم

شموساً تزيح الظلام الثقيل!!! 2

المقاومة والمرأة والأسطورة

جميلة بوحيرد عند القباني بين الصورة والأسطورة قصيدة نزار قباني «إلى جميلة بوحيرد» مهمة لأنها أولى قصائد نزار في المقاومة ولأنها تخرج الشاعر عن عالمه الذاتي والغنائي إلى صورة مضموعية عن المناضلة الجزائرية.

إنه يرسم لنا صورة محسوسة. ويحاول أن يعمّقها بالإيمان والنضال.

نزار الذي يستغرق في الذات من قصائده عن المرأة يخرج إلى الموضوع في هذه القصيدة ولكنها لا تزال تحمل بصمة نزار الجسد. الجسد هو كل شيء اضطهاد الجسد هو اضطهاد للروح كسر شوكة الإيمان في الداخل، لا يتأتى بكسر الجسد.

الجسد كما عرّفه نزار في قصائد الحب وجهاً وشعراً وصدراً ونهداً لكنه في القصيدة إياها يتعرّض الجسد لا للإعجاب بل للعذاب والنار.

وولع نزار بالرسم قديم، لقد حاول في بداياته أن يكون رساماً لكنه قفز إلى الشعر.

إنه في قصيدة المناضلة الجزائرية يرسم لنا صورة شخصية عنها رقم زنزانتها تعبّدها في السجن وقراءتها للقرآن سورتي «الفتح» و«مريم» وانتقاء السور هنا مناسب للمناضلة المسجونة، لكنه لا يزال الشاعر الغزلي حين تشد عينيه صور الجمال والبهاء في المرأة.

عيناي كقنديلي معبد

يقرّب التقوى ويستبعد الشهوة في هذه الصورة، لكنه يتخطفه الشوق هنا وهناك إلى سيماء الفتنة وملامحها:

والشعر العربي الأسود

كالصيف كشلال الأحزان

في الصدر استوطن

زوج حمام

والثغر الراقد

غصن سلام

لكنه مع اهتمامه بصورتها الحسية يؤكد صورتها المعنوية:

امرأة

من قسطنطينة

لم تعرف شفتاها الزينة

لم تدخل حجرتها الأحلام

لم تلعب أبداً كالأطفال

لم تُغرم في عقد أو شال

لم تعرف كنساء فرنسا

أقبية اللذة في بيغالْ 3 .

ثم يأتي بعد رسم الصورة في الشكل والعمق صراخ الشاعر:

هل تحت الكوكب

يوجد إنسان

يرضى أن يأكل.. أن يشرب

من لحم مجاهدة تُصلب؟

انتصروا الآن

على أنثى

أنثى كالشمعة مصلوبة..

ثم يختم بالكلام عن التاريخ والمعاضلة وصور العذاب:

القيد..

يعضّ على القدمين

وسجائر

تُفْقأُ في النهدين

تاريخ امرأة من وطني

جلدت مقصلة الجلاد

ما أصغر جاندارك فرنسا

في جانب جاندارك بلادي

نزار في هذه القصيدة يمزج الذاتي بالموضوعي. ويستخدم مفردات الغزل والحب وربما بعض صور الشهوة. الشعر والنهدان في سياقات الاضطهاد والعذاب.

ونحن نعلم أن الوصف وهو من أغراض القصيدة التقليدية هو أقرب إلى الشِّعر الموضوع منه إلى الذاتي خلافاً للأغراض الأخرى.

لكن نزار يرسم الصورة الحسية ويعمّقها بضربات ريشة تهتم بالأبعاد المعنوية.

وتخليد التضحية بالذات هو الذي يرقى بالإنسان إلى الاستقلال لا بل الخلود. إلا أن الاضطهاد والعذاب هما الجسر الذي يقود إلى فردوس الحرية، جميلة بوحيرد تستدعي جاندارك وحريقتها إلا أن شهيدة الجزائر أسمى من شهيدة فرنسا… وهو موقف ذاتي محض يعبّر عن غضب كامن.

نزار يستهل قصيدته بمعادل وصفي إذا صحّ التعبير ولكنه يتوسطها ويختمها باختلاج الذات ولمعانها.

فهي مزيج من شعر الوجدان الذي تتقمّص الذات الموضوع وتقنع بالصورة لتلامس الأسطورة.

لكن نزار يعود إلى الحقيقة والتاريخ في «قصيدة» آخر عصفور يخرج من غرناطة ويجعل مأساة فاطمة وخروجها من الجنوب مأساته ومأساتنا جميعاً.

جميلة بوحيرد عند السيّاب بين الأسطورة والتاريخ

ظل نزار قباني في قصيدته عن جميلة بوحيرد مشدوداً إلى الواقع وصورته التاريخية المحسوسة لذلك لجأ إلى الوصف والصورة: ليعبّر عن الذات حتى لامس الأسطورة. أما بدر شاكر السيّاب فينطلق إلى الفكرة فكرة الفداء والتضحية في معاناة الشهيدة الحية جميلة ولكنه يستدعي تجليات هذا الفداء وهذه التضحية في سيرورة التاريخ. فالموت شهادة أو اضطهاداً هو طريق الحياة يتجلى في التاريخ كما يتجلى في الأسطورة.

ويخرج السياب في مقدمة القصيدة والخاتمة بنضال جميلة وعذابها في إطار الثورة الجزائرية إلى إطار النضال القومي بتجلّيه التاريخي والإنساني. فيتوسل الأسطورة الحية لتزحزح طغيان الداخل لا طغيان الخارج فحسب بينما يكتفي نزار بتأكيد القيمة الإنسانية بالحوار مع الآخر الفرنسي الذي يشاركنا بهذه القيمة لكنه في الخاتمة يترك النبرة الشعرية كاملة للنعرة القومية:

ما أصغر جاندارك فرنسا

في جانب جاندارك بلادي

وحين يستدعي نزار الأسطورة والصلب يستحضرهما لفظاً معرّى من الطقوسية والبعد الأسطوري، ويكتفي بالاعتزاز بجاندارك بوحيرد ولوم الآخر الفرنسي لخروجه على القيم الإنسانية.

ويختار بحراً يلائم الحديث المحكي وهو بحر الخبب، ورغم اعتماده على شكله المنطلق أو الحر وتوزيع التفعيلة توزيعاً متفاوتاً في الأسطر لا متساوياً، إلا أن لجوءه إلى الوصف والصورة الحسية يسبغ على القصيدة مسحة كلاسيكية. ولعل القباني كان محكوماً في هذا بتوجّه إلى قاعدة متلقين عريضة تستوجب الرنة الحماسية وحساسيتها الموروثة إلى جانب القصيدة اللوحة التي رسمها لجميلة. فالتزم نسقاً متنوعاً من القوافي إلى جانب تفعيلة الخبب المنطلقة التي أعطته مساحة نسبية من الحرية ليتوجه إلى الجماهير لا النخبة في قصيدة: جميلة بوحيرد.

قصائد السياب عن المقاومة الجزائرية أو ثورتها تخرج من إهاب المناسبة إلى رؤية ثورية ككل. تجسّد النزوع الثوري في العراق ومقاومته للطغيان الذي وقف السياب وشعره على النضال ضده، نزوع ثوري يعبر عما في الجزائر والعراق في آن في الأفق العربي.

ففي قصيدة «رسالة من مقبرة» يبعث الشاعر من قاع قبره في العراق رسالة إلى المجاهدين الجزائريين:

من عالم في قاع قبري أصيحْ

لا تيأسوا من مولد أو نشور

يشارك.. في وهران، أصداء صورْ.

سيزيف ألقي عنه عبء الدهور

وأستقبل الشمس على الأطلس..!

آه لوهران التي لا تثور

ووهران هذه في خاتمة القصيدة ليست وهران الجزائر. إنما هي بغداد التي لا تثور. وربما المدن العربية الأخرى.

أما خاتمة قصيدة «إلى جميلة بوحيرد»

إنا سنمضي في طريق الفناء.

ولترفعي أوراس حتى السماء

حتى تروى من مسيل الدماء

أعراق كل الناس، كل الصخور

حتى نمس الله.

حتى نثور

إن جميلة التاريخ بالفعل الثوري تجعلنا نرفع أوراس حتى السماء أوراس الثورة حتى نمسّ الله حتى نثور، وهران التي لا تثور في قصيدة «رسالة من مقبرة». تندفع إلى الثورة بفعل الفداء والتضحية، وبذل الدم الذي يرتقي بنا إلى المقدس. أما افتتاحية قصيدة «جميلة بوحيرد» فهي تعبّر عن الإحباط الثوري نفسه الذي عبرت عنه «رسالة من مقبرة» ولكن بصورة مجازية مختلفة.

قاع القبر فيها يعادل في «قصيدة إلى جميلة…»:

باب علينا من دم يقفل

ونحن في ظلمائنا نسأل

إن عربد الوحش الذي يطعمون

من أكبد الموتى فمن يبذل

إنها جميلة المشبوحة الدامية التي ترفعنا من ظلمة الطين إلى سموات الدم:

حيث التقى الإنسان والله، والأموات والأحياء في شهقة، في رعشة للضربة القاضية

في ذلك الموت، المخاض، المبغض، المنفتح المقفل.

ونحن؟ أم أنت التي تولدين؟

فالموت الذي تعقبه الولادة هو

من فعل الإنسان الثورة الذي يهجم على

الموت فتنفتح له بوابة الحياة

السيّاب يؤكد الولادة والموت بينما يكتفي نزار بالعذاب والموت من دون الإفضاء إلى الولادة. ومع أن كلاً من الشاعرين استخدم تقريباً مفردات متشابهة: السجان، القيد، المقصلة، الوسط، الجلاد. لكن «مجاهدة تصلب» عند نزار لا تحيل القارئ على الطقس المسيحي بينما الجلجلة «ومشبوحة الأطراف فوق الصليب» والميلاد والجنين والموت كافية عند السياب لتأخذنا إلى ذلك. ففكرة الفداء والحياة والولادة من الموت هي التي تتحكم بالبيان في قصيدة السياب بينما تشكل الصورة ومصاحبتها من تداعيات وجدانية أو عاطفية هي مسار القصيدة عند نزار.

ولا يكتفي السياب بصور الفداء المسيحي والموت الذي يقود إلى الحياة في الهيكل الإنساني بل يقرن ذلك بصورة طقوس الخصب في الأسطورة الوثنية. فجميلة إن هي إلا دوحة عارية يعيدها الدم الثوري كما يعيد الأطلس أخضر ورّاقاً عبقاً.

والدمع الذي تذرفه جميلة يتحوّل إلى أسلحة في أذرع الثائرين.

ويلتفت السياب من الضحية إلى تاريخ الفداء والتضحية.

فالتضحية للحجر والأنصاب للاستسقاء وخير المواسم. وأضحيات الأنعام خوفاً من الأقدار من السماء أو اجتلاباً للأمن والبركة.

حتى جاء عصر الأنبياء والرسل وتجسّد الإله:

وجاء عصر سار فيه الإله.

عريان. يدمى، كي يروي الحياة.

إلا أن الفداء في الأزمنة الحديثة في الثورة وبذل الدماء من أجل خير الجماعة والنماء والإنسان. حتى ينعطف الشاعر على يثرب والنبي اليتيم الذي حطّمت دعوته روما وفارس لتنطلق مصر وسورية والعراق وأرض الثورة في الجزائر حيث يا جميلة:

وأرى قومك الآلهة

فالسيّاب يعقلن الفداء بهذه اللحمة التاريخية ويعرّج على الأديان وثنيتها وموحدها إلى أن يستقر في فعل الثورة.

ويقارن بين جميلة وعشتار فيرجع الخصب الثوري على الخصب الوثني عشتار أم الخصب، والحب، والإحسان، تلك الربة الوالهة، لم تعط ما أعطيته، لم تروِ بالأمطار ما رويت قلب الفقير ، ثم يستعين بأسطورة قابيل وهابيل فالحضارة تخفي تحت بهرجها وبروحها القتل إلا لأن الإنسان لا يتهاوى رغم تشامخه بروح المدنية والمال.

ويخاطب السياب جميلة قائلاً:

لم يلقَ ما تلقين أنت المسيحْ

أنت التي تفدين جرح الجريحْ

يا أختنا يا أم أطفالنا

يا سقف أعمالنا

يا ذروة تعلو لأبطالنا

تعلين حتى محفل الآلهة

كالربة الوالههْ

ثم يختتم القصيدة بما ابتدأها بخاتمة مدورة ويعود إلى:

باب، علينا من دم، مقفل

وبما يشبه الدعاء والصلاة يتمنى أن تفتحه جميلة وتروي قلب الحياة بدماء ليرتفع أوراس حتى السماء وتثور بغداد كما تثور وهران، ويتقدّس الإنسان إله بالثورة.

القصيدة مُحكمة في مطلعها واستهلالها، والتدوير أي الاختتام بما بدأ به الشاعر في المطلع يستكمل حلقة إحكام القصيدة. لكنها بالمقارنة مع قصيدة «رسالة من قبرة» التي اتفقت معها بمضمون الثورة الجزائرية ومقاومتها. كما اتفقت معها بنزوع التوفيق بين الثورة والمقاومة في الجزائر. والمقاومة ضد الطغيان والإنكليز في العراق وثورته الكامنة، إلا أن قصيدة إلى جميلة بوحيرد تشكو من ازدحام الرموز التي تنتمي إلى مراحل مختلفة من التراث في القصيدة الواحدة بينما الصورة واحدة والرمز واحد في قصيدة «رسالة من مقبرة» بسعة القصيدة.

فالسياب في قصيدة «إلى جميلة…» يحاضر في تاريخ الفداء أكثر من تخييل لفكرة الفداء، المخيلة والحدس هما من أدوات الشاعر. وأهم مصادر القوة في شعره. بينما التصنيف هو من أدوات المؤرخ. ولا نعتقد أن الفداء في مراحله الوثنية والتضحية للأنصاب أو خوفاً من الأقدار أو رغبة في التأثير فيها لصالح الإنسان. كما يمكن للشاعر أن يكثف الصورة التاريخية للصلب وصورة الاضطهاد والعار والهجرة من الموت كما في السيرة النبوية، فالإنسان الإله الذي يدمى من أجل البشر هو في الجوهر إنسان الثورة.

قد تستدعي جميلة بوحيرد عشتار ودورها الأسطوري في خلاص تموز وصعوده من العالم الأسفل إلا أن السياب بدلاً من تخييل وحدس هذا البعد لجأ إلى المفاضلة بين دور عشتار ودور جميلة. مفضلاً طبعاً التاريخ أو جميلة بوحيرد على الأسطورة أي عشتار وسياقاتها الرمزية.

ما باعد مركزية القصيدة ووحدتها وأضعف وحدة التأثر فيها، مع أن القصيدة لا تشكو من وحدة الموضوع. إن وحدة الصورة والرمز بسعة القصيدة أمر ضروري لوحدة التأثير التي توفرت في قصيدة «رسالة من مقبرة» ولم تتوفر في قصيدة «إلى جميلة…».

والقصيدة أي قصيدة، إنما تقدر بـ«كيف نعالج الموضوع» وكيف نصوّره لا بالموضوع ذاته. لقد استقرأنا ما يقارب الخمسين نصاً عن الثورة الجزائرية، لم يستوقفنا واحد منها. والنصوص التي حللناها فوق بالإضافة إلى قصيدتنا فرنسا والريح المجنونة هي في رأينا من أهم ما قيل فيها.

ومع أن السياب يفضل في هذه القصيدة: جميلة التاريخ على عشتار الأسطورة، إلا أنه يسند لجميلة وظيفة عشتار في إخصاب الإنسان والتراب فكأن الثورة هي استدعاء تموز من العالم الأسفل واسترداد الحيوية الربيعية للأرض.

مراحل الفداء في التاريخ في رؤية السياب أدت الواحدة إلى الأخرى لكن الثورة في النهاية اختزل وظائف الفدية والأضحية والصلب واضطهاد النبوة. وقاد إلى انتصار الحياة والثورة.

هوامش

1 – محمد محي الدين الشعر الثوري والشعراء العرب العدد نفسه ص 145-150.

2 – محمد الدرة هو شهيد من شهداء أطفال الحجارة.

الثلاثاء المقبل حلقة رابعة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى