أنا وخيمتان صبرا وشاتيلا

باسل عبد العال

ندخل معاً، أنا وهو من الباب الرئيسيّ الواقع في بداية الحيّ أمام مسجد المخيم الوحيد في حارة المخيم، أين المخيّم يا أبي؟

أهجس في وجومٍ على درجٍ يصعد بنا إلى الطابق العلويّ وسط جدرانٍ من بياضٍ فاقعٍ يضيء وهج البناية الداخليّ، بنايةٌ في مخيم، عدت إلى سؤالي البريء من جديدٍ في خضمّ التعب والصمت والسفر المبكر إلى بيروت. هناك حيث صبرا وشاتيلا وأنا وأبي والمخيم، تدخل الأسماء في العبارات والعبارات في الأسماء ونصير ذكرى لزيارةٍ تختصر المشهد. هنا كانت الحرب، أو هنا وقعت الحرب في هذه الأزقة المتناثرة كأغصان الدالية على مرمى من الريح والبحر وبيروت.

يقول أبي ماسكاً يدي: هذا هو المخيم يا ولدي، أتعلم ما حصل هنا في أيلول عام 1982؟ أنظر يا ولدي ماذا فعلوا بنا. نظرت ثمّ انكسرت. هنا يا ولدي قاوم شعبك في الأرض وتحت الأرض وقرب الأرض، وجئت أنت لتسكن فيّ وتسكن معي في هذا المخيم «سيّد الحياة» ومحطة العودة إلى فلسطين. هو المخيم ابن عصرنا الدامي، ابن مجزرةٍ كتبت التاريخ بالطين والدم، فهل ستصبح شاعراً يا ولدي؟ قلت: لكنني لا أجيد الكتابة ولا الرمز والصورة والفكرة، هل وقعت في التباسٍ ما يا أبي؟ بكى أبي في سرّه وسار في طريقٍ، جانب مفترقٍ لولبيٍّ بين «قصر صبري حمادة» والشارع المؤدي إلى بلدية الغبيري في تقاطعٍ عناقيّ بين المخيم والمدينة. حيث نطق الدم الفلسطيني اللبنانيّ في تراجيديا التراب وملحمة العصر.

في الطابق العلويّ وحدي أمسك الذكرى وأجهش: «أنا صبرا وشاتيلا» هناك شارع للموت السريع وهناك وجوهٌ كالوجوه في كلّ وجهٍ شهيدٍ وبيروت لنا جميعاً، تطلّ من شرفةٍ صوب جراح شعبك والمنفى في المنفى والأسئلة. من 17 سنة كنت في شاتيلا أقيس حجم الحلم في نكبات شعبي بين صبرا وشاتيلا ونهر البارد وغزة وإلى ليلٍ أسود فوق، فوق، «كي لا ننسى» وجدتها على جدران البيوت، فمتى ننسى كي نتذكر؟ وهل ننسى؟ أقول في داخلي البريء على السؤال الجريء، كيف ننسى إذن، وكل يومٍ لنا حصّتنا من موتٍ ملحميٍّ كصبرا وشاتيلا؟ لنا الذاكرة حاضرةٌ من شقائق النعمان ولهم ريحٌ صرصر، شاتيلا تشعل فيّ النار من وقود وجهها الدامي، كيف أكتبها؟ لا أستطيع الكتابة، ولم أجد الحروف في أصابعي الصغيرة كي اكتبها، والأشياء تدلّني وترشدني إليها. هنا قبر غسّان كنفاني، هنا وردةٌ اسمها صبرا ترقد في سريرها الترابيّ، وهناك وسادةٌ أخرى لآلاف الشهداء. مرّ الموت من هنا، من هنا حيث أقف فارغ اليدين والوجه، والضوء لم يغب كلّ شيءٍ ولم نغب معه، كما قالوا بأننا نحيا أكثر كلّما متنا ربما هي حكمة المتشبثين بحب الحياة، وهي فكرةٌ للدفاع عن فسحة الفرح في وجه الألم. كم أنت حيّةٌ يا حياة، وكم نحن أحياء فيك، وشهداء فيك.

من شرفةٍ في المخيم تمرّ طائرةٌ أخرى أعلى صوب المطار ويتدحرج الوقت من يدي، وأعدّ مرور الطائرات بإصبعي واحدةً، اثنتين، وصوتها يخترقني ويعوي فوقنا كأنه ضوضاء المكان، هاجروا من بيروت إذن، ونحن متى نهاجر من بيروت إلى حيفا ويافا وعكّا… متى، متى؟ من دون موتٍ أو ضجيجٍ عن موتٍ ما، أو من دون خدوشٍ في الهواجس والذكريات. هاجروا بيروت هؤلاء في سفرٍ عاديّ مثقلين بالشوق والاحتراق إلى بيروت. بيروت التي ما زلت أذكرها، المدينة الرياضية، محطة الرحاب، السفارة الكويتية، «سوق الحمديّة في شاتيلا» أمشي خفيف الخطى وحدي وسط الصمت الداخليّ وصورة المكان أمامي. «شارون» لم يترك شيئاً هنا سوى تلك المرأة العجوز الجالسة على عتبة بيتها، أين كانت تجلس يا ترى في ليل المجزرة؟ ربما كانت في سنّ الأربعين أو ربما الخمسين، أو ربما لم تكن هنا حين هاجروا جماعاتٍ في التراب.

هاجروا يا جدّتي،

قولي لهم قولي،

أنا الأرض فعودوا،

عدت فيكم ههنا

يا جدّتي قد هاجروا

في حجرٍ قد هاجروا

صبرا أنا يا شاتيلا،

مرةً أخرى يزداد القمر سطوعاً وسط مرآة الغروب، بنايةً بيضاء في مخيمٍ أحمر أتأملها من بعيدٍ وأحنّ إلى شبيهتها في مخيّمٍ آخر «نهر البارد»، فيزداد الألم سطوعاً بين المنفى والمنفى. هي المسافة بين طرابلس وبيروت، وربما «أبو ظبي»، شيءٌ يقسمك إلى قسمين، ويثير التساؤل عن مصيرٍ ضائعٍ كمرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا الواضحين الهاربين في مفترقات الزمن. سينتهي الزمن. تعلم الكتابة كي تتعلم كيف تروّض هذا الجموح، الزمن. آهٍ لو كنت أجيد القراءة يومها لكنت أفرغت ما في داخلي من احتقان المشهد في تلك الزيارة/ المرحلة من أوّل أيّام الإدراك للعالم والناس. هي اكتشاف الغامض في الحياة وانبعاثي من جديد في عالم المخيم والشتات الطفوليّ في صبرا وشاتيلا وفي خفايا القبور وأثر المجزرة.

وتبقى هنا في دماك،

تروّض جرحك جرحك،

وأنت العلا والملاك،

بأرضك كانت وكانت خطاك،

تصل خطانا إلى مسجد المخيم الأقرب إلى البيت، مسجد الشهداء في طابقه الأرضيّ تجد المقبرة أنّى التفت. مسجدٌ فوق المقبرة، ولكنك تجد القبور من دون زهر البنفسج الذي يوضع عادةً فوق القبور. ربما لأنّ قبورهم ليست من بنفسجٍ، إنما هي من قرنفلٍ ورياحينٍ وصبرا وشاتيلا.

كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى