تشرين يجدّد دفاتره…

علي قاسم

رئيس تحرير «الثورة» ـ سورية

ليس من باب المصادفة أن يُعيد تشرين بأيامه ولحظاته وساعات المواجهة المحتدمة على الأرض، كما هي في السياسة… رسم حكاية إضافية في وجدان السوريين، وهو الذي يحمل ما يكفي من محطات سياسية ووطنية تجاوزت عقودها الماضية، ولا تزال تعيد النقاط التائهة بحكم الزمن على حروفها ولو بعد حين، حيث لا تترك مجالاً لالتباس هنا أو تأويل هناك، ولا تقبل أن يكون تشرين إلا بداية لتحوّل – في أغلب الأحيان – يكون ما بعده غير ما قبله.

في السنوات الماضية التي مرّ بها تشرين كانت تلك الحكايات تأخذ إسقاطاتها البعيدة والقريبة، وتضع التفاصيل التي غابت لسنوات أمام مرآة الواقع، وهي تحاكي قصصاً وصوراً ما زالت طيّ الكتمان، وجاءت الوثائق التي حكم الزمن بالإفراج عنها لتضيف إلى الصفحات ما كان يحاول النسيان أن يطويها أو الذاكرة القصيرة أن تتجاوزها، ليعيد جزءاً أساسياً يمكن قراءة الحاضر في جزء منه، والبناء عليه للمستقبل في ضوء ما جرى ويجري.

اليوم… يعود تشرين وقد تصدّرته صورة الماضي، لكن بلبوس الحاضر، وكما أحدث فارقاً في التاريخ العربي آنذاك، يبدو أنه مرشح ليحدث ذلك الفارق، لكن ليس في تاريخ العرب فحسب، بل في تاريخ المنطقة، وربما في مرحلة لاحقة في تاريخ العالم، بناء على المنعطف السياسي والجيوسياسي، وربما العسكري الحاصل على مستوى العلاقات الدولية، والمشهد الذي يتشكّل بخطواته ومؤشراته الأولى سياقاً فعلياً وأساسياً لنظام عالمي يشتقّ حضوره من الحدث السوري ويستمدّ وجوده من الصمود السوري، الذي حاكى فعلاً أسطورياً تسجل وقائعه اليوم على أرض الميدان وفي دفاتر السياسة.

وإذا كانت تلك الدفاتر بحلّتها الماضية بقيت عقوداً أربعة ونيّفاً من الزمن، ولا تزال تنبش في الأوراق المخفية، وتحت سطور ما نُشر وما كُتب، وفي محاضر الغرف المغلقة والمفتوحة على حدّ سواء، وفي تسجيلات الاجتماعات السرية والعلنية، فإنّ عقود قراءة ما يجري قد تتجاوز العشرة، وفي بعض تجلياتها ربما رسمت ما هو أبعد من ذلك، حيث التداعيات القائمة ليست أكثر من ظواهر تستجيب للحدث اليومي وما يمليه من مواقف، تبدو متبدّلة في كلّ لحظة تحت ضغط اتساع دوائر الارتداد الناتجة.

لكن ذلك لا يعني بأيّ حال أنّ المقاربة لا تختلف، وأنّ الظرف هو ذاته، رغم أنّ أطراف العدوان تتشارك في ما بينها، وأنّ ما كان منها مخفياً أو غير علني قد ظهر وبان، وأنّ العمالة التي تستحضرها الغرف السرية باتت اليوم على رؤوس الأشهاد، وأنّ الميدان المتحرك والفارق بين هذا وذاك يتعدّل من عدوان بالحرب المباشرة إلى عدوان بالوكالة، أدواته الإرهاب المدعوم من أطراف تعترف بعدائيتها، والمموّل والمنتج من شركاء عدوان كانوا حتى وقت قريب يظهرون الودّ، ويعلنون الانتماء إلى أمة تبرّأت منهم، بعد أن وقفوا في الخندق الآخر، مشهرين كمّاً لا ينتهي من الحقد، وصيغة لا تلتوي من العمالة الرخيصة، وقد سقطوا في مستنقعها عراة حتى من ورقة توت.

تشرين… يحضر وتحضر معه دفاتره… ولا تزال تتسع صفحاته ليعيد رواية ما حدث طوال تلك العقود وما تلاها، لكنه شغوف بتسطير ما يحدث، ويمهّد لما سيحدث مشتقاً من إسقاطات اللحظة التاريخية والتموضع السياسي والاستراتيجي للفعل الميداني وتجلياته في السياسة الإقليمية والدولية وعلى منابر الأمم وداخل قاعدتها، كما خارجها مشهداً يعيد الأمور إلى نصابها في التاريخ والجغرافيا والسياسة والتحالفات قديمها وجديدها، حيث الكلمات تستقرّ في مواقعها… والحروف تسترجع سطورها… والنقاط لتكون فاصلة بين تاريخين وواقعين وحدثين.

السوريون الذي يحيون ذكرى حرب تشرين التحريرية يواصلون معركتهم ضدّ عدوهم بوجهه الجديد الإرهاب وأدواته… القديمة منها والحديثة، ويخطون في مواجهتهم صفحات تخطت كلّ ما عرفته البشرية وما شهدته في عقودها الحديثة، وهم بعد خمس سنوات إلا قليلاً يرسمون لوحة وطن ضحّى وصمد وقاتل أعتى حرب وأشرس عدو، ليجدّد دفاتره ويكتب في عناوينها ملحمة العصر بنسختها الجديدة.

تنشر بالتزامن مع الزميلة «الثورة» ـــــ سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى