انتفاضة 22 آب وإرهاصات التغيير

زياد حافظ

انتفاضة الشعب اللبناني في 22 آب 2015 محطة مفصلية في تاريخ لبنان. فكما نحتفل بعيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني وبعيد التحرير في 25 أيار، سنحتفل واللبنانيون بانتفاضة 22 آب التي هي استكمال للاستقلال الوطني والتحرير من المستعمر والمحتل. واليوم، هذه الانتفاضة هي في وجه النظام العفن الذي قوّض الاستقلال والتحرير، وفي وجه طبقة سياسية فقدت العلاقة بالجماهير.

لا ندري عند كتابة هذه السطور ماذا سيحدث في الأيام أو في الأسابيع والأشهر المقبلة. لا ندري إذا ما سيتمّ خطف هذه الانتفاضة، أسوة بانتفاضات عربية تحوّلت إلى فوضى فخراب فتوحّش. لكن من الأكيد أنّ الكيل طفح عند كلّ اللبنانيين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الطائفية أو المذهبية أو المناطقية، أو كلّ لون من ألوان الهويات الفرعية، إلاّ المواطنة التي تتحكّم بمسار الأمور عند اللبنانيين. حتى في بلاد المهجر نشهد حراكاً شعبياً يؤيّد حراك «طلعت ريحتكم»!

هذا يدلّ أنّ في آخر المطاف نزعة الوحدة بين اللبنانيين أقوى من الخطاب التحريضي للقيادات السياسية التي تكرّس التفريق لمصلحتها فقط لا غير وليس لمصلحة الطائفة أو المذهب.

انتفاضة 22 آب تعني بداية سقوط الطبقة الحاكمة في لبنان. وهذا سقوط في اللحظة الحالية، هو معنوي في الأساس قبل أن يكون نهائياً لجميع القوى السياسية التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه. وهذا السقوط، وإنْ لم يُترجم حتى الآن بتغيير في النظام وفي النهج السياسي، إلاّ أنه يُترجم بالاعتصام العابر للطوائف والمذاهب والمناطق الرافض له رغم المواقف الملتبسة للقوى السياسية الرئيسية.

الاعتصام القائم لم يأت من الفراغ ولا كنتيجة عمل للقوى السياسية، اللهم إلاّ إذا كان معاكساً لها. فتقاعس تلك القوى في مواجهة أوجاع المواطن اللبناني أنتج ذلك الاعتصام. وهذا الاعتصام يتراكم مع اعتصامات سبقته، كاعتصامات هيئة التنسيق النقابية التي حاولت إجهاضها القوى السياسية الرئيسة ونجحت على الأقلّ في تحييدها ولكن لم تستطع إلغاء تراكم الغضب والرفض، بل أسّست وعمّقت المقاومة للظلم والفساد.

اعتصامات هيئة التنسيق، بدورها، لم تأت من الفراغ بل كانت انبعاثاً لحراك شعبي حاول خلال الحرب اللبنانية إيقاف النزيف الدموي والخراب الذي أشعلته قوى إقليمية وخارجية لإنهاء الثورة الفلسطينية والقضية برمّتها. وحتى ذلك الحراك هو نتيجة حراك شعبي مطلبي وصل قبل اندلاع الحرب اللبنانية إلى مرحلة كاد يفرض نفسه على النخب الحاكمة، لولا الاعتبارات والحسابات الضيّقة والخاطئة لبعض القوى الإقليمية التي تدخّلت لإجهاض ذلك الحراك.

قد تنجح النخب الحاكمة، مرّة أخرى، في إجهاض أو تحييد تداعيات هذه الانتفاضة، لكنّ النتائج الأولية لها كانت تجميد بعض قرارات مجلس الوزراء، كما أنّ الحراك الشعبي في مختلف المناطق لم يتوقف وشكّل تمرّداً على القيادات السياسية لتلك المناطق التي أساءت التقدير، ظناً أنها تستطيع الاستهتار بشعور ومطالب الجماهير اللبنانية. فرغم قوّة النظام القائم وتجذّره في الوعي اللبناني إلاّ أنّ عورته انكشفت عبر استناده إلى الفساد. فنظام الفساد استطاع لفترة أن يتجاوز مطالب الناس، لكنّ الفجور فيه، وخصوصاً ما رافقه من ملابسات في قضية النفايات واستهتار باللبنانيين كان بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير!

لبنان يعيش هذه الأيام لحظات تاريخية، وما يجعل هذه اللحظات تاريخية هو الحراك الذي جاء خارج الحسابات السياسية المبنية على توازنات إقليمية ودولية اعتبرتها النخب الحاكمة، المتحكّمة بمسار الأمور والتي تعتقد أن لا شيء يستطيع الخروج عن إرادتها. حراك الشعب اللبناني أنهى ذلك الوهم. فبمقدور اللبنانيين تحييد الكثير من تداعيات تلك التوازنات، وخصوصاً التي تتناقض مع مصالحهم. فإذا نجحت الانتفاضة في تحقيق بعض أهدافها فهذا يفتح الباب على إنهاء الشلل في المؤسسات الحكومية عبر انتخابات جديدة تأتي بنخب جديدة أو على الأقلّ لتفهم النخب الحالية أنّ وقت المحاسبة والمساءلة قد حان!

تاريخية تلك اللحظات، تكمن أيضاً في رأينا بأنّ الشعب اللبناني بمختلف تكويناته أكثر وعياً وأكثر وطنية من قياداته. مرّة أخرى تتجلّى صدق رؤية القائد جمال عبد الناصر بأنّ الشعب هو المعلّم وحكمة مؤسس حزب البعث ميشال عفلق بأنّ الشعب هو الضمانة. فالشعب اللبناني أعطى جرعة من الأمل المتجدّد والذي لم يختف رغم كلّ المصاعب. فإمكانية التغيير تتحقق وما يبقى هو الإنجاز.

إنجاز التغيير له شروط موضوعية أوجدتها تجارب مماثلة في الزمن القريب. الشرط الأول هو وجود قيادة واعية للواقع اللبناني وصاحبة مصداقية معترف بها فتحدّد سقف المطالب التي يصعب تجاوزها والتي يمكن تحقيقها في الظروف الراهنة. الشرط الثاني هي أن تكون المطالب محدّدة وغير فضفاضة ويستحسن أن تتمركز في مطلب واحد مفصلي، فإذا تمّ إنجازه يكون سابقة لإنجازات لاحقة. ثالث هذه الشروط أن تشترك فيها قوى سياسية فاعلة وصاحبة مصداقية، وإضافة إلى مشاركة القوى السياسية أن تكون عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق وتشمل مختلف الأعمار. والهدف المادي لتلك المشاركة هو الوصول إلى حشود مليونية مستمرة. الشرط الرابع هو سلمية الحراك وتجنّب عسكرته والانتباه إلى ضبط الحراك ضمن القوانين واحترام الملكية والرأي الآخر. الشرط الخامس هو كسب القوى الأمنية والجيش إلى جانب الحراك. فالخطاب الموجّه إليهم هو أنّ الحراك هو أيضاً لهم وليس ضدّهم، بل ضدّ الطبقة الحاكمة التي خذلت الجميع بما فيهم القوى الأمنية والعسكرية. الشرط السادس أن يعمّ الحراك كافة المناطق أو على الأقلّ المدن الكبرى. الشرط السابع أن يكون للقيادة خطّة إعلامية مدروسة في المضمون والتوقيت والوسيلة.

المطلب الرئيسي في رأينا هو وجوب الإصرار على قانون انتخاب جديد للمجلس النيابي على قاعدة النسبية خارج القيد الطائفي أو المذهبي والدائرة الواحدة. فقانون الانتخاب المقترح قد يفسح المجال أمام العديد من القوى السياسية الوازنة التي يقصيها القانون الحالي ومشتقاته وهي قوى أقرب إلى مطالب الجماهير من القوى المتحكّمة حالياً بمصير الوطن. فالأحزاب السياسية تستطيع أن تتمثل على قاعدة البرنامج السياسي وليس على قاعدة الطائفة أو المذهب. ولكن يمكن تبنّي قانون على قاعدة النسبية والدائرة الواحدة حتى على قاعدة القيد الطائفي أو المذهبي كمرحلة أولى إلى أن يتمّ تكوين مجلس شيوخ يمثّل الطوائف، وإنْ كنّا من اللذين يعتبرون أنّ التمسّك بالتمثيل الطائفي على أيّ مستوى كان من العبثية السياسية.

هذا على صعيد ما يمكن إنجازه، لكن لا تغيب عن بالنا قوة النظام الطائفي والشراسة المتوقعة للدفاع عن مصالحه. فالنظام يملك كافة الإمكانيات ويتمتع بالدعم الغربي وبعض الإقليمي شبه المطلق الذي يريد للبنان ولسائر دول المشرق العربي التحوّل إلى مجموعات طائفية ومذهبية متناحرة لا يربطها ببعضها أيّ شيء وحتى التاريخ والألفة التاريخية وذلك خدمة للمشروع الصهيوني.

إلاّ أنّ الأمل بالتغيير تجدّد وهذا هو الإنجاز الأكبر الذي يجب تحصينه.

أمين عام المنتدى القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى