خطاب أبو مازن… العبرة في الترجمات

رامز مصطفى

مع انتهاء رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس من الكلمة التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وضع نهاية لكلّ التأويلات والتكهّنات والتفسيرات والتحليلات، وحتى التصويرات المتصلة بالإثارة حول ما قيل على أنّ الخطاب عبارة عن مفاجآت وقنابل سيفجرها أبو مازن في الجمعية العامة في الثلاثين من أيلول الماضي. ولكن هذه النهاية فتحت باباً آخر من المواقف والتحليلات والقراءات حول خطاب أبو مازن وما تضمّنه واحتواه من مواقف، تراوحت بين المرحّبة والمشككة والمترقّبة والداعية إلى إقران الأقوال بالأفعال، وصولاً إلى المشكّكة في قدرة رئيس السلطة على السير بمواقفه نحو الترجمة العملية في تنفيذ قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير، وهو الذي أكد عليها في سياق خطابه.

من المؤكد أنّ خطاب أبو مازن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السبعين لهذا العام، شكل نقلة قياساً إلى خطاباته السابقة، فهو مزج بين الديبلوماسية التي انطوت على التهديد المُهذّب، وتحميله المسؤوليات للمجتمع الدولي، وعرضه الصور الإنسانية من خلال إجادته العزف عاطفياً على وتر ما يُعانيه الشعب الفلسطيني على مدار عقود من الإجرام «الإسرائيلي»، وكأنه يقول لمستمعيه وفي مقدّمتهم الأميركيين إنّ كلّ ما قدّمته ومنظمة التحرير الفلسطينية من تنازلات خطيرة في اتفاقات «أوسلو» عام 1993 التي مضى عليها 22 عاماً، لم تشفع للفلسطينيين أن ينعموا بما أسماه أبو مازن بالسلام، وهو الذي يُدرك من دون أن يعترف أن لا مكان للذين يستجدون من الآخرين حقوقهم منّة وصدقة.

وفي التوقف عند ما جاء في خطاب أبو مازن الذي يستأهل قراءته بتمعّن وتأنّ بغضّ النظر عن خلفية المواقف إزاءه. قبل كلّ شيء لأننا معنيون كفلسطينيين جميعاً بما جاء في الخطاب وعناوينه ومفرداته والمواقف المتخذة على تناقضها، وإلاّ ما معنى أن ينشغل الجميع بالتكهّن والتأويل قبل الخطاب، والقراءة والتحليل بعده.

بداية أسجل ملاحظتين… الأولى أنّ الكثيرين قد بادروا إلى إصدار مواقفهم قبل أن يعطوا أنفسهم الوقت في قراءة الخطاب ليُبنى على الشيء مقتضاه، حتى أنه وفي الفصيل أو التنظيم الواحد برز التناقض بين من وجد أنّ الخطاب لم يرتق إلى مستوى تطلّعات الشعب الفلسطيني، وبين من وجد فيه أنه متقدّم، ومن الممكن البناء عليه. والثانية أنّ نبرة النقد والاعتراض يجب ألاّ يُفهم منها أو يبدو على أنه تقاطع مع المواقف «الإسرائيلية»، وهي بالتأكيد ليست كذلك على الإطلاق.

وقراءتنا لخطاب رئيس السلطة السيد محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبالتالي ما كان متوجب عليه قبل الخطاب وبعده، يتلخص بالآتي:

– ذهب أبو مازن إلى نيويورك يحمل خطاباً باسم الشعب الفلسطيني وقواه السياسية – وهذا لا يعني أنّ هذه القوى أو بعضها قد خوّله التحدث باسمها والساحة الفلسطينية يطبعها الانقسام الحادّ، وحتى فصائل منظمة التحرير منقسمة على نفسها على خلفية التفرّد بالقرار الفلسطيني وحصره في شخص رئيس المنظمة والسلطة أبو مازن، والدائرة الضيّقة المحيطة به. ولعلّ ضرب قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير في دورة اجتماعاته في آذار الماضي من قبل أبو مازن يمثل حالة الاستئثار التي ينتهجها في تعاطيه مع شركائه في المنظمة، وهم لا يخفون انتقاداتهم واعتراضاتهم على ذلك. وبالتالي فالخطاب الذي ألقاه أبو مازن غابت عن صياغته أو أقله الإطلاع عليه من قبل اللجنة التنفيذية للمنظمة.

– من الواضح أنّ الخطاب قد أُطلعت عليه العديد من الدول، أو أقله اطلعت على فحواه، وهي أبدت رأيها ومارست ضغوطها في محاولة من أجل إفراغه من مضامينه. وهذا ما نشرته العديد من وسائل الإعلام وأكده عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الأخ عباس زكي، عن أنّ وزير الخارجية الأميركي جون كيري قد نجح في دفع أبو مازن لسحب قراره بحلّ السلطة، والتخفيف من لهجة الخطاب الحادّة، وإعطاء فرصة للعمل حتى نهاية العام الحالي 2015.

– في نص الخطاب، هناك نقلة، ولكن للأسف أبو مازن جعل الباب مفتوحاً ولو مواربة، فلا هو حسم أمره في إلغاء اتفاقات «أوسلو» ومترتباتها، بل أبقى الأمر رهينة التزام الجانب «الإسرائيلي». ولا هو أوقف التنسيق الأمني، رغم ذكره قرارات المجلس المركزي الذي نص صراحة على وقف التنسيق الأمني. وحتى طلب الحماية الدولية أو حلّ السلطة كان فيه من الإبهام ما ترك الباب مفتوحاً على احتمالات التأويل والتفسير كلّ من خلفية مواقفه وقراءته الخاصة. وما ذهب إليه محمود الهباش أحد مستشاري أبو مازن الموثقين، وقاضي قضاته، حين قال: «كلام الرئيس أبو مازن لا يعني إلغاء اتفاقات أوسلو، أو حلّ السلطة، بل المقصود من الكلام التبادلية، بمعنى إذا التزمت إسرائيل سنلتزم»، وعن التنسيق الأمني أكد «أن لا وقف للتنسيق الأمني».

– في التطرق إلى الانضمام المنظمات والمعاهدات الدولية بما فيها الجنايات الدولية، قال أبو مازن: «نحن لا نريد أن يُفهم منها على أنها موجهة ضدّ أحد، بل أردنا حفظ حقنا وحق شعبنا». حفظ حقنا ممّن، أليست «إسرائيل» هي من تسلبنا تلك الحقوق، وتعمل على طحن شعبنا بجرائمها ومجازرها، وعائلة الدوابشة ومحمد أبو خضير ومحمد الدره، والآلاف من أبناء شعبنا قضوا على يد الجيش «الإسرائيلي». لماذا الحديث بتلك اللغة التطمينية؟

– إنّ الانفتاح على كلّ المبادرات السياسية الخاصة بالمفاوضات واستئنافها بما فيها المبادرة الفرنسية السيئة المضامين لجهة مطالبتها الفلسطينيين الاعتراف بيهودية الدولة، وبالتالي شطب حق العودة عن طريق التعويض على اللاجئين. إنما يكشف أنّ الخيارات السياسية لدى رئيس السلطة في التمسك بالمفاوضات لا تزال على حالها.

– في المقابل نجح أبو مازن في نقل المعاناة وما تعرّض ويتعرّض له الشعب الفلسطيني على يد قوات الاحتلال الصهيوني. وبالتالي حمّل المجتمع الدولي مسؤولية إرغام «إسرائيل» على الالتزام بمقتضيات الاتفاقات الموقعة معها. وهو أراد دفع هذا المجتمع في جعل الموضوع الفلسطيني في سلّم أولوياته، بعد أن عملت الأحداث والتطورات التي تشهدها المنطقة والعديد من الدول العربية، في حجب الرؤية عما يمارسه العدو الصهيوني من اعتداءات على قطاع غزة والضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى.

وعلى اختلاف القراءات، الخطاب قد أصبح نافذاً، أقله في جانبيه الديبلوماسي والإعلامي، المطلوب الآن أن يبادر رئيس السلطة إلى السير في اتخاذ الخطوات اللازمة من أجل وضع الآليات لترجمة ما تضمّنه الخطاب، من خلال وضع جدول زمني لهذه الترجمة. خصوصاً أنّ التطورات المتسارعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والنوايا «الإسرائيلية» في تصعيد الموقف في القدس والضفة، بعد عملية نابلس الناجحة، وطعن مستوطنين على يد الشهيد مهنّد حلبي في مدينة القدس، وإطلاق النار على الفتى علون، تفترض تقديم الهمّ الوطني العام في مواجهة التحديات، على ما سواه من قضايا. وهذه الخطوات تتمحور في:

– دعوة الإطار القيادي الموقت إلى الاجتماع فوراً، كونه الجهة المخوّلة وفق اتفاق القاهرة في آذار 2005 لقيادة العمل الوطني الفلسطيني، إلى حين إعادة ترتيب أوضاع منظمة التحرير ومؤسساتها تطويراً وتفعيلاً.

– تفعيل اتفاق المصالحة الوطنية الموقع في أيار 2011 في القاهرة. وبالتالي وضع نصوص الاتفاق قيد التنفيذ والتطبيق، بما فيها إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، وانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني.

– تفعيل قرارات المجلس المركزي الأخير، والمطالبة بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال.

– تفعيل وتسريع الخطوات باتجاه محكمة الجنايات الدولية، لمقاضاة الكيان وقادته على جرائمهم المرتكبة بحق شعبنا.

– تفعيل الإعلان عن انتهاء العمل باتفاقات «أوسلو» الكارثية، وإعلان الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال، وإطلاق الانتفاضة الثالثة، وتشكيل قيادة وطنية موحدة تقود فعالياتها في مواجهة الاحتلال وقطعان المستوطنين الذين يعيثون خراباً وحرقاً واعتداءات بحق أبناء شعبنا، بحماية قوات الاحتلال الصهيوني التي تتهيأ لعملية واسعة حسب ما صرّح به نتنياهو وكبار جنرالاته.

وأختم السطور الأخيرة من المقالة، كان الفتى المقدسي مهنّد حلبي يستلّ سكينه ليبدأ طعن أعدائه وأعداء شعبه، فيصرع نصل سكينه الفلسطيني مستوطنيْن اثنين، أحدهما حاخام في الجيش «الإسرائيلي»، لم يسعفه جبنه أن يستخدم مسدسه، ليقع في يد المقاوم مهنّد حلبي، فيكمل عمليته، ويسقط شهيداً معلناً بدمائه اندلاع الانتفاضة الثالثة، إذا أحسن رئيس السلطة التقاط الفرصة ليقلب الطاولة في وجه نتنياهو ومن خلفه الإدارة الأميركية، التي تجاهل رئيسها أوباما الموضوع الفلسطيني في كلمته أمام الجمعية العامة. وإذا ما أحسنت أيضاً الأجهزة الأمنية التصرف مع المتظاهرين المنتفضين، ولم تقدم على تكسير عظامهم في شوارع ومدن الضفة الغربية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى