أردوغان ولعبة الروليت الروسية

عرف العالم منذ عام 2000، تبلوراً لمشاريع صاعدة متقابلة ومتجاورة ومتنافسة ومتقاتلة أحياناً، لكن أبرزها كان مرتبطاً بالشرق الأوسط الذي قرّرت الدولة الأعظم في العالم التي تشكّلها أميركا أنه مسرح العلميات، عندما قال تقرير الطاقة الذي أقره الكونغرس الأميركي في العام ذاته أن حروب الطاقة هي التي ستقرّر مستقبل الاقتصاد والسياسة والاستراتيجية في العالم، وأن ما سمّي بالشرق الأوسط الكبير الممتد من أفغانستان إلى نيجيريا وفي قلبه العالمين العربي والإسلامي هو مسرح العمليات.

كانت القوى الصاعدة تتمثل بداية بأميركا القوّة الأعظم القابضة حديثاً على أوروبا الشرقية بعد حرب يوغوسلافيا وآثار سقوط جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفياتي. وكانت إلى جانبها روسيا الخارجة من سبات عميق أدخلتها فيه حقبة الرئيس بوريس يلتسين تتلمس أطرافها وتستنهض قواها مع وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى الكرملين. وكانت الصين المندفعة بقوة في طريق النهوض والنمو اقتصادياً، وكانت أوروبا الموحّدة وهي تتسع وتحاول أن ترسم طريقها وفقاً لخريطة رؤيا كان أبرز مهندسيها وزير خارجية فرنسا الاسبق دومينيك دوفيلبان. وكانت تركيا الصاعدة مع وصول حزب «التنمية والعدالة» إلى الحكم وعلى رأسه قائد سياسي جماهيري يحلم باستعادة أمجاد السلطنة العثمانية هو رجب طيب أردوغان. وكانت إيران التي بدأت تنفض غبار الحرب التي عاشتها مع العراق وأثخنت جراحاتها وهي تستعد لخوض غمار التقنية النووية من بابها الواسع وتتصرف كقوة إقليمية قائدة وفقاً لتبنّيها مشروع المقاومة في وجه «إسرائيل». وكان العرب يعيشون أسوأ أيامهم بقيادة مصرية ـ خليجية مع فشل رهانهم على حل القضية الفلسطينية من بوابة التفاوض. فيما سورية تصرخ وحيدة في البرية العربية بأن خيار المقاومة هو الطريق وأن ما هو آت من بوابة الحرب على العراق حروب التفتيت والتجزئة، بينما كانت «إسرائيل» تعيش خيبة فشلها في لبنان واضطرارها للانسحاب منه تحت ضغط المقاومة وانتصارها المدوّي في العام 2000.

قرّرت واشنطن مع وصول المحافظين الجدد إلى البيت الأبيض أن تُخضع العالم لسيطرتها من بوابة حربيها على العراق وأفغانستان، واستعانت بدول الخليج. ولما تعثّرت أدخلت «إسرائيل» في حرب الدعم لكسر المقاومة في لبنان وفلسطين في حروب متتالية حصدت الفشل مجدداً. وبدا أن «إسرائيل» المتعثرة، مع واشنطن الباحثة عن حلول من المآزق، وسط محيط من تلاطم الأمواج، حيث العرب يمكن ان يشكلوا صندوق مال لا قوة دفع لنهضة وحيوية سياسة تجدد شباب المشاريع، وحيث أوروبا المتمردة سقطت تحت العباءة الأميركية بنتيجة الحراك الأميركي النشط لتغيير قياداتها السياسية وتهديدها بلعبة المصالح، وأن الصين لا تزال تتهيب دخول ميدان المعارك السياسية إلا عندما تكون روسيا في المقدمة، وصارت الخيارات الباحثة عن فائض قوة من خارج ما استخدم في الحروب المتعثرة تنحصر بين تركيا وروسيا وإيران، بعدما شارك عرب الخليج والأوروبيون و«إسرائيل» مع أميركا حروب السنوات الفاصلة بين عامَي 2000 و2010 التي بقيت تركيا وإيران وروسيا خارجها سواء حرب أفغانستان أو حرب العراق أو حربَي لبنان وفلسطين «الإسرائيليتين» عامَي 2006 و2008 تباعاً.

كان الطبيعي أن تتوجه العين صوب تركيا فهي عضو في الحلف الأطلسي وهي قوة صاعدة في المنطقة وتملك رصيداً معنوياً لدى شعوبها نابع من ممانعتها للحروب الأميركية و«الإسرائيلية»، ولديها امتداد فاعل في تنظيم واسع الانتشار هو الأخوان المسلمين، ومعها حليف عربي ـ دولة قطرـ التي تتولى تمويل الدور وتقدّم القناة الإعلامية العربية الأولى في التأثير على الشارع لتخديم المهمة، ويمكن لهذا المشروع أن يحاكي الأحلام العثمانية للزعيم التركي رجب أردوغان، أمام وضع عربي راكد عاجز عن تجديد نفسه وطبقة سياسية مفلسة تحكم شعوبه التي يمكن أن ينفجر غضبها في أي لحظة.

عندما انفجر الشارع العربي في شرارة الأولى التي انطلقت من تونس عام 2011، كان كل شيء جاهزاً لمنح إشارة الانطلاق لانضمام تركيا إلى الحلف الذي تقوده واشنطن والذي يفترض أن يرسم معالم الأمن الإقليمي للشرق الأوسط خلال السنوانت الممتدة حتى نهاية عام 2014 موعد نهاية الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان، ليكون العام 2015 عام ترسيم الحلول والخرائط والتوازنات، وتصرّفت واشنطن بما يساعد تركيا على إيصال حلفائها من تنظيم الأخوان ومفرداته للحكم، حيث كان حلفاء واشنطن السابقون يتعرضون لخطر السقوط، فسهّلت رحيلهم بدلاً من حمايتهم تلاؤماً مع الرهان التركي، وامتصاصاً لشحنة غضب تنفجر، وانتظاراً لمسار بدأ ويجب أن ينتهي بالهيمنة على الشرق الأوسط تحت العباءة التركية، حيث الإمتحان الأهم يتمثل بسورية قلب اللعبة الاستراتيجية، لأن منها وفيها يتحدّد مصير أمن «إسرائيل» ومستقبل المقاومة من جهة ومكانة روسيا وإيران والصين وصلة هذه بالبحر المتوسط بعد الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان من جهة أخرى، ومصير خطوط الطاقة من جهة ثالثة لا تقل أهمية.

بمثل ما كان أكيداً أن الحرب على سورية وفيها ما كانت لتتخذ الأشكال والتعقيدات التي اتخذتها لولا الشراكة الحاسمة لتركيا في قيادتها، سيكون للحرب على سورية وفيها الدور الحاسم في تحديد مستقبل الدور التركي والزعامة التركية في المنطقة وضمناً مستقبل الحزب الحاكم في تركيا وزعيمه. ودار الزمان دورة كاملة وخيضت الحرب على سورية وفيها، ولم يتبق ما يمكن الرهان عليه من دون أن يجري اختباره وصولاً للعب تركيا بحماية أميركية غربية وتمويل خليجي ورقة استجلاب تنظيم «القاعدة» بكل منوّعاته لإسقاط سورية. وصمدت سورية جيشاً ورئيساً ونظام حكم وهي تحوز تأييد غالبية شعبية وازنة لخيارات رئيسها الذي هدفت الحرب لإسقاطه، وحلّت نهاية عام 2014 وانتصف عام السياسة المفترض العام 2015، وبدأت السياسة تعلن مفاعيلها عبر ولادة التفاهم على الملف النووي الإيراني، وبدأت تظهر علامات الوهن والضعف على الموقع والموقف في تركيا، وعبّرت نتائج الانتخابات البرلمانية في مطلع صيف 2015 عن فشل حزب الرئيس أردوغان في مواصلة قيادة الدفة التركية، بتأثير عدة عناصر أبرزها كان الفشل في سورية وسقوط استراتيجية عداوات صفر مع الجيران التي أعلنها مهندس السياسة الخارجية التركية رئيس الحكومة داود أوغلو ليحل مكانها صداقات صفر مع الجوار من سورية للعراق وإيران وروسيا واليونان وأرمينيا.

تذهب تركيا للانتخابات المبكرة ولا أمل بتحسن الوضع الانتخابي لحزبها الحاكم ورئيسه، إلا إذا حدثت معجزة. وبدلاً من أن تتم المعجزة بذهاب أردوغان وحزبه إلى المراجعة النقدية لأخطاء التجربة فيقارن وضعه بوضع كل من إيران وروسيا ويتساءل عن سرّ نجاحهما وسرّ فشله، وكيف تمكنت دولة مثل إيران كانت في نظر الغرب الدولة الأولى المصنفة بين المارقين ورعاة الإرهاب من انتزاع مكانة الشريك الأول في الخريطة الإقليمية بقوة الدفاع عن خيارها الاستقلالي من جهة، وهو ما فعلته تركيا في السنوات العشر الأولى من عهود أردوغان فحازت الاحترام والتقدير ودخلت القلوب قبل العقول، وتناسى الناس الاحتلال والاستبداد العثمانيين، وكيف تمكن من جهة مقابلة الزعيم الروسي فلاديمير بوتين بفضل استثماره قيم القانون الدولي واحترام سيادة الدول في سياسته الخارجيبة والتصدي لسياسة الهيمنة التي تنتهجها واسنطن من التقدم لكرسي الزعامة الأولى في العالم، بينما ارتضى أردوغان أن يكون خادماً لمشاريع الهيمنة. فكيف تمكن بوتين الذي يتقاسم الكثير مع أردوغان من الكاريزيمية إلى وراثة امبراطورية عظمى والرهان على النمو الاقتصادي والتواصل بقدر عال مع المؤسسة الدينية، أن يصنع زعامة لا تهتز. بينما أضاع أردوغان الزعامة التي صنعها بضروب الأوهام والتخلي عن مفهوم الجيرة وعدم احترام معايير السيادة فسقط سقوطاً مدوياً. وكان يكفي أدروغان أن يعود إلى سيرة تجربته مع الرئيس السوري بشار الأسد الذي كان متنبهاً لما يعيشه الأميركيون وحلفاؤهم في المنطقة من مآزق وما يمكن أن يقدموا عليه من تغيير لقواعد اللعبة وخلط للأوراق، فتقدم بمشروع البحار الخمسة الذي يضمّ الدول المتشاطئة على بحر قزوين والخليج والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود لتشكيل نظام إقليمي يعتمد على الكيانات والدول الوطنية، وحيث لتركيا وإيران وروسيا أدوار حاسمة، لكن أردوغان فضل الانفراد الرخيص مع الأميركي بدلاً من الانخراط التفاوضي من موقع المصالح المشتركة لدول الإقليم وها هو يحصد النتائج.

لم يتبق أمام أردوغان وحزبه إلا المزيد من العبث بما تبقى من أوراق بين يديه أملاً في إحداث المعجزة التي يحتاج إليها ليجدد فرص إمساكه بالمقود التركي. ووفقاً لحساباته فالمعجزة تتحقق إذا تمكن من الحصول على تواطؤ أميركي ينتهي بسحق الحركة الكردية السياسية والعسكرية، وعليه أن يبحث عن ثمن يستطيع تقديمه لواشنطن لقاء الحصول على هذا الضوء الأخضر، بعدما فشل في جعل إغراء إقامة منطقة عازلة أو منطقة حظر جوي شمال سورية عرضا مقبولاً من الأميركيين الذين نظروا إليه كتوريط في مخاطرة لا تحمد عواقبها. فاستدار بعد صدم رأسه مراراً بالجدار السوري نحو العنوان «الإسرائيلي» بحثاً عن حلف يستهدف القضية الفلسطينية بالتصفية ويمنح «الإسرائيليين» الأمن، وعنوانه دولة غزة، مستثمراً وزنه في تنظيم الأخوان المسلمين لجذب حركة حماس نحو تفاوض ينتهي بهدنة خمس وعشرين سنة تعادل إعلان سلام كامل مقابل منح غزة مواصفات دولة الأخوان في المنطقة العربية مع مرفأ ومطار ومعابر تحت الرقابة التركية، وعلى ضفة موازية تحضير فصل من فصول الربيع العربي في لبنان لاستهداف حزب الله يجذب الشارع تحت عنوان مصنع هو أزمة النفايات وروائح الفساد التي تتصاعد من ملفاتها أسوة بما فعله الأميركيون عام 2008 لإزاحة الزعيم الإيطالي الذي قاوم هيمنتهم رومانو برودي والتمهيد لعودة الشخصية المطيعة سيلفيو برلسكوني، حيث تولت قطر التمويل والإدارة لمؤسسات إعلامية لبنانية تلعب الدور الذي لعبته قناتا «الجزيرة» و«العربية» في تصنيع ربيع تونس ومصر تأسيساً على الغضب الشعبي الصادق بسعيه نحو التغيير، وربطاً لبُعد الخبرة في توظيف النفايات لصناعة ثورة ووسائل الإعلام وناشطي المنظمات الأهلية لصناعة الحشود، بالخبرة التي قدمتها ساحات العراق في كيفية شيطنة القيادات لينال قائد المقاومة ومرشحه الرئاسي العماد ميشال عون بعضاً من الشظايا، ويفتح الباب لوصول رئيس قدمت الخبرة المصرية فرصاً لتكرارها مع وصول قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح السيسي إلى رئاسة الجمهورية عسى تكون الحصيلة إيصال قائد الجيش اللبناني إلى الرئاسة، وهو الذي يتوقع أردوغان أن يكون مدعوماً من الأميركيين وأن يسجّل لتركيا وإلى جانبها قطر الدور الرئيس في تأمين وصوله إلى الرئاسة، وحرمان حزب الله من توظيف فائض قوته في الحرب على الإرهاب لتحصين مقاومته برئيس حليف، بعد النجاح بإصابته في ساحاته الشعبية باستهداف مهابة قائد مقاومته أسوة برموز الفساد عندما جعلت الحملة شعارها «كلكم يعني كلكم»، لتشمل كل القادة في سلّة واحدة فتصيب رمز الطهرانية الأخلاقية بالسوء.

حتى مطلع تشرين الثاني نوفمبر يستهلك أردوغان حطباته الأخيرة في موقد ترتب على بدء إشعاله تموضع جديد لمصر خشية ولادة دولة للأخوان المسلمين على حدودها فتسرعت روزنامة التنسيق المصري مع روسيا ولاحقاً سورية، كما ترتب تنبه شرائح واسعة من اللبنانيين لما يدبر في ساحات الحراك فخرج بعض منهم يحاول تصحيح مسار الساحات كما تفعل قوى اليسار برفض التدخل الأميركي الذي عبّر عنه سعي جيفري فيلتمان لتدويل الحراك من بوابة مجلس الأمن، وخرج البعض الآخر ينسحب من الساحات منعاً لتضخمها ووضعها بيد من لا يؤتمن عليها، وبدا الضمور في الحراك واضحاً بعد موجة النهوض في تظاهرة 29 آب أغسطس .

يلعب أردوغان لعبة الروليت الروسية التي تتمثل بوضع رصاصة واحدة في المسدس وإدارة قرصه والتسديد صوب رأسه، أملاً بأن يقع تحت الناقر مكان رصاصة فارغة، وربما تكون الرصاصة القاتلة في انتظاره!

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى