روسيا في قيادة التاريخ

د. نسيب أبو ضرغم

لم يشهد التاريخ أن الدولة الروسية، سواء في المرحلة القيصرية، أم في المرحلة السوفياتية، أنها كانت في مقدمة المواجهة في ميادين المنطقة العربية.

لقد دأبت روسيا على تأكيد حضورها في البحر الأبيض المتوسط من دون أن يكون هذا الحضور مبادراً إلى المواجهة المباشرة. هذا ما حدث أيام حصار نابليون لعكّا، حيث لم يشارك الأسطول الروسي آنذاك في أية أعمال حربية ضد الغزوة الفرنسية، التي كانت على حساب الاستراتيجية الروسية في المنطقة. ولقد تكرّر المشهد أيام الستينيات من القرن الماضي، حيث شاءت القيادة السوفياتية أن يكون حضورها في المنطقة حضوراً داعماً مسانداً وبشكل خاص مسألة التسلّح.

إن عقوداً مديدة مرّت على الوجود الروسي في البحر المتوسط وفي الشرق الأوسط بشكلٍ عام، الوجود الذي رسم لنفسه حدوداً هي حدود الأمر الواقع والاعتراف به. وهذا هو السبب الذي حدّ من الاندفاعة السوفياتية في دعم الدول العربية على مستوى التوازن الاستراتيجي في السلاح.

في تلك المرحلة كانت موسكو بعيدةً عن النقطة المركزية الفاصلة في صناعة تاريخ المنطقة، واستطراداً العالم. أما اليوم فيبدو أن القيادة الجديدة في موسكو قد استوعبت دروس الماضي وأسباب الانكفاء عن قيادة التاريخ في المنطقة بدلاً من مواكبته. لذلك فإن تحوّلاً نوعياً عميق الأثر قد حصل، حينما قرّرت القيادة الروسية أن تتصدّر قيادة التاريخ في هذه المنطقة الحساسة من العالم، في وقت فرض التحالف الصهيوــــ أميركي معادلة حاسمة تقول: «إما الانخراط الكامل في قيادة الحرب ضد القوى الإرهابية التي تستهدف سورية كما تستهدف روسيا، وإما الانكفاء إلى ما وراء القرم وتحويل روسيا إلى دولة معزولة مشغولة بمكافحة قطعان الإرهابيين في موسكو وبقية المقاطعات الروسية».

كان الدرس الماضي مكلفاً للاستراتيجية الروسية المستهدَفة الوجود في المياه الدافئة أي في المتوسط والهادئ، وبالتالي كانت الخطوة الأخير للقيادة الروسية المتمثلة في الانخراط المباشر عسكرياً في الحرب على الإرهاب خطوةً توازي في بعدها الاستراتيجي الكلفة الاستراتيجية السابقة، ولكن باتجاه إيجابي.

لحظة قيادة التاريخ الروسية حتّمتها حصيلتان:

الأولى: جعل الجغرافيا السورية منصّة لانطلاق الإرهابيين باتجاه روسيا، وبالتالي سعي هؤلاء ومشغليهم من قيادة التحالف الصهيو ــــ أميركي لطرد روسيا من أهم مساحة استراتيجية لها وهي المتوسط وضفافه وسوراقيا سورية ــــــ العراق . وبالتالي فتح هذا المسطّح الجغرافي الاستراتيجي أمام التحالف الصهيو ــــ أميركي الذي سيقضي بحال سيطرته عليه، على كل أمل في استعادة شعوب المنطقة حرّيتها ووحدة أراضيها، وبالتالي عزل روسيا لعقود طويلة خلف مسطّحات الجليد بعيداً عن القيادة والتأثير في أي نظام عالمي قائم.

الثانية: نضج الظروف الدولية، خصوصاً بعد هزيمة أميركا في أفغانستان والعراق وعجزها عن إسقاط دمشق، في ظل قيام تحالف دول البريكس ومنظمة شنغهاي. كل هذه المعطيات جعلت روسيا تعتقد، وهي على حق، أن لحظة فكفكة النظام الأحادي الدولي وفرض النظام التعددي الدولي، غدت ممكنة التحقق على مدى الجغرافيا السورية، ذلك أن قدر هذه الجغرافيا أن يتقرّر عليها مصير العالم.

إن قرناً كاملاً قد انقضى منذ اتفاقية سايكس بيكو العام 1916 وهو القرن المتفرّد في تأثيره على النظام الدولي والسياسات والاستراتيجيات الدولية التي نشأت خلاله، بسبب التداخل العضوي للمصالح الاستراتيجية لكافة الدول الفاعلة وسط الصراع الذي اندلع منذ مؤتمر بال الصهيوني العام 1897 وحتى اللحظة.

مثلما كان قدر الجغرافيا السورية سلبياً بالنسبة لنا في القرن المشار إليه، فإن قدر هذه الجغرافيا عينها سيكون إيجابياً بالنسبة لنا أيضاً في المئة سنة المقبلة، من هنا ندرك أن التحوّل الروسي في مقاربة الصراعات القائمة في المنطقة من مشهد المواكِب لها إلى المنخرط في الحرب عليها، جاء نتيجة لهاتين المحصّلتين الأمر الذي سيستمر حتى يفرض النظام التعددي الدولي نفسه، وعند تلك اللحظة يكون الانتصار العظيم لنا كسوريين بأننا حجزنا دورنا في صناعة التاريخ وسيكون انتصار عظيم للدول الحليفة من إيران إلى دول البريكس، وفي مقدمتها روسيا، إلى دول أميركا اللاتينية إلى المقاومات كافة، وسيكون عصر جديد لهذا العالم العربي قائم على قاعدة التحالف الاستراتيجي بين هذا العالم بكل مكوّناته والكتلة الدولية الصديقة ذات المصالح البعيدة الغور والزمن والمتقاطعة مع مصالحنا العميقة أيضاً، بحيث يتشكل من ذلك كله قاعدة صلبة ستنشأ عليها سياسات واستراتيجيات سيكون لها تأثير على بقية المكوّنات السياسية والدولية.

من خلال هذا العرض يتحصّل لنا منطقياً أن المواجهة على الأرض السورية قد تأخذ بعداً دولياً أوسع مما هو قائم، وقد نرى العالم بأسره يقتتل على الأرض السورية في مشهدٍ يشبه مشهد الحرب الإسبانية في الثلاثينيات من القرن الماضي.

إن اليهودية العالمية تدرك بأن الدور القيادي في الصراع مع الحلف الصهيو ـــــ أميركي، الذي تقوم به روسيا، وما ينتج عنه من تداعيات استراتيجية لمصلحة دمشق والمقاومة والدول الحليفة هو دور قاتل للحلم اليهودي. وبناءً عليه نميل إلى الاعتقاد بأن «إسرائيل» ستحاول قلب الطاولة قبل أن يستكمل الدور الروسي فعله، وقد يكون ذلك بعمل تخريبي يطال المسجد الأقصى.

إن العودة إلى الإمساك بمقود التاريخ عودة ممهورة ببحار من الدماء منها ما شاهدناه ومنها ما سنشهده. إن حلفنا الذي يشهده العالم اليوم مع روسيا الاتحادية ودول البريكس حلفٌ سيغيّر وجه التاريخ، وإن مئة عام من الشمس الحرّة تنتظرنا وإن كان ثمن ذلك دماً ودماراً وحروباً.

الانتصارات العظيمة لا تخرج إلا من الجراح العظيمة.

«وإنكم ملاقون أعظم انتصار لأعظم صبر في التاريخ».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى