كيف أثّرت الأحداث السياسية في كرة القدم جذرياً؟!

في 30 أيلول 1989، أوضح وزير الخارجية الألماني هانس ديتريش جينشر من شرفة السفارة الألمانية في مدينة براغ قائلاً: «إننا أتينا إليكم لنخبركم أن عودتكم اليوم باتت…» ما تبقى من خطاب جينشر غاب وسط الاحتفالات الصاخبة للحشود الكبيرة من لاجئي ألمانيا الشرقية.

وتعتبر هذه الكلمات من أشهر العبارات غير المكتملة في تاريخ ألمانيا، فهي تؤرّخ لأبرز اللحظات التي عاشتها البلاد. إنها واحدة من المحطات التي أدّت في نهاية الأمر إلى إعادة توحيد ألمانيا الغربية مع ألمانيا الشرقية. وبالنسبة للناس في الشرق شكّل هذا الحدث تحوّلاً عظيماً. هذا الحدث العظيم كان في يوم 3 تشرين الأول من عام 1990، وهو يوم «الوحدة الألمانية».

حتى كرة القدم شهدت بعدها تحوّلاً كبيراً حيث اجتمع في فريق واحد لاعبون معروفون من ألمانيا الشرقية مع نجوم عالميين أمثال لوثر ماتيوس ورودي فولر وأندرياس بريمه ويورغن كلينسمان وآخرين. وقد تنبأ القيصر فرانز بيكنباور أن يحقق المنتخب الوطني الجديد النجاح على مدى سنوات طويلة، لكن الأمور اتخذت منحى مختلفاً ذلك أن الفوارق كانت واضحة. فبعد 26 سنة من سقوط جدار برلين اتضح أن الانسجام كان يتطلّب وقتاً طويلاً.

شنايدر: كانت هناك اختلافات

هناك رجل تأثر مشواره الكروي بالأحداث التي وقعت في ذلك الوقت، إنه بيرند شنايدر. واستحضر ذكريات الماضي في حوار مع موقع فيفا بقوله: «بالطبع تحدثنا في الفريق عن هذا الأمر،» ثم أضاف قائلاً: «وبكل تأكيد كانت هناك أفكار تتناول إمكان تقريب الدوري الألماني للمحترفين من بعض اللاعبين».

وفي تلك الفترة كان لاعب وسط الميدان يبلغ 15 سنة من العمر. وكان يلعب لنادي كارل زايس يينا قبل أن ينتقل عام 1998 إلى الغرب صوب نادي إنتراخت فرانكفورت. خاض شنايدر في نهاية المطاف 81 مباراة دولية واطلع بدور الكابتن الثاني للمنتخب الوطني الألماني. وفي عام 2006 حظي هذا اللاعب صاحب المهارات الفنية العالية بشرف قيادة منتخب البلد المنظم على أرض الملعب في المباراة الافتتاحية خلال نهائيات كأس العالم ألمانيا 2006 FIFA.

أسس شنايدر لمسيرته الكروية اللامعة خلال تكوينه في القسم الشرقي من البلاد. وقد حصل على لقب «البرازيلي الأبيض» لما يتمتع به من فنيات كروية رائعة بفضل التأثير القوي للأسلوب الكروي الغربي وعلق في هذا السياق قائلاً: «حصلت في وقت مبكر على مدربين من الغرب. وكانت هناك فوارق واضحة. ففي الغرب كانوا يولون أهمية كبيرة للمستويين التكتيكي والفني، على عكس ألمانيا الشرقية حيث كان التركيز منصبّاً على الجانب البدني أي التدريبات المتعلقة بالقوة والقدرة على التحمل. ولمدة عقد من الزمان تطور ذلك في اتجاهين مختلفين».

كيرستين: يجب على المرء التأقلم

ولقد أدرك أولف كيرستين بوعي كبير كل التحوّلات التي حدثت خلال هذه الأشهر التاريخية الممتدة بين نهاية عام 1989 وبداية 1990. عاش هذا المهاجم الوحدة الألمانية وهو في منتصف العشرينات عندما كان لاعباً لنادي دينامو دريسدن. وفي الغرب أصبح واحداً من أفضل المهاجمين في فترة احترافه. وأوضح كيرستين في حديث مع فيفا بخصوص فترة التحول في مساره قائلاً: «بالنسبة لنا كان أمراً جديداً أن يكون الكثير من المستشارين والمدراء التابعين للأندية حاضرين خلال المباراة أو التدريبات ونتحدث معهم أحياناً. وفي مرحلة الإياب في عام 1990 اتصل بنا بشكلٍ مكثف الكثير من المهتمين».

ويتذكر كيرستين تلك الفترة بقوله: «إن الجانب الإعلامي الذي يلعب اليوم دوراً أكبر، لم يكن يحظى في الماضي بأهمية كبيرة في الشرق. كانت هناك كاميرا واحدة والقليل من المقابلات. أما الآن فهناك الكثير من المقابلات الإعلامية وعدد كبير من الصحافيين». قبل أن يتابع بالقول: «كان يتعيّن على المرء التكيّف مع هذا الواقع. ولم يكن ذلك سهلاً لأن هذا الإقبال لم يكن متوقعاً».

ظهرت البوادر الأولى للتحوّل الكبير قبل أسابيع قليلة من سقوط الجدار عندما طالبت أندية ألمانيا الشرقية من الاتحاد الكروي توقيع عقود مع اللاعبين الذي يلعبون في الدرجتين الأوليين وهو ما يعتبر مؤشراً للتغيّر السياسي.

كانت هناك فوارق قليلة بين الشرق والغرب كما أكد ذلك كيرستين: «كنا بكل تأكيد نتمرن أكثر في الشرق، مرتين يومياً. ولم نكن نحصل في الواقع على يوم راحة. وفي الدوري الألماني كان وما زال يعتبر أمراً عادياً أن يخصص اليوم الذي يلي المباراة للجري فقط واليوم الثاني يكون من أجل الراحة. لقد كان وضعاً جديداً بالنسبة لنا».

زامر والمجد الجديد في الغرب

بعد أشهر قليلة من سقوط الجدار انتقل كيرستين، الذي كان يتخذ جيرد مولر مثلاً أعلى خلال طفولته، إلى نادي باير ليفركوزن. لكن أندرياس توم زميله في خط الهجوم كان أول من تحوّل من الشرق إلى الغرب وذلك في عام 1989. وفي العموم غادر أكثر من 20 لاعباً القسم الشرقي بين عامي 1989 و1991 للالتحاق بأندية الدوري الألماني الممتاز، ومن بينهم نجوم أمثال توماس دول وماتياس زامر وشتيفن فرويند فضلاً على الثنائي الهجومي لنادي باير ليفركوزن كيرستين وتوم.

وكان زامر قد صرّح في وقت سابق لوكالة الأنباء الألمانية قائلاً: «قليلون فقط هم من عاشوا التجارب التي عشتها سواء على المستوى الرياضي أو الشخصي». وكان ابن مدينة دريسدن الذي يشتغل مديراً رياضياً في نادي بايرن ميونيخ قد فاز 3 مرات بلقب الدوري الألماني وبلقب دوري أبطال أوروبا وتوّج بلقب كأس الأمم الأوروبية 1996 مع الماكينات الألمانية.

وأقرّ زامر، الذي أصبح أول لاعب من ألمانيا الشرقية يحمل قميص المنتخب الألماني عند مشاركته في فوز ألمانيا برباعية نظيفة ضد سويسرا في كانون الأول 1990، بقوله: «لم تكن فكرة ماذا كان سيحدث لو لم يسقط الجدار غريبة بالنسبة لي. فأنا أنظر بتواضع وامتنان كبيرين لكوني تمكنّت من السير في هذا الدرب. إنها نعمة ربّانية تقريباً».

مسألة عادة وتأقلم

إذا ألقينا نظرة على لاعبي المعسكر الشرقي الذين واصلوا مسيرتهم الكروية لاحقاً، يتبيّن أن منتخب جمهورية ألمانيا الديموقراطية كان سيكون قوياً للغاية بعد سقوط جدار برلين. خصوصاً أن الفريق شارك في عامي 1987 و1989 في نهائيات كأس العالم تحت 20 سنة FIFA وأحرز في النسخة الأولى الميدالية البرونزية خلف منتخب ألمانيا الغربية الوصيف ويوغوسلافيا المتوّجة باللقب. إلى ذلك، تمكن منتخب ألمانيا الشرقية من حجز تذكرة التأهل إلى كأس العالم تحت 17 سنة 1989 FIFA.

ويرى كيرستين أنه: «كان سيكون لدينا فريق قوي جداً وبكل تأكيد كنّا سننافس بقوّة على المستوى الدولي. لكن إلى أي مدى كنّا سنحقق النجاح، هي مسألة أخرى. غير أنني أعتقد أنه إذا حظينا بفرصة المشاركة في التصفيات المؤهلة إلى البطولة الأوروبية أو النهائيات العالمية كنا سنتمكن من تحقيق التأهل». وكان هذا المهاجم الخطير قد سجل 34 هدفاً في 100 مباراة دولية، 49 منها مع منتخب ألمانيا الشرقية و51 منها للمنتخب الألماني الموحد.

وأردف كيرستين قائلاً: «كان المنتخب الألماني أكثر احترافية. ففي ألمانيا الغربية كنا دائماً نقصد أفضل الفنادق وكنا نحظى برعاية شاملة. ولقد تحسن الآن ذلك بشكلٍ كبير إذ تتم إراحة اللاعبين كلياً. وكان الوضع مختلفاً في منتخب ألمانيا الشرقية». وأضاف قائلاً: «إنها مسألة تعوّد أيضاً. فما يجهله المرء لا يفتقده أيضاً. كان المرء راضياً عندما يكون لاعباً دولياً. وكانت الأمور تسير بشكلٍ مشابه في الأندية. لم يكن المرء يفكر في ذلك حيث إن هذا الاعتناء الشامل لم نشهده إلا بعد انتقالنا إلى الغرب».

بين الفوارق والقواسم المشتركة

كان إدوارد غاير، آخر مدرب لمنتخب ألمانيا الشرقية، قد أفصح قبل بعض سنوات في حوار مع مجلة كرة القدم النمسوية «باليستيرر» أنه كان يتمنى «ألا يسقط الجدار إلا بعد ربع سنة، حيث إنني كنت أرغب بشدّة في المشاركة في النهائيات العالمية». بينما انهار الحلم الأخير بالمشاركة في العرس العالمي بالنسبة للاعبي منتخب جمهورية ألمانيا الديموقراطية – كانت ستكون ثاني مشاركة له في أم البطولات بعد دورة 1974 نجح المنتخب الألماني في التتويج باللقب العالمي في إيطاليا. وقد أشرف جاير بعدها لمدة مواسم عديدة على تدريب نادي إنيرجي كوتبوس في الدوري الألماني الممتاز قبل أن يقضي فترة قصيرة كمدرب لنادي النصر في مدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة.

وقد ظلّت الاختلافات قائمة في ذلك الوقت. فعلى مستوى الأندية تنافس 14 نادياً فيما بينهم في دوري جمهورية ألمانيا الديموقراطية الممتاز خلال موسم 1990-1991، وتقرر انتقال اثنان من هذه الأندية بعد ذلك إلى الدوري الألماني الممتاز وهما البطل هانزا روستوك والوصيف دينامو دريسدن. وفي المقابل، التحقت 6 أندية أخرى بدوري الدرجة الثانية. والجدير بالذكر أنه من بين كل هذه الأندية ليس هناك أي نادٍ ينشط اليوم في كلا الدوريين الأولين.

وفي هذا الصدد قال كيرستن: «هناك عوامل متنوعة تقف خلف هذا الوضع. فوحده العامل الاقتصادي لا يكتسي مكانة مميزة في أندية القسم الشرقي من البلاد. غالباً ما تكون مجالس الإدارة والتدبير ضعيفة. فخلال الانفصال الألماني حدث تخلف من الصعب تجاوزه».

كروس والبرازيل

وعلى حد قول كيرستين ليس من الغريب أن تهاجر في الوقت الراهن المواهب الكروية في وقت مبكر من الولايات الجديدة إلى القسم الغربي من أجل الانضمام للأندية الكبرى. وواصل ابن التاسعة والأربعين حديثه قائلاً: «إنه أمر عادي في المجال الكروي. عندما ألقي نظرة على المؤهلات التي تتمتع بها أندية الدوري الألماني الممتاز والإمكانات المالية التي تملكها لا يمكن عندها لوم اللاعبين الشباب، فهم يفضلون الانتقال إلى تلك الأندية لأنهم يجدون هناك ظروفاً أفضل. إنه أمر مؤسف لكنه وضع لا يمكن تغييره».

37 لاعباً محترفاً في المجموع خاضوا خطواتهم الكروية الأولى في أندية من القسم الشرقي، لعبوا بعد 26 سنة من سقوط جدار برلين لمنتخب ألمانيا الموحّدة، ومن بينهم هناك بطل عالمي، إنه توني كروس. لكنه لا يعير أهمية كبيرة لكونه الوحيد في المنتخب الألماني المتوّج باللقب العالمي في البرازيل 2014 الذي ولد في الولايات الألمانية الجديدة. وعلى حدّ تعبيره، لا يحسّ أن هذا الموضوع قريب منه لأنه لا تربطه علاقة كبيرة بذلك الوقت كما هي الحال بالنسبة لأسرته.

مرّت الآن 26 سنة على سقوط الجدار، لكن إسقاطه من أذهان الناس تطلب وقتاً أطول. لكن ما يجمع الألمان بات الآن أكثر لحمة ومتانة، وهو ما يهم في نهاية المطاف.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى