الأسد يصادق على معادلة رابح ـ رابح… زمن التحول بدأ

د. محمد بكر

ما يحدث من حراكٍ سياسي وتطورات ومشاهد وجزئيات تختلف كلياً عن سابقاتها شكلاً وتؤسّس في المضمون لصيغة سياسية موحدة، لا يحتاج إلى الكثير من التحليل النوعي والدراسة المعمقة، لإدراك التحولات السياسية والانعطافات الملحوظة التي بدأت تتبدّى في سلوك الأطراف والجهات التي كانت تنتهج السياسة التصعيدية وتغذية العسكرة وتأجيج النيران في الحرب السورية، لتحقيق أهداف بعينها، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة ومن سيناريو إلى آخر في محاولة حثيثة لشطب الدولة السورية من الخريطة لجهة تغييب دورها المهم في المنطقة وتحويلها إلى ليبيا ثانية، عند هذا الهدف تحديداً فشلت كل تلك المراحل والسيناريوات المعدة لسورية، أبدى الجيش السوري ومناصروه وحلفاؤه على الأرض ثباتاً فريداً، وعند عقيدته وإيمانه ويقينه كمؤسسة لها جذورها الراسخة في التراب الوطني، سقطت رهانات المراهنين على تجزئته وتفككه وانحلاله، وكل ما يصدر من تصريحات نارية تصعيدية أميركية حول الرئيس الأسد ودوره في المرحلة المقبلة من جهة، وحول دور «خطير» لروسيا في لعبة الأمم من جهة أخرى، ما هي إلا محاولات «للتعكير المعنوي» على الصفو التوافقي، فما أسسه الاتفاق النووي بين إيران والسداسية الدولية لجهة انقشاع ظلال الحرب المشؤومة بحسب تعبير الرئيس روحاني، يؤكد بشكل قطعي أنّ المحاولات الأميركية للتشويش على معادلة رابح رابح هي محاولات نظرية فقط، لا يمكن أن يقدّم فيها الأميركي أو أي من حلفائه لتخريب السيناريو المتوازن، و«طبخة» التوافقات التي سينال من حصصها الجميع، إذ يدرك الأميركي أن إفشال ما توصل إليه من اتفاق مع إيران، وتفجير الحالة المستعرة بنيران الإرهاب والذهاب بها بعيداً إلى أماكن أكثر كباشاً، إنما سيجلبان المآلات المقيتة للجميع، وتتنامى فيها حدود الفوضى إلا ما لا نهاية، ومن دون أي استثناء لجغرافية بعينها.

ما تفجر من صمود على الأرض السورية في مواجهة المجاميع الإرهابية، ما زالت تقاتل فيه الدولة السورية في السنة الخامسة من عمر الحرب، واستطاعت التكيف والتعامل مع أصعب الظروف وأعقدها وأكثرها حساسية، وأطاحت بجملة من السيناريوات التي كانت معدة، أمام ذلك كان لزاماً أن تكون سورية آخر المصادقين، ومولداً لمعادلة رابح رابح التي يقودها الروسي وبترحيب أميركي وفق ما أكدته مصادر دبلوماسية أميركية بأنّ الولايات المتحدة ترحب بالحراك الروسي لإيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية، هذه المصادقة التي جاءت كختام الكلام الممهور. سورياً، رحب الرئيس الأسد في مقابلته الأخيرة بالتعامل مع أيّ جهد يسعى جدياً لمواجهة الإرهاب حتى وإنْ كان مصدر هذا الجهد ممن كان في مرحلة معينة داعماً وصانعاً للإرهاب، إذا كان ذلك على قاعدة «مراجعة المواقف وتقييم السلوك ومحاولة تصحيح الانحراف»، إضافة إلى ما عده الرئيس الأسد أولوية في المواجهة مع الكيان الصهيوني، وهو مواجهة أدواته في الداخل السوري التي تشكل خطراً أكبر من «إسرائيل»، وهي الرؤية ذاتها التي تتقاطع مع حليفه حزب الله الذي عدّ في وقت سابق المواجهة مع المشروع التكفيري مواجهة وجود، وعندها تؤجل المعارك الأخرى، ما يتقاطع أيضاً مع إعلان الإيراني انقشاع ظلال الحرب المشؤومة التي لا تحتاج إلى الكثير من التقصي لإدراك أنّ «إسرائيل» طرف أساسي ورئيسي فيها. وفي السياق ذاته يمكن قراءة وفهم ما يجري فلسطينياً من صياغة هدنة طويلة الأمد مع الكيان الصهيوني، وافقت عليها أشد حركة كانت من المتوقع أن تفشلها، وهي حركة الجهاد الإسلامي على لسان أمينها العام الذي عدها هدنة موقتة لرفع المعاناة والحصار عن الشعب الفلسطيني، وفي اعتقادنا عند هذه النقطة، وعند هذا التفصيل التوافقي بين أطراف محور المقاومة، تمّ التوافق على معادلة رابح رابح بما ينهي فصولاً أكثر دموية، وسيناريوات أكثر سوءاً للمنطقة برمتها ستطاول حممها ونيرانها الجميع، لذا كان التحوّل «وليس الربع الساعة الأخير»، تماماً كما أعلن الرئيس الأسد، السبيل الأقلّ كلفة على قاعدة «مجبرٌ أخالك لا بطل» لجهة مواجهة جملة من الوقائع والمشاهد التي ألزمت الولايات المتحدة وحلفاءها على التحوّل السياسي الحاصل، هذه الوقائع التي يمكن إيجازها في الآتي:

– فشل السياسة الأميركية وكذلك سياسة حلفائها، في تقويض وضبط إيقاعات ما تمّ تصنيعه على أعينهم من إرهاب بات يضرب في الجغرافيا غير الموضوعة على الخريطة الغربية.

– فشل المحاولات الأميركية التي استمرت على مدى سنوات في خلخلة الساحة الإيرانية وتفجيرها من الداخل، كذلك لم تؤدّ العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران أي دور استراتيجي في لجم السياسة الإيرانية، بل على العكس استطاعت الجمهورية الإسلامية تطوير قدراتها الدفاعية، ومضت قدماً في تعزيز نشاطاتها النووية وإثبات تفوّقها وقدرتها وإبداعها في هذا المجال وتالياً لم يجد الأميركي بداً من التعامل والاتفاق معها، إضافة إلى دورها الفاعل في إجهاض الكثير من المشروعات وقتل جملة من الأحلام الأميركية في سورية والعراق.

– تكرار الفشل في غير موضع على مدى سنوات الحرب السورية، تصدّرت فيها قوى وجهات إقليمية في تحقيق إنجازات نوعية على الأرض السورية وتحديداً في جبهتي الجنوب والشمال، وما كانت قد تعهّدت به تلك الجهات من تحقيق تحوّلات استراتيجية وبجدول زمني، لم يتحقق أيّ منها، ربطاً مع الفشل ذاته الذي يحصده اليوم التحالف السعودي في عدوانه على اليمن ظناً منه أنه من الاستسهال بمكان صياغة ورقة من ذلك العدوان تغيّر موازين اللعبة الدولية، وتفرض مقاسات وحلولاً بعينها، وهذا ما لم يحصل ولا سيما مع تحوّل مشهد المعركة في هذا البلد، بات فيه الجيش اليمني وحلفاؤه يرسلون جملة من الرسائل التي تشي بالقدرات والإمكانات النوعية التي يحسب لها ألف حساب وتنتفي معها أي نهاية قريبة أو سعيدة للمعتدين.

– ما تنامى من إرهاب أصبح جامعاً مشتركاً بين كلّ الأطراف المشتبكة في المنطقة، وتالياً ترحيل أيّ صراع أو مواجهة عربية إسرائيلية مع الكيان الصهيوني في حضرة اشتداد وامتداد وسطوة اليد التكفيرية التي لا جغرافية محرمة عندها.

نعم، الشروع الدولي في بناء صرح التحول والتوافق قد بدأ، وتوحد الإرادات الدولية في مواجهة الإرهاب كعنوان وحيد للمرحلة المقبلة قد أصبح نافذاً، لكن تبقى الاختلافات في حجز «الطوابق والغرف» في ذلك الصرح، هي مشاهد أقل من طبيعية لن تلغي ولن تنال من الصيغة الدولية التوافقية «رابح رابح».

كاتب سياسي فلسطيني مقيم في سورية

mbkr83 hotmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى