نبض النضال… مدارس شعرية وإبداعات ٤

الدكتور نذير العظمة في كتابه «أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ» يقدّم للقارئ دراسة تغوص في أعماق العلاقة بين الشعر والثورة، وحدود تأثير الواحد منهما في كينونة الآخر، مقدّماً من أجل توضيح ذلك أمثلة عديدة عن ثورات كبيرة وقعت كالثورتين الفرنسية والبلشفية الروسية.

لقد حاول الدكتور العظمة أن يعالج بنفسٍ فلسفي عملية الانبثاق الثوري والانبثاق الشعري وطبيعة العلاقة بين الاثنين وكذلك دور الإيديولوجية في هذا الشعر.

يتكلم المؤلف في مقدمة الكتاب ـ الدراسة عن الموروث التاريخي لدى معظم مفكرينا وكتّابنا والمتعلق بالتبعية للحضارة الغربية والانبهار بها، والتي شكّلت لوقتٍ طويل عاملاً مانعاً من توليد الإبداع عندنا.

يتوزّع الكتاب على خمسة أبواب تعالج في الباب الأول شعر النضال الجزائري والتجربة الثورية، وفي الباب الثاني اتجاهات الشهر المقاوم والكفاح الفلسطيني. أما في الباب الثالث يتطرّق للمرأة المقاومة، وفي الرابع يشير إلى الرؤية العربية، أما في الباب الخامس فيتكلم على الشعر المقاوم بين الوظيفة التاريخية والفنية.

و«البناء» إذ تنشر الدراسة على حلقات فلأنها تعتقد بأنه من الضرورة بمكان إبراز طبيعة العلاقة بين المقاومة والشعر، وطبيعة العوامل المؤثرة سلباً أم إيجاباً، الأمر الذي أبرزه الدكتور العظمة في دراسته.

في هذا العدد، يعرض الدكتور العظمة مقاربات عدد من الشعراء لموضوع شهادة جان دارك ونضال جميلة بوحيرد، فيشير إلى أن بعضهم كبدر شاكر السياب قد اعتبرها ارتقاء من الواقع إلى الأسطورة في وقت تلازمت قصيدة نزار قباني حول الموضوع ذاته بالملامح الغزلية وقد مال عمر أبو ريشة إلى إحساس بالجمال حيث أن عبادته للجمال التي هيمنت على قصيدته عن جان دارك كانت مدعاةً للتساؤل.

الكاتب يقرر أن الشهادة في سبيل الوطن هي أرقى العبادات، وبالتالي فإن سناء محيدلي وابتسام حرب ومريم فخرالدين ونورما أبي حسّان وزهر أبو عساف وفدوى غانم كلهنّ متمسكات في معبد الوطن.

يعود الكاتب ليعرض قصيدته «فرس الريح» حيث يكثّف عبرها الثورة الجزائرية ومقاومتها بالصورة والرمز الأسطوري.

في هذا الجزء من الدراسة يتطرّق الكاتب إلى اتجاهات الشعر المقاوم فيصنفها بثلاثة:

أولاً، الاتجاه الوجداني الموازي لمصطلح الشعر الغنائي. مثال: قصيدة «العودة إلى كربلاء» لأحمد دحبور، وقصيدة «كلمات لم تحترق» لخالد أبي خالد.

ثانياً، اتجاه الواقعية الاشتراكية وقد وصفها ستيفن ساندر بأنها تبني واقعاً من الواقع وتأخذ القصيدة عناصرها من الحياة الواقعية.

ثالثاً، نظرية المعادل الموضوعي وهي التي أفرزت اتجاهاً شعرياً متميزاً عن كلي الاتجاهين الوجداني والواقع الاشتراكي.

لقد تناول العظمة موضوع المعادل الموضوعي وعلاقته بالوجدان، مشيراً إلى رأي الشاعر الإنكليزي ت. أس. إليوت وتأثيره في عدد من شعرائنا مثال لويس عوض، صلاح عبد الصبور وجبر ابراهيم جبرا وغالي شكر.

جميلة بوحيرد مع بدر شاكر السياب ارتقت من التاريخ إلى الأسطورة كرمز من رموز الثورة الجزائرية ونضالها بينما ظلت تحمل ملامح غزلية من ذاكرة نزار قباني الشعرية ونظرته إلى المرأة التي تحولت في قصيدته جميلة بوحيرد إلى مرتبة جاندارك البطلة الشهيدة في الدفاع عن فرنسا ضد الاحتلال الإنكليزي.

أما محمد الفيتوري فيصوّر في مطلع قصيدته «رسالة إلى جميلة» رقة جميلة البطلة مقابل جبهة السجان التي ترادف الضخر والصوان.

وهكذا ترقى المرأة عند شعرائنا بالمقاومة إلى مستوى البطولة.

فالمرأة عند شعرائنا هؤلاء ارتقت بالتضحية لتصير رمزاً للثورة وأسطورة تاريخية.

يقول نزار قباني في خاتمة قصيدته عن جميلة بوحيرد:

ما أصغر جاندارك فرنسا

في جانب جاندارك بلادي

فمن هي جاندارك هذه ومن هي جاندارك بلاد الشاعر؟!

باختصار، إنها فلاحة فرنسية ارتقت عند الفرنسيين إلى مستوى القديسة لأنها تصدّت للاحتلال الإنكليزي للأرض الفرنسية فقام الغزاة الإنكليز بإقامة محرقة كبيرة قدموا فيها الفتاة البسيطة إلى النار وكافؤوها بالموت على مقاومة الاحتلال. ولعمر أبو ريشة قصيدة رائعة عن جاندارك من خلال وقوفه أمام تمثالها أثناء زيارته باريس في الثلاثينات 1935م عندما كان يستكمل دراسته العليا في إنكلترا. وأبو ريشة يكرم جاندارك البطلة ولكنه لا يصل مباشرة إلى القباني الذي تكتنف تصويره لجاندارك فرنسا قبالة جميلة بوحيرد بطلة الثورة الجزائرية.

هل كانت عاطفة عمر أبو ريشة الوطنية وشعوره ضد الاحتلال الفرنسي لسورية حافزاً لهذه القصيدة الرائعة التي احتفل بها ببطولة الفلاحة الساذجة وتقديمها إلى المحرقة الإنكليزية؟! أبو ريشة لا يعطينا أي تلميح يفصح عن ذلك. ويبدو أن الإحساس الجمالي بروعة تمثال البطلة الفرنسية هو الذي يشع في القصيدة التي وظّف فيها عمر الإعجاب الجمالي بروعته في النحت للاحتفال بالمرأة البطلة التي قهرت كبرياء الإنكليز ودخلت المحرقة من دون أن يرف لها جفن ولكن ما يؤرق الفكر الناقد أن يقف عمر وهو في عز الشباب والكبرياء وقفة احتفالية أمام تمثال جاندارك الفرنسية التي تحتل جيوش بلادها آنئذ سورية من دون أن يضيء ذلك في القصيدة. وهو من هو في شعره الوطني الذي كان علامة بارزة في عبقريته الشعرية.

عبادة الجمال هذه التي هيمنت على قصيدته عن جاندارك مدعاة للتساؤل؟! ولكن هذه العبادة التي حرّضته على قرض قصيدة معبد كاجوراو قرضها أيام كان سفيرنا في الهند في زمن النضج هي قصيدة أخرى تحتفل بصور الرسم والنحت لا سيما في مشاهد الشهوة والحب والجسد توسع للشاعر مطرحاً في بانثيون هيكل الشعراء المجددين والمبدعين في العالم وتفاعل الشعر والرسم والنحت في إبداع معبد كاجوراو قصيدة خالدة، تتعانق فيها الحواس المتعددة لتصل إلى النفس الواحدة على طريقة الرمزيين ومقابلة بودلير الحسية Correspondence بالتعبير عن حاسة بحاسة أخرى انطلاقاً من وحدة الذات لشاعرة أو النفس الإنسانية رغم تعدد الدروب إليها فتلقي جمال الطبيعة والمرأة والعالم موحد على رغم القنوات المتعددة للحواس.

فالإحساس بالجمال هو القضية بالنسبة إلى عمر أبو ريشة في قصيدته عن جاندارك وكذلك قصيدته الأخرى عن متحف كاجوراو الهندي. أما الوطن فقد عبر عن عاطفته نحوه في قصائده القومية التي لا تقل عن قصائد عبادة الجمال عنده.

والشهادة في سبيل الوطن هي أسمى العبادات التي قامت بها سناء محيدلي وابتسام حرب ومريم خير الدين ونورما أبي حسان وزهر أبو عساف وفدوى غانم. وكل منهن دخلت المحرقة جسداً فانياً وخرجت منها روحاً خالدة ترفرف عبر الزمن والعالم بضوء لا يموت!

فجاندارك الفداء والبطولة ليست وقفاً على فرنسا. إنها هنا بين ظهرانينا تأكل وتشرب وتنهض إلى الموت متى كان الموت طريقاً إلى الحياة. وتدخل راضية تنوّر الاضطهاد والظلم ومحو الذات، لتخرج كوكباً يضيء العتمات الدامسة لقدس ينتهك حرمتها شذاذ الآفاق.

ألا تذكرنا سناء محيدلي وابتسام حرب بجميلة بوحيرد التي أضاءت التاريخ ورسمت هالة على رأس الثورة الجزائرية. فالواضح تاريخياً أن جاندارك الجزائر جميلة بوحيرد لم تُقدّم إلى المحرقة فعلياً، كما قُدّمت إليها جاندارك فرنسا، من دون أن تستصغر احتلال الجزائر والظلم والحيف الذي أصابها والعذاب الذي ألمّ بها وبالشعب الذي تنتمي إليه بطلتنا جميلة بوحيرد.

كم كانت دهشتي كبيرة وفضولي عارماً عندما كنت أراقب التلفاز في زمن ثورة الحجارة الفلسطينية لأرى جاندارك الجزائر جميلة بوحيرد تزور جاندارك فلسطين ليلى أبو خالد.

وهُنّ مَنْ هُنّ في بطولات التحرير والنضال في عز الشباب والأنوثة. في هذا الإطار كيف لا تستطيع سناء محيدلي جاندارك الجنوب اللبناني؟ أن تتجدد بالموت وتجددنا في آن، بمقاومة الاحتلال الصهيوني للبنان الشامخ نضالاً وأنفة يختال كبرياءً.

صد محرقة لا تزال تنصب يومياً للشعب في شتى كيانات الوطن، لبنان وفلسطين والشام وأرض الرافدين لاغتصاب الأرض والتاريخ والإنسان.

إننا مطالبون بأن نتصدى للظلم التاريخي والتحيّز الشوفيني الذي تنضح به قرائح الطغاة ودهاة الإمبريالية ضد حضارتنا وهويتنا وفكرنا ومصيرنا ووحدتنا القومية والاجتماعية. كل ذلك من أجل أن نبقى وطناً تحت الاستعمار والانتداب والوصاية للهيمنة على أرضنا ومواردنا وثرواتنا الطبيعية والمكتسبة والنيل من إسهاماتنا الحضارية الإنسانية على مدى التاريخ في المراحل الوثنية والمسيحية والإسلامية. وسد دروب القيامة من الموت وإعاقة نهضة أجيالنا الصاعدة.

فرس الريح والقصيدة الدرامية

في قصيدته «فرس الريح» يكثّف نذير العظمة الثورة الجزائرية ومقاومتها بالصورة والرمز الأسطوري.

أهمية قصيدة «فرس الريح» أنها اختزلت الثورة في أيقونة رمز موحد لشهادات الطفل والأم والفلاحين في سبيل الحرية جوقة واحدة تؤسطر الثورة. وتطورت قصيدة التفعيلة من الشكل الوجداني والغنائي إلى الأطر الدرامية. فأخذت منها التشخيص للأصوات الشعرية التي تمثل الشهداء والثوار في معارك المصير والحرية. ولكنها لا تزال على رغم فرادتها وتميّزها طفلاً وأباً وأماً وفلاحين وجوقة تعبّر عن الذات الجمعية بنبرة وجدانية درامية.

وبرمزها المركزي الشفاف على كثافة دلالاته وإيحاءاته. وما صاحبه من صورة حسيّة سمت إلى مستوى الأسطورة بالقصيدة. بيان متوهّج شكّلت بؤرة موحدة للقصيدة على تعدد الأصوات وتنوعها. وضمت النقيضين الذاتي والدرامي الموضوعي في لحمة واحدة.

ومهّدت لنقل قصيدة التفعيلة من عناء الذات إلى مأساة الجماعة. وتحررها من تناسب البيت الشعري إلى تفاوته إيقاعاً ونبرة تستحق تسمية القصيدة الدرامية وهي من إنجازات الحداثة وثمارها. فرس الريح هي أيقونة رمزية للثورة بعد ابتكاره القصيدة المدورة في «عشر شموع» 1958م .

وفي دراما جسر الموتى 1958-1959م انتقل الشاعر بالإيقاع العروضي المتفاوت دفعة واحدة إلى المسرح الشعري مستخدماً شعر التفعيلة والشعر المدوّر لتصوير شخصياته الدرامية. وقد أهّله لذلك مسرحياته الشعرية بالنمط الكلاسيكس «جراح من فلسطين» و»ابن الأرض» 1952م واشتراكه بالتمثيل على الخشبة وفي الإذاعة السورية وإذاعة صوت أميركا، فكان تجريب الأشكال الدرامية نتيجة للتجربة الشعرية والممارسة العملية والحرص على حداثة الصورة الفنية وتنوع الجنس الشعري قصة ومسرحيةً وقصيدة. 1

في قصيدة «فرس الريح» نستمع إلى أربعة أصوات:

صوت الطفل ابن الثائر الشهيد

وصوت أم الشهداء

وصوت الفلاحين وصوت الجوقة

و»فرس الريح» هي الرمز المركزي الذي تخاطبه هذه الأصوات التي على رغم نبرتها الغنائية والوجدانية لكنها لا تعبّر عن ذات الشاعر بقدر ما تعبّر عن شخصيات درامية تتوحد حول فرس الريح بنبرة مونودرامية تعبّر عن نبض الثورة وتجربتها بإيقاعات متنوعة.

إلاّ أن «فرس الريح»، القصيدة ككل، ظلّت تنبض بالوجدان لهذه الشخصيات. المونولوغ Monologue أو المناجاة لا الديالوغ Dialogue أو الحوار هو الأداة الدرامية التي اعتمدها الشاعر ليعبّر عن الثورة الجزائرية كتجربة شعبية مارستها الجماعة وعانتها الذات المبدعة للشاعر.

ونذير العظمة لم يصطنع هذا الترتيب، ولكنه انبثق من تجربته الوطنية والغنية وهما بمثابة الفطرة الشعرية التي تكوّنت له من خلال الممارسة.

هنا لا بد من أن نستمع إلى صوت الأم وهي تناجي فرس الريح أيقونة الثورة في قصيدة العظمة!

اتجاهات الشعر المقاوم والكفاح الفلسطيني

إذا قمنا بعملية مسح للشعر المقاوم في أدبنا الحديث لوجدنا كمية كبيرة من هذا الشعر ربما تربو على الشعر المقاوم في الفرنسية والإسبانية وغيرها من اللغات الأخرى.

نستطيع أن نفهم هذا التفوق الكمّي لشعرنا المقاوم إذا تذكّرنا أن حركات المقاومة عندنا وما انبثق عنها من حركات ثورية تربو وتزيد على حركات المقاومة في العالم، بدءاً بالثورة الجزائرية وحركة المقاومة الفلسطينية وحركة المقاومة في جنوب لبنان وما سبقها جميعاً من مقاومة الاحتلال الذي أمسك بأطراف البلدان العربية وقبلها نتيجة لحركة الاستعمار الأوروبي.

كنا نسمّي هذا الشعر الذي صاحب مقاومة الاحتلال بالشعر الوطني وهو غرض أضيف إلى أغراض القصيدة العربية بدءاً من ابراهيم اليازجي وقصائده القومية ومروراً بشعر حافظ ابراهيم وأحمد شوقي وغيرهما من حركة الإيحاء العربية التي جعلت من الشعر سلاحاً في معركة الوجود والبقاء ضد المحتل ومعاهداته واتفاقاته التي صادقت على اقتسام المنطقة العربية لدول الجيوش المنتصرة في الحربين الكونيتين. وما تبعهما أو نتج منهما أو صاحبهما من معاهدات واتفاقات ووعود. كوعد بلفور والهجرة الصهيونية إلى فلسطين وإعلان الدولة العبرية التي لم تكن لتتحقق لولا معاهدات واتفاقات سان ريمو وسايكس بيكو.

إلا أن الشعر الوطني ربما نتج من مقاومة الاحتلالات الموقتة بينما شِعْر المقاومة والشعر الثوري نتج من مقاومة حركات الاستيطان بدءاً من استيطان الفرنسيين في شمال أفريقيا العربي بعامة والأرض الجزائرية بخاصة ومروراً باستيطان الحركة الصهيونية في فلسطين وتهجير شعبها إلى الأوطان العربية المجاورة أو إلى العالم.

فالثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية وما صاحبهما أو نتج منهما من حركات مقاومة تركتا لنا ميراثاً شعرياً هائلاً لا لشعراء الأقطار المحتلة فحسب بل لشعراء العروبة بشكل عام.

فالاستعمار والاحتلال والاستيطان هي الحوافز الأساسية التي أسهمت في صياغة حركات المقاومة وما صاحبها من ثورات واتجاهات شعرية.

ثلاثة اتجاهات للشعر المقاوم

يمكن أن نتلمس ثلاثة اتجاهات للشعر المقاوم في شعرنا الحديث تتشابك فيها أبعاد الشعر وسياقاته وتتجسّد النظرية الشعرية في الممارسة الإبداعية.

أولاً: الاتجاه الوجداني وهو مواز لاصطلاح الشعر الغنائي في النقد الغربي. الذات هي ينبوع الشعر الوجداني والوجدان ربما ينطوي على دلالات أعمق وأبعد من دلالات الشعر الذاتي. وينسجم مع الموروث الشعري عندنا. الذاكرة الفردية والجمعية. والحدس والمعرفة الذاتية للأنا والآخر والحب والحياة والموت.

تَغَذّى هذا الاتجاه بالرومانسية الغربية في ثورة الإبداع على الاتباع في تاريخ شعرنا الحديث مبكراً بعد حركة الإحياء. كما تغذى شعرنا المقاوم بنزعات الشعر الحديث في الغرب. محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وأحمد دحبور وخالد أبو خالد يتجلى في نتاجهم. الاتجاه الوجداني وإن كنا نلمح مؤثرات للواقعية الحديثة عند الشعراء الثلاثة الأوَل.

في قصيدة «العودة إلى كربلاء» لأحمد دحبور يتقمّص الشاعر الحدث التاريخي لكنه لا يلتصق بالتاريخ بل يفرزه تاريخاً وجدانياً آخر لصلب المقاومة. فالشهادة على يد ذوي القربى تستحضر شهادة الحسين في كربلاء وتحوّل النشيد المقاوم إلى نواح غاضب على الحرية المصادرة والمصير الغرائبي حين يتبادل الجناة رأس الشهيد فلا يركب على الأعناق الغريبة. وتسرع جذوة الغضب إلى الانطفاء في حضرة الاحتضار وينقلب إلى احتفالية بتتويج الجناة والغادرين:

يا كربلاء، تفر في النار

أذكر كيف تتقلب الوجوه

عرفوا الغريم وأمسكوه

ويقال: كان يخب في لحمي ويشرب من دماي

غضبوا عليه طوال ساعات احتضاري

ثم مُت فتوّجوه

وتبادلوا رأسي فلم يركب علة عنق

وعاد إلي بالجرح النبيل

وأعود لن يتصدروا باسمي،

فجرحى جاء ينكرهم

وتنكر ما استباحوا مقلتاي

وإذا حسبت حسبتهم في صف غاصبك الدخيل

ويصبح في قصيدة «كلمات لم تحترق» لخالد أبي خالد الأنا الذات هي الآخر، والآخر الأنا، فالشهداء كلهم اسم واحد وهوية واحدة فالمشيّعُ الحي هو المشيَّع الميت الذي يخبئ اسم الشاعر ويمضي. فالذات تغني الموت بكبرياء لم تذلّها الحراب والنار:

أعيش… وحولي تبكي النساء الغريب الممدّد

والعابرون يحارون

أي الأسامي على وجهه يكتبون

واسمي تخبئه أنت في راحتيك

وتمضي الجدل في منتصف الليل

ورغم قصائد أبي خالد المطوّلة ذات النفس الملحمي إلا أنها تنبثق من الوجدان وتنبع من الذات ويظل الغناء الوجداني جوهرها على رغم توسّلها المعاناة الفعلية في الميدان.

ثانياً: اتجاه الواقعية الاشتراكية بلغة الماركسيين. والواقعية الحديثة بمصطلح النقّاد الأوروبيين. كما وصفها ستيفن سبندر الناقد الإنكليزي ونوّه به بدر شاكر السياب في بعض مقابلاته الأدبية في مجلة الآداب في المرحلة الواقعية من شعر وتمايزها عن الاتجاه الرومانسي في بواكيره.

فالواقعية الحديثة تبني واقعاً من الواقع. وتأخذ القصيدة عناصرها من الحياة لتبني صورة عنها. فالواقعية لا تعني الفوتوغرافية بقدر ما تعني معاناة الواقع ذاتياً وإفرازه عالماً شعرياً.

وغالباً ما يمتزج المبشر بالشاعر في الاتجاه الواقعي الحديث في شعر المقاومة. كما يمتزج الشاعر بالخطيب في الاتجاه الوجداني.

ثالثاً: نظرية المعادل الموضوعي التي أفرزت اتجاهاً شعرياً متميزاً عن كل من الاتجاهين الوجداني والواقعي الحديث. على رغم ما بين هذه الاتجاهات من تداخل وتشابك. لكنها حفرت اتجاهها في الإبداع الشعري الحديث بتميّز.

لقد عبر كل من هذه الاتجاهات عن موضوع المقاومة ولكن بتقنية مختلفة. وتميّز توفيق زياد بانعطافه نحو الواقعية الاشتراكية بشكل قوي. أما محمود درويش وسميح القاسم فغلب عليهم الوجدان. وبقيت مؤثرات الواقعية الاشتراكية في الظل.

لكن أحمد دحبور وخالد أبو خالد فضّلا الغنائية الصافية الممتزجة أحياناً بالحنين إلى الوطن الضائع. وهما شاعران متميزان من شعراء المقاومة في الميدان عملياً وفي القصيدة الفن شعرياً. وذلك لأنهما من الذين هُجّروا خارج فلسطين وارتبطت تجربتهما بتجربة المقاومة الفعلية. بينما انعكست المقاومة نضالاً بالشعر كما عند الشعراء الثلاثة الأول. فالوجدان ينبوعهم جميعاً والذات مصدرهم، إن بالممارسة، أو المعاناة، أو بكلتيهما.

إضاءات

الاتجاه الوجداني، والوجدان معادل للغناء الشعري في المصطلح الأوروبي Lyric قبالة القصصي والملحمي والدرامي والتعليمي.

هو شعر ينبع من الذات حول الموضوع. الحب والحياة والموت بينما الأجناس الأخرى تؤكد الموضوع قبالة الذات. لذلك وصف النقّاد الشعر الغنائي بالذاتي والأجناس الأخرى بالشعر الموضوعي.

إلا أن هذا التقسيم الكلاسيكي كثيراً ما يتداخل. فالذاتي يدخل في الموضوعي والموضوعي في الذاتي. فالكثرة الكاثرة من شعر المقاومة هو شعر ذاتي وجداني غنائي يتكلم في الشاعر انطلاقاً من الذات لا من الموضوع.

من هنا جاءت أهمية اتجاه الواقعية الحديثة التي شددت على بناء واقع شعري آخر يتخيّر أدواته ومفرداته من الواقع لا المثال.

فالذات في هذا الاتجاه لا تعبّر عن مشاعرها وأحاسيسها مباشرة بقدر ما تختبئ وراء الصورة التي تقيمها عن الواقع.

أما المعادل الموضوعي فالشاعر لا يتكلم عن ذاته، بل يبتكر معادلاً موضوعياً للأمر الذي يريد أن يتكلم عنه فتنتقل الذات من واجهة الشعر إلى خلفيته فتتمثل أفكارها ومشاعرها في شخصيات وأشكال ورموز موضوعية.

وحين تنطق الأنا مباشرة فنحن أما شعر ذاتي لكنها حين تداور من خلف ابتكارات موضوعية وشكلية فنحن أمام شعر موضوعي.

والشعر الحديث يأنف من المباشرة والتقرير ويمارس انغماساً أكثر في الأشياء والعالم في الحياة والموت. لذلك فإن كلّاً من اتجاه الواقعية الحديثة ونظرية المعادل الموضوعي حققا الاقتراب الفني المداور قبالة المباشر والتقرير في التقاليد الشعرية الموروثة.

في شعر محمود درويش وسميح القاسم الذات أبداً حاضرة في مرآة القصيدة. كذلك هي في شعر توفيق زياد الوجداني. البلاغة والبيان والصور المحسوسة هي الوسيلة للتعبير عن التجربة الشعرية.

هؤلاء هم مناة واللات وعزى شعر المقاومة الفلسطينية. ولكن على رغم المؤثرات الماركسية في اتجاهاتهم العقدية والسياسية إلا أن توفيق زياد انفرد بينهم بتبني الموقف الفني للواقعية الاشتراكية في شعره. بينما اتصل محمود درويش وسميح القاسم اتصالاً وثيقاً بشعر الوجدان والغناء.

انظر لمحمود درويش قصيدة «جبين وغضب» وقصيدة «وطن» في الأعمال الكاملة. وانظر قصيدة «خطاب في سوق البطالة» لسميح القاسم على سبيل المثال لا الحصر.

فكلا الشاعرين يعبر عن الذات في تناوله للموضوع فالذات حاضرة على امتداد القصيدة بينما نجد توفيق زياد في قصائده الواقعية الاشتراكية يقدّم الموضوع على الذات كما في قصيدة «غاليليو عام 400» مثلاً لا حصراً يقول في خاتمتها:

لا محكمة التفتيش والطغيان

تقدر أن تقتل..

أفكار الإنسان!

ما يقبله العقل صحيح

إفك الكاهن قبض الريح

والأرض تدور

دولاب التاريخ يدور

لا شيء يسد طريق النور.

الوجدان ونظرية المعادل الموضوعي

في مقالة بعنوان «هاملت ومشكلاته» 1919 يلخص الشاعر الإنكليزي تي. إس. إليوت في «المعادل الموضوعي» حول الإبداع الشعري كما يلي بترجمتنا: «الطريقة الوحيدة في التعبير عن الانفعال في شكل فني تكون بإيجاد «معادل موضوعي» بكلمة أخرى بإيجاد مجموعة من الموضوعات، موقف، وسلسلة من الأحداث تكون صيغة لذلك الانفعال بحيث أنه حين تعطى الوقائع الخارجية التي تنتهي في التجربة الحسية، يستثار الانفعال فوراً». وقد تسللت نظرية المعادل الموضوعي إلى نقدنا وشعرنا مع مؤثرات تي. إس إليوت بدءاً من لويس عوض في مجموعته الشعرية «بلوتولاند» 1947 ومروراً بالشاعر صلاح عبد الصبور ومجلة «شعر» البيروتية وجبرا إبراهيم جبرا وغالي شكري.

فحين يطرح صلاح عبد الصبور مشكلة الإنسان والحرية يتخذ من الحلاج وأترابه وعصره قناعاً لذلك. فالانفعال الشعري هنا يرتفع من مستوى القصيدة الوجدانية إلى عالم الشعر الموضوعي ويتخذ عبد الصبور سلسلة من الأحداث ومجموعة من الموضوعات ليتخذ موقفاً من الحرية. قد يكون الشعر الدرامي حاضناً ممتازاً لنظرية المعادل الموضوعي لكنه في القصيدة الوجدانية أو الغنائية يبدو أكثر صعوبة. لأن الانفعال غالباً ما يسيطر على الغناء الشعري لا سيما في موضوع يمثل معاناة قومية لا شخصية كالقضية الفلسطينية. فالذات في هذا المجال تحتل المساحة جميعاً.

عبد الوهاب البياتي في «قصائد إلى يافا» وهي قصيدة مركبة من مقطوعات: أغنية، أسلاك شائكة، رسالة، المجد للأطفال والزيتون، العودة. يعبر عن انفعاله الشعري بأدوات موضوعية لكنها لا تزال حاملة لنبرة الذات وغنائية الوجدان. يقول في «أغنية»:

يافا يسوعك في القيود

عارٍ، تمزقه الخناجر عبر صلبان الحدود

وعلى قبابك غيمة تبكي

وخفاش يطير.

فالباب أوصده يهوذا والطريق

ثم يستحضر في المقطوعات الأخرى سلسلة من الموضوعات والانفعالات ترتبط بأطفال المجد والزيتون والأسلاك الشائكة التي تحرس الصلبان والخناجر وأحداث الصلب التي تحيط بالمقاوم الفلسطيني ويهوذا والتآمر عليه ويختتم المركبة بمقطوعة «العودو» قائلاً:

الليل تطرده قناديل العيون

عيونكم، يا أخوتي المتناثرين الجائعين

تحت النجوم

وكأن حلمت بأنني بالورد أفرش والدموع

طريقكم

وكأن يسوع

معكم يعود إلى الجليل،

بلا صليب.

يحاول الشاعر البياتي أن يمركز انفعاله الشعري في أيقونة الصور المسيحية، الصلب والخناجر ويهوذا لكنه لا يستطيع أن يتفلت كلياً من شطحات الوجدان وزفرات الغناء. ومع ذلك يستطيع أن يوفر معادلاً موضوعياً للمعاناة الفلسطينية بالصلب ويهوذا متمنياً العودة إلى الأرض المقدسة بلا صليب.

بينما يعبّر محمود درويش وسميح القاسم عن المعاناة نفسها بقصائد وجدانية غنائية تبث الألم والسجن الفلسطيني لا بمعادلاته الموضوعية أو التاريخية بل بفرح النضال والصرير على الأسنان في حضن المعركة حيث لا يتوفر للذات الشاعرة مساحة التأمل واجتراح المعادلات الموضوعية التي تتوفر لشاعر خارج المعركة. كلاهما طبعاً يعبّر عن القضية الواحدة والمعاناة المشتركة ولكن بطرق مختلفة.

في قصيدة «ميتة بلا كفن» لمحمود درويش قد يستحضر الشاعر يسوع أو طروادة أو غير ذلك من الرموز الدينية والتاريخية، حطين وصلاح الدين والصليبيين، لكنه لا ينهض إلى مستوى المعادل الموضوعي وتبقى نبرة الوجدان والغناء هي السائدة:

ماذا يقول البرق للسكين

ماذا يقول البرق؟

هل كنت في حطين؟

رمزاً لموت الشرق؟

وأنا صلاح الدين

أم عبد الصليبيين؟

أهديك ذاكرتي على مرأى من الزمن

أهديك ذاكرتي:

ماذا تقول الشمس؟

هل أنت ميتة بلا كفن

وأنا بدون القدس…

إنا تعلمنا البكاء بلا دموع

وقراءة الأسوار والأسلاك والقمر الحزين

حرية

وحمامة

ورضا يسوع

غداً حلقة خامسة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى