«إرم ذات العماد ـ قانا» أسطورة إلى الواقع وواقع إلى الأسطورة ٧

الدكتور نذير العظمة في كتابه «أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ» يقدّم للقارئ دراسة تغوص في أعماق العلاقة بين الشعر والثورة، وحدود تأثير الواحد منهما في كينونة الآخر، مقدّماً من أجل توضيح ذلك أمثلة عديدة عن ثورات كبيرة وقعت كالثورتين الفرنسية والبلشفية الروسية.

لقد حاول الدكتور العظمة أن يعالج بنفسٍ فلسفي عملية الانبثاق الثوري والانبثاق الشعري وطبيعة العلاقة بين الاثنين وكذلك دور الإيديولوجية في هذا الشعر.

يتكلم المؤلف في مقدمة الكتاب ـ الدراسة عن الموروث التاريخي لدى معظم مفكرينا وكتّابنا المتعلق بالتبعية للحضارة الغربية والانبهار بها، والتي شكّلت لوقتٍ طويل عاملاً مانعاً من توليد الإبداع عندنا.

يتوزّع الكتاب على خمسة أبواب يعالج في الباب الأول شعر النضال الجزائري والتجربة الثورية، وفي الباب الثاني اتجاهات الشهر المقاوم والكفاح الفلسطيني. أما في الباب الثالث يتطرّق إلى المرأة المقاومة، وفي الرابع يشير إلى الرؤية العربية، أما في الباب الخامس فيتكلم على الشعر المقاوم بين الوظيفة التاريخية والفنية.

و«البناء» إذ تنشر الدراسة على حلقات فلأنها تعتقد بأنه من الضرورة بمكان إبراز طبيعة العلاقة بين المقاومة والشعر، وطبيعة العوامل المؤثرة سلباً أو إيجاباً، الأمر الذي أبرزه الدكتور العظمة في دراسته.

يعرض الكاتب في هذا العدد مقاربة عدد من الشعراء لإرم ذات العماد وقانا لتبيان موقع كلتي الرمزيتين في عملية الإبداع الشعري والأدبي بشكلٍ عام عبر جبران وأدونيس وغسان كنفاني وسميح القاسم.

فإرم سميح القاسم هي إرم الفاضلة تضجّ بمأساة الوجود الإنساني بأبعاد تاريخية أسطورية، ويعود القاسم فيحلم في قصيدة الرب الجريح بمدينته الفاضلة عبر رؤية شعرية تنبثق من الحدس.

أما رمزية قانا فلقد عرض الكاتب مقاربة نزار قباني لها الذي يقول عن قانا إنها على الصليب ومن صَلب المسيح بالأمس هو الذي يصلب قانا اليوم… فقانا اليوم في مأساتها هي كربلاء أخرى. إن قانا نزار قباني ليست قانا التاريخ ولا قانا الأسطورة إنها قانا المجزرة «الإسرائيلية».

أما الشاعر نزار بني مرجا فيعتبر أن الولادة تتخلل الموت وتعطي حياة جديدة للشاعر ولشعبه وهي النسيج العاطفي والذاتي الذي يعبّر عن المأساة التي تتحوّل إلى شموخ يتكبّر على الموت بطقس الولادة الذي يرافق المولود في وسط الحمم.

أما نذير العظمة فيعرض تجربته الشخصية في مقاربة الواقع الأسطوري الذي اسمه قانا فيقول: «لا نملك حتى أن نبكي أو ندفن بالصبر أسانا».

خلاصة وجع دهري صار ملازماً لصيرورة هذه الأمة ولمشهديتها على مسرح التاريخ. إلا أن بوابة فاطمة قد انفتحت على قانا وعلى التاريخ المدمّى والأسطورة المقهورة، فنهض المسيح الفلسطيني ونهضن معه «حوارياته» من سناء ومريم وابتسام ونورما وزهر وفدوى.

في كراس إرم الذي نشره سميح القاسم في حيفا 1965 ينوّه في المقدمة بأهمية إرم ذات العماد القرآنية وإلهامها للشعراء والأدباء الذين استوحوا منها أعمالاً شعرية أو أدبية من دون أن يذكر أسماءهم.

وأولهم كما عرفنا جبران خليل جبران وعلي أحمد سعيد «أدونيس» وغسان كنفاني ومن ثم إرم القاسم. وأمَتُّهُم صلة بثقافة المقاومة، طبعاً، مسرحية «الباب» للكنفاني التي نشرها عام 1964، وقمنا بدراستها في مقالة لنا في الموقف الأدبي لمجلة اتحاد الكتاب العرب في دمشق 2012. ورغم الدراسة النصية الواقعية التي قدّمها عايش الحسن بعنوان «صور إرم بين أدونيس وسميح القاسم»، إلا أننا نعتقد أن الصلة التاريخية بين قصيدتي الكنفاني والقاسم أكثر وضوحاً، علماً أننا نميّز بين ما سمّي بشعر المقاومة الميداني وشعر المقاومة الحضاري، فلا مقاومة بدون الإيمان بخلفية فكرية متينة. وأن المقاومة الفرنسية والجزائرية والفلسطينية وفي جنوب لبنان وسروية تتمركز في مثل هذه الخلفية.

فالصراع بالشعر والفكر هو الذي يؤدي بصراع الميدان إلى الثبات والاستمرار ومن ثم النجاح، وأن الحركة السوريالية في الشعر والفن وعلى رغم غيرتها على الشروط والتجربة الفنية في إبداعها إلا أنها لم تجد مناصاً من عقيدة الالتزام التي نادت بها الماركسية والوجودية والسوريالية في مقاومة الميدان في باريس وموسكو وإسبانيا وغيرها من المدن الأوروبية التي احتلتها الأنظمة الفاشية والنازية.

إن إرم ذات العماد الأسطورة المنبثقة من الوهج الديني للسورة القرآنية تحوّلت بصيغ وصور مختلفة من خلال إلهامها المبدعين والشعراء الذين لم يجدوا في عقيدة الالتزام في الشعر والفن عائقاً لاستكمال الشرط الجمالي في الإبداع والالتزام لا يقضي على الشرط الجمالي للعمل الفني بل يسانده ويدعمه ويقود من خلال التجربة الإنسانية للذات المبدعة إلى التوهج في أشكال مبدعة مؤثرة.

من هنا نجد أن كراس إرم شعري لسميح القاسم قد حظي بتقديم ودعم نادي النهضة بأم الفحم، البلدة المقاومة بامتياز ومركز حركة المقاومة الفكرية والميدانية في فلسطين المحتلة. فإرم هي رمز المدينة المقاومة بامتياز في إبداع كنفاني وسميح القاسم الشعري. ويقول سميح القاسم في مقدمة إرم:

أما إرم، التي أحلم بها وأكتب عنها فهي

إرم جديدة… إرم فاضلة… تحلم بها الإنسانية

جمعاء… وتناضل من أجلها… مضحّية في سبيلها

الطويل الوعر بجسام التضحيات وغواليها…

مؤمنة بأنها البديل الوحيد وواثقة بأنها البديل

الأكيد للعبودية البشرية وفنائها الشامل

إرما الفاضلة

البشرية: إرما تريد القافلة؟!

الشاعر: إرما… على أرض جديدة

إرما… سعيدة

إرما… ولكن فاضلة!

البشرية: ماذا لديك؟!

الشاعر: لدي إرم قصيدة!

البشرية: فلتسكتوا…

فلتسكتوا

وليلقَ شاعرنا نشيده!

«إرم الفاضلة» مجموعة شعرية تتميز بمعاناتها لمأساة الوجود الإنساني بأبعاد تاريخية أسطورية وبنبرة غنائية وصياغة أسلوبية حداثية تزاوج الصور البيانية والمحسوسة في سياقات السرد المناسب في أناشيد شعرية يفتتحها الشاعر بالبحث عن الجنة وهي على منطلق البحر الكامل وشعر التفعيلة، موحدة الوزن متعددة القافية ولكنها تجري مجرى التدوير في بعض مقاطعها ومضامين فكرية يسودها التساؤل في سرد تاريخي حضاري.

عبثاً يبحث الإنسان عن الجنة في الحياة الدنيا، في رحلة العذاب بين الولادة والموت لن يدرك الراحة أو يغمض له جفن، والجنة هنا هي المدينة الفاضلة التي توحي بمدينة الفارابي المتحدرة من جمهورية أفلاطون، يغلب عليها المصطلح الديني والصور الرومانسية الشعرية. فالجنة لا المدينة هي هدف الإنسان والبحث عن السعادة يجري في طرق الشقاء والمرارة في رحلة عبثية:

عبثاً تحاول أن تنام

قدّر عليك السهد والفزع المدمر والظلام

فاهجر فراشك… ألف صل في فراشك مستار

ووسادك المحموم أشواك ونار!

سرب من الغربان في أعماقك الشوهاء حام

والليل حولك والعواصف والثلوج فلن تنام

عبثاً تحاول أن تنام

اسأل أبويك وجدك عن الدهر والمصير

لا مخرج لك من لعنة القدر.

من أنت؟

إنسان تغرب في طريق الرحلة الصفراء

يزحف نحو أقصى الدرب نحو البقعة السوداء

في الأفق المشوّه… في المجال

المعتم المرهوب، غلقه السحاب!

ـــــ لعنة أخرى تلوب على المدى المجهول

مغفاة العيون، تدب في قلق مميت.

وفي «الخطيئة والوثن» النشيد الثاني من «إرم الفاضلة» ينتقل بخطابه الشعري من الذات الأنا إلى الجماعة:

دوري مع الإعصار! يا قطعان ضيّعك الرعاة

وابكي ربيعاً مات… مات

وتهيّئي للمسلخ المشؤوم تهدر فيه ذاكية الدماء

منذ خطيئة آدم الأولى والهبوط من الجنة

يهز صوت الله أركان الوجود:

اليوم تفقد جنتي! فاخرج يرافقك الشقاء

مدى رحيلك في يباب الأرض…

خلفك موصد عدني، وأمسك لن يعود!

فالمصطلح الديني لمأساة الإنسان هو السائد، لا في عنوان النشيد فحسب بل متن السياق والأسطورة الدينية. لكنه يجعل سبب المأساة خطيئة آدم لا خطيئة حواء كما يوحي تفسير الأسطورة الدينية.

وينتقل من خطيئة آدم إلى خطيئة القتل قابيل أو قابين يقتل أخاه هابيل. فالقتل هو من الأسباب الجوهرية لشقاء الإنسانية ومأساته ويعزز نص الموروث التوراتي والقرآني للأسطورة بالأساطير المصرية الفرعونية.

فالخطيئة والوثن هم سبب استمرار عذاب الإنسان وشقائه وعبوديته للإله الطاغية الذي تسجد له الرعاع على مدى العصور على رغم الجوع والحرمان والطوفان وإن توجّه بعضهم إلى اللات هرباً من راع كمن يفرّ من الضياع إلى الضياع. فخوفو يطيل سنوات الجدب على العشب، والأهرام تلتهم الرجال، ولكن يموت بعد أن يشيّد له قبراً يعيش الزوال فيه. فيسيطر الجوع والأوباء والقمل السعيد ويستقر الفناء قبر الحياة والخلود والثورة، حتى ينجب ابن الشمس طفلاً لا يموت!» الليل في النزع الأخير وابنه خوخو المدلل كذلك والشمس في صمت قبل البزوغ.

وبابل تشيّد برجاً على حساب الشعور. تضحي بالإنسان على أعتابه العتيدة والنساء تتهيأ للولادة الجديدة، الإله رب القدرة على كل شيء.

لكن الأبطال يرفعون راية الإنسان ويكسرون راية الضلال والقدر. ويعودون به إلى الفردوس المهجور بأوهام النيرفانا البيضاء إلهاً من أثير يرسمون الله بغرور البشر وقسماتهم الشوهاء إلى أن يهبطو من برج نمرود إلى الأرض ويلمسوا جراحها في رفق ويدثروا عرينها الدامي بأسماء التراب.

وينتقل شاعرنا من أوثان الفراعنة وبابل إلى موسى والوصايا والعجل وسجود البشر للذهب إلى صوت يهوه في طور سيناء والمشعل القديس. لكن المحاريث تتحول إلى حراب تشتم الدم المسفوك، وتفتك الشاة الوديعة بالذئاب ويبحث الإنسان ملحمة الصراع بين البشر إلى أن يحطم الوصايا الشقية. ويزيح قايين الذي ملأ الأرض قتلاً ودماراً وسفك دماء، فيسود شرف الأقانيم الثلاثة والصليب وشرف «ألا أحبوّا بعضكم بعضاً».

وتقوم قدس القيامة من الموت فتجابهها روما بالغطرسة والهيمنة لكن هذا الشرف لم يلهم الإنسان معنى الخير ويثنيه عن أوهام الحروب والفتوح:

ورسولك القديس بطرس عاد للشك القديم

فارحم جراحك يا مسيح

ما عدت في الإنسان غير حكاية تحكى

عن الرب الجريح!

وهكذا يحلم شاعرنا بمدينة فاضلة على نسق إرم ذات العماد يتغذى من الذاكرة بالفكرة وحضور الصورة والفطرة الشعرية. وولادة القصيدة تأتي من رحم المعاناة النفسية المتواصلة مع نبض القلب والفكر، فالرؤية الشعرية تنبثق من الحدس. ولا بأس من أن يتغذى الشعر بالفكر بل إن ذلك ضرورة لألق القصيدة شرط أن تنبثق من المعاناة لا الحافظة الفكرية. والشعراء الذين ينتمون إلى الواقعية الاشتراكية بمصطلح الماركسيين أو الشيوعيين في المدار السوفياتي أو الأوروبي والعالم، كبابلو نيرودا وناظم حكمت ولويس أراغون وعبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب. تألقت قصائدهم المنبثقة من التجربة ورؤياهم الطالعة من الحدس الشعري لا من الانتماء إلى عقيدة فكرية فحسب أو ذاكرة ثقافية. فحين يطمئن الشاعر المبدع إلى رفد الذاكرة فحسب للهب المعاناة تصبح الإشارة الأسطورية لعباً فنياً يذكرنا بلعب البديع التي سيطرت على كثير من شعرائنا في أزمنة الركود. وحجزت الشعر عن توهّج النفس ومفاجأة المعاناة والتجربة.

فيكرر الشاعر فكرة وصورة أو فكر وصور الآخرين من دون أن يضيف أو يبدع شيئاً جديداً.

ويصبح الفينيق أو العنقاء أو طائر الرعد جمرة منطفئة لا شعلة مضيئة.

وسميح القاسم يبدع أكثر ما يبدع حين يطمئن للذات الشاعرة وتوترها في أفق التجربة الشعرية.

ويتصور شاعرنا أن القافلة البشرية تطمح إلى الوصول إلى إرم على أرض جديدة وسعيدة. ولكنها فاضلة وحين تسأله البشرية ماذا لديك يجيبها لدى قصيدة فتطلب من المتلقين السكوت ليستمعوا قصيدة إرم.

قانا وقانا الجليل

قانا

قانا اسم جغرافي لبلدة تاريخية تحولت إلى أسطورة عجائبية في زمن التماسيح الذي تغلب على جبروت روما الإمبريالية بالمحبة التي تجابه الطغاة فلا ينحني الإنسان إلا لرب الكون. فما هي قانا الجغرافيا والمكان؟ وما هي قانا الذاكرة والوجدان؟ وكيف يستدعي الوجدان الذاكرة والذاكرة الوجدان في تألق المخيلة ونبض القلب الإنساني؟ كما في حفلة العشاء الرباني والموت من أجل ولادة حياة جديدة غيّرت التاريخ والعصور وأبدع الدم الذي سال من المصلوب فجر العالم الجديد وكيف استجاب شعراؤنا المعاصرون لمأساة قانا فانبثقت الحياة من الموت. أمامي أربع قصائد للمخيلة الشعرية الحديثة عن هذه المأساة؟

قانا القباني

الأولى لنزار قباني بعنوان «راشيل وأخواتها» مطلعها:

وجه قانا …

شاحب اللون كما وجه يسوع

وهواء البحر في نيسان…

أمطار… دماء… دموع…

نشرها نزار في بيروت. والثانية لنزار بني المرجة بعنوان «قانا» قرضها الشاعر في معبر القنيطرة 02/03/1997 والثالثة والرابعة لنذير العظمة عن قانا الدم وقانا الأسطورة والتاريخ بعنوان «قانا وقانا الجليل» مجزرة قانا التي ارتكبتها «إسرائيل» تستدعي إلى مخيلة القباني وجه يسوع. بشحوبه والصلب الذي حوّل هواء البحر في نيسان إلى أمطار دماء ودموع. قانا على الصليب إذن ومن صلب المسيح في الأمس هو الذي يصلب قانا اليوم كما يوحي الشاعر القباني ويمضي في تداعٍ للأفكار نفسي وتاريخي مسترسلاً في قصيدة مطولة يتحول فيها النثر إلى شعر. ويؤكد لنا الشاعر أن اليهود يرفعون العلم النازي فوق رؤوسنا وأجسادنا ويعيدون فصول المحرقة وجريمة هتلر الذي أحرقهم في غرف الغاز ليهجرهم من أوروبا فجاؤوا إلى فلسطين ليهجرونا ويستأصلونا. ولكن الوقت لم يسعف هتلر فجاؤوا ليرتكبوا جريمة لكي يمحقونا في أرضنا. دخلوا قانا كالذئاب الجامحة يشعلون النار في بيت المسيح ويدوسون ثوب الحسين على أرض الجنوب الغالية.

وقصفوا الزيتون والتبغ والحنطة وتغريد البلابل والشمس مركبة قدموس، والبحر وأسراب النوارس والمشافي والمرضعات وتلاميذ المدارس وسحر الصبايا الجنوبيات. واغتالوا بساتين العيون العسلية. فسمعنا صوت علي ورأينا دموعه وهو يصلي تحت أمطار سماء دامية.

قانا اليوم في مأساتها هي كربلاء أخرى، تكشف الستار عن أميركا وهي ترتدي معطف حاخام يهودي عتيق يقود المجزرة. تطلق النار على أطفالنا وزوجاتنا وأشجارنا وأفكارنا من دون سبب. فهل دستور سيد العالم مكتوب بالعبرية لإذلال العرب؟

فأين قريش وبنو هاشم؟ أين خالد أو طارق أو عنترة؟ ما من قبضاي أو دون كيشوت واحد يسحب الخنجر من رقبتنا. لم يكن هناك غير الثرثرة وفاكسات التعازي بعد المجزرة. فما الذي تخشاه «إسرائيل» من صرخاتنا وفاكساتنا؟ إن جهاد الفاكسات هو من أبسط أنواع الجهاد، بل هو نص واحد لجميع الشهداء الراحلين والمقلبين. وما الذي تخشاه «إسرائيل» من ابن المقفع وجرير والفرزدق والخنساء التي تلقي رثاءها عند باب المقبرة.

و»إسرائيل» مطمئنة، لا تخشى حرق الإطارات وتوقيع البيانات وتحطيم المتاجر. فملوك الثرثرة نحن ولسنا ملوكاً للحرب. فهي لا تخشى قرقعة الطبل وشقّ الملاءات ولطم الخدود وأخبار عاد وثمود. إننا في غيبوبة قومية. لم نتسلم منذ الفتوحات العظيمة أنباء مجيدة. وكلما تزداد «إسرائيل» إرهاباً وقتلاً فنحن نزداد ارتخاءً وبرودة، كأننا شعب من عجين. ويزداد وطننا تقلصاً ولغتنا قبحاً قطرياً. ووحدتنا الخضراء تيبس وتتفكك، وأشجارنا الشامخة في الصيف تنخّ على الأرض بحدود يمحوها الهوى اليهودي بحدود جديدة من اغتصاب أرضنا وتشويه هويتنا الوطنية والدولية.

فكيف لا تذبحنا «إسرائيل» وتلغي تاريخنا وأبطالنا بينما بنو تغلب مشغولون في نسوانهم وبنو مازن بغلمانهم وبنو عدنان يرمون سراويلهم ويبيحون الشفاه والنهود. فالشاعر نزار قباني تحت هول الكارثة يتحول من اللغة السامية إلى الكلام المحكي. ويجمله بإشارات تاريخية وأسطورية ليست بعيدة من الحكي اليومي الذي يسمو إلى فلك الشعر، يتردد على الشفاه بيسر وسهولة.

ويخرج شاعرنا من الأنفة والكبر إلى نقد الهوية ونقد الذات، لا تنصلاً أو هرباً منها بل يذكرنا بالموثبات من قصائد شعرنا القديم ليثير العزة والنخوة، الأمر الذي أشكل على القراءات السريعة والسطحية، والخروج إلى الحكي من الموروث الجزل حرّكته وحرّضته الهزائم والانكسارات التي استدعت نبرة التوثب ونقد الذات وحداثة شعرية تنبثق من رحم الأصالة القومية.

واتخذت القصيدة شكلاً جديداً وإيقاعات عروضية حديثة وحل محل وحدة البيت القائم على التناسب مقاطع شعرية يتفاوت إيقاعها ومساحتها وتخرج من وحدة القافية إلى قافية متنوعة وأحياناً إلى التدوير الذي يؤكد توهّج الصورة لا الصوت ويخرج من التسجيع الشعري إلى انسياب النثر وسهولته.

وتفاوتت إيقاعات منطلق الرمل الذي اعتمدته القصيدة قصراً وطولاً حتى لكأن الشاعر يذكرنا بنبره الشعري بالمشي لا الرقص، الأمر الذي توجه علماء عروضنا القديم الذين أحسوا في إيقاع بحر الرمل المشي والسير وتردده بين التفاوت والتناسب وتحول النخوة الشعرية إلى النبر واللوم وترقيم المقاطع والأفكار.

وقانا نزار قباني ليست قانا التاريخ ولا قانا الأسطورة التي كانت من أعاجيب المسيح بل هي قانا المجزرة «الإسرائيلية» التي ارتكبها بيريز بحق المدنيين العزّل الذين لجأوا، هرباً من القصف المتواصل في نيسان 1996، نحو 800 مدني لبناني، إلى مركز قيادة للقوات الدولية المنتشرة في جنوب لبنان يونيفل تديره القوات الفيجية في قانا. وفي يوم الخميس 18 نيسان تعرّض المركز لقصف عسكري «إسرائيلي» أسفر عن استشهاد 106 مدنيين لبنانيين وجرح 116 آخرين، إضافة إلى جرح 4 من جنود القوات الدولية. وتسبب ذلك بإدانة دولية واسعة وفرض ضغوط شديدة على الحكومة «الإسرائيلية» التي يترأسها بيريز في ذلك الوقت. إنها قانا، الكارثة القومية، وقانا الدم.

ومجازر «إسرائيل» في قانا متعددة وليست واحدة. فأثناء اجتياح لبنان عام 1982 عمد العدو «الإسرائيلي» إلى إحراق مغارة قانا، وتذرّع الجنود بوجود مسلحين داخلها. وآثار الحريق لا تزال موجودة على الجدران. وفي عام 2006 قصفت «إسرائيل» مبنى سكنياً التجأ إلى ملجئه عدد من السكان فأوقعت فيه أكثر من 55 شهيداً، من بينهم أكثر من 27 طفلاً. لكن قصيدة شاعرنا القباني تتحدث عن المجزرة التي حدثت في نيسان صرّح في المطلع.

تبعد قانا 13 كيلو متراً إلى الشرق من مدينة صور وترتفع 300 متر عن سطح البحر. يحدّها من الشرق دير عامص ومن الشمال عيتيت ومن الغرب حناويه، أما جنوباً فتحدّها صدّيقين.

أما قانا الأعجوبة فلا أثر لها في قصيدة القباني، فقد ذكر في الإنجيل يوحنا 2-4 أن السيد المسيح قام بأول أعاجيبه في قرية قانا حين حوّل الماء إلى نبيذ. واختلف المؤرخون حول الموقع، هل هو كفر قانا في الجليل، أو قنت الجليل في فلسطين المحتلة، أو عين قانا، قرية في جنوب لبنان. على الأرجح أنها قانا لبنان التي استنفرت الوجدان الشعري وأحس شعراء العالم بهول المجزرة التي ارتكبها «الإسرائيليون» من خلال الإعلام وكشفها النبض الشعري بنبر غاضب وإيقاع ثائر.

ولمناسبة مذبحة قانا 1996 في نيسان شنت «إسرائيل» عملية عسكرية ضد حزب الله عرفت باسم «عناقيد الغضب» في وقت كانت «إسرائيل» ما زالت تحتل شريطاً حدودياً في جنوب لبنان.

قانا نزار بني مرجة

أما قانا الشاعر نزار المرجة فيبادرنا بمطلع وجداني بضمير المتكلم، فالشاعر يشارك بالدم مأساة البلد المروعة. ولكنه ينتقل إلى ضمير الجمع في تحمّل الكارثة. فأشلاؤنا تتخذ شكلاً جديداً للحياة والمعتدون إلى زوال:

قان… دمك

قان… دمي

… ودماء… قانا… قانية

هم عابرون…

هم زائلون…

ونحن روح باقية!

وينتقل ليخاطب الجنوب اللبناني بنبرة الموت والولادة متفقاً مع طقوس الخصب للشعراء التموزيين ولكن بسياق وجداني يمزج الشهادة بالولادة، ويتكبر على الموت بشموخ الأرز:

ولدتك أمك مرتين… كي لا تموت

وقلتَ: يا حلم اشتعل!

وكنت الأخضر الممتد

بعد نهاية الأشياء

شامخاً كالأرز تنبت من دماك

… إلى سماك

قلباً يردّده الصدى

ليكون عرسك يا جنوب

عرس الشهادة والولادة…

فاسمع وأنصت يا مدى

والراية الحمراء في خطين… شريانين

والأرز بينهما

هم راية الوطن العزيز

الآن تولد بين نيران ودمْ

ونشيدنا المولود في وسط الحمم…

تلك الصخور… تلك الحجارة…

والشجر…

هي شكلنا الآتي!

… إنه طقس الولادة… طقس موتك يا عدم!

فالولادة تتخلل الموت وتعطي حياة جديدة للشاعر ولشعبه. وهي النسيج العاطفي والذاتي الذي يعبّر عن المأساة التي تتحوّل إلى شموخ يتكبّر على الموت بطقس الولادة الذي يرافق المولود في وسط الحمم ويستأصل العدم بالفداء والتضحية.

ولدتك أمك مرتين…

كي لا تموت:

مرة عند الصباح…

ومرة عند الغروب…

ستظلّ تشمخ يا جنوب

ويختتم الشاعر بني المرجة قصيدته بشكل مدور ويجعل من مطلع القصيدة وخاتمتها بنية عضوية للذات القانية كالدم والوجدان المضرّج بنبرة صادقة. فكأن المدينة المدمرة هي الذات الشاعرة لبني المرجة، لكنه دمار أو موت يتجدد طبيعة وإنساناً قانيين بالدم لكن الأشلاء تتحول كالشجر إلى شكل جديد للحياة:

هم زائلون ونحن روح باقية

وشاعرنا نزار في بوحه الشعري لا يكتفي بهضم الأسطورة التموزية في قصيدتنا قانا بل إلى كسوها لغة يومية متألقة تشف عن معناها في الموت والولادة بنشيد ينبعث من قلب الحمم ليقهر العدم. وإيقاع شعري تصويري يسيّر الوصول إلى المتلقي، يمزج الصورة البيانية والحسية في بنية شعرية حديثة.

وهكذا تحولت قانا المجزرة وقانا المأساة وقانا الدم الذي استباحته «إسرائيل» ظلماً وعدواناً باعتراف دولي إلى أسطورة عجيبة من أعاجيب المسيح وأسطورة شعبية للمقاومة يغنيها الشعراء. ويرفعها المناضلون في الميدان رمزاً للتضحية التي تقود إلى الولادة والقيامة من الموت والتشبث بالهوية والكرامة والمصير.

قانا نذير العظمة

إلا أن قصيدتنا «قانا» اتخذناها وسيلة لنقد الذات واستنفار الهمة والنخوة من أجل التحرير والخلاص من الأسر والعبودية وتجري كما يلي:

قانا من مثلك يا قانا

يحمل في التيه خطايانا

أطفالك يذبحها البهتان

ونحن نغطي البهتانا

وشيوخك مزقها البارود

ونحن نجرجر قتلانا

ودموعك لا تغسل عاراً

من ورق التوت عرّانا

لا نملك حتى أن نبكي

أو ندفن بالصبر أسانا

صوّت ليعلو بيريزٌ

وتديم ضحاه ضحايانا

كل الأصوات معبرة

إلا أصواتك يا قانا

أصبحنا كبشاً للأعياد

يحز الذبح محيانا

لم نسمع لم نبصر ونسيَ

ليل الطغيان شكاوانا

يا ليل الصب متى غده

أيرى في العتمة سلوانا؟

افتح عينيك خيوط الفجر

هنا تشكّل قضبانا

وتقمص وعيك إن الذئب

غداة النكبة يرعانا

من سوّده غير القطعان

فدانٍ ليلك يا دانا!!

قانية مثلك يا قانا

أيام الأمة خذلانا

قومي من موتك أو ظلّي

في النار وزيدي إذعانا

مطلوب موتك كي يحيى

ذئب يتنكر إنسانا

وكأن دماءك لا تجري

إلا لتخضّب نجوانا

من يسمع آهاً لامرأة

من يشهد قتل صبايانا

بعواصم لا تعصم طفلاً

وترينا ذلاً وهوانا

وسلام نجني منه الشوك

وجني التفاح سوانا!

قانا حلّفتك يا قانا

من يزرع بالموت قرانا

ويسوّق سلماً مسموماً

ليزيد ظلام بلايانا

أو يسقيهم من نفس الكأس

حليفٌ بالسمّ سقانا

مكّنهم من أرض الإسراء

وهوّن في الليل سرانا!

وعندما انفتحت بوابة فاطمة على قانا المجزرة وقانا التاريخ وقانا الأسطورة نهض المسيح الفلسطيني الجديد عن صليبه ليسقي من كأس واحدة كل تلاميذه المخلصين الذين يتسابقون إلى عرس الفداء، وفي طليعتهم سناء ومريم وابتسام ونورما وزهر وفدوى.

يتكرر طقس الشرب من الكأس الواحدة بعد أن ينفخ فيه المرشد المعلم لتتشبث الأمة بالهيئة الاجتماعية الواحدة وجدارها الذي يشد بعضه بعضاً وكل فرد منها هو بمثابة اللبنة أو الحجر الذي يشكل الروح الكل الذي يحاول مصطلحنا السياسي الحديث أن يختزله بوحدة الصف أو الوحدة الوطنية ومعيارها الأساس هو المواطنة والحفاظ على كرامة الإنسان والمجتمع كما عبرنا عنه في قصيدتنا «قانا الجليل» 13/06/1996:

وكيف تقوم من الموت قانا الجليل

وأبناء سارة من حولها يقيمون

أحلامهم بالقبور وحفر القبور؟!

إذا ما رأوا طفلة أنجبتها الكروم

تهب قبائلهم بسياط اللهيب تدمر

رحم الثرى وأم الينابيع في كل أرض!

يمدون أحبولة الموت تحت التراب

وفوق التراب

وطائرهم لا يطير

بغير الدمار، ليستأصل البذر

أو يقتل النفس في كل حي!

أقانية أنت ضرّجك الدم أم أن

ليلك من أرجوان وعرسك هذا

الذي تشهدين أم الموت كيما

تصيرين قانا، عروس الفدا والقيامة

في كل جيل.

وأي المواسم أجمل من متعة الكرم

في أرض قانا الجليل. هنا كرّم الله

رؤيا المسيح وأعطاه معجزة الحب

باسم السلام المهيمن، باسم الورود

التي يحلم الفجر أن يقبّلها بانهمار

الندى والضياء، وأبناء سارة

لا يشبعون من القتل، كم مرة

ألبسوك الردى، وألقوا عليك

احمرار المغيب، وبثّوا حرائقهم وشياطينهم؟!

فيا عتبة النور كم توّجتك عناقيدهم

بالدمار، كما توّجوا الناصري بشوك

الأذى والهوان!

تقومين من موتك العابر الغد لا تيأسي!

يقوم من الموت أطفالك النازفون.

يقوم شيوخك عند الحصاد وفي الموسم

الخصب

لا تسلّمي الموت أحقادك الساطعات.

تقوم صباياك مثل الورود فلا تقنطي!

يقوم من الموت فتيانك الحادبون على الأرض

كي يقطفوا الكرم، أو يعصروا الزيت

من دمرتهم سياط اللهيب على الطرقات،

ها هم يضيئون فجر المزارع، ها هم يعودون.

ها هم يغنون حول المعاصر. ها هم بلى

يعبرون ظلام الردى،

ويخترقون رماد العصور إلى الأفق الرحب مثل الشموس.

حنانك قانا الجليل، حنانك

من يحفر القبر يسقط فيه

ومن يحتضن بالمعجزات ويحلم بالضوء

في غلسات الدجى يبصر الضوء،

لا تتركي العتم يخرق الضوء

أو يحبس النبض، أنك أنت

التي كوّن الحب تاريخها

وشعّت بوجه المسيح نضارتها التي لا تموت

وأبناء سارة يأتمرون بطفلة الحب

هنا أنجبتها الكروم، وضرّجها الغدر

بالأرجوان

لتصبح قانية، وتُسمّى بقانا الجليل.

غداً حلقة ثامنة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى