الدبّ الروسي يعلن حضوره

عدنان كنفاني

ما من دولة في العالم تعمل ضدّ مصالحها، أو تعمل بما لا يصبّ في مصالحها سواء كان عملاً سياسياً أو اقتصادياً أو حتى عسكرياً ومهما بلغت درجة «الصداقة» أو التحالف مع دولة أخرى.

بعد ما يقارب خمس سنوات على ما يجري في سورية من حرب، أتفق مع من يطلق عليها إنها «حرب كونية» طالت كلّ شيء في البنية السورية البشرية والمكانية والمرافقية والتراثية والتاريخية، استعملت فيها أقذر الوسائل، ودعمت بماكينة إعلام دولية وعربية قادرة وهائلة قلبت الحقائق، وزيّفت وفبركت وروّجت وأجّجت النعرات الطائفية والمذهبية، وكان لها الدور الكبير في جمع حثالات الأشخاص من أنحاء العالم، شاركت دول كبرى في تسهيل دخولهم إلى سورية، وقدّمت لهم الدعم المادّي والمعنوي، ورفدتهم بالسلاح، أحدث أنواع السلاح ليمارسوا أبشع القتل والتدمير في البنية السورية، بينما يقف العالم «المحايد» متفرّجاً لا يفعل شيئاً غير الانتظار الخجول.

الآن، يستطيع العالم أن يفكر، ويصدّق ما كنا نقوله منذ بداية «الأزمة» بأنها مؤامرة ليس لها علاقة بشعارات رفعت تتحدّث عن «حرية أو إصلاحات أو ديمقراطية»، بل كان الهدف منها تمزيق سورية وتفتيت مكانتها الجغرافية، وموقعها في محور المقاومة، وإلغاء دورها الطليعي والسيادي ونهجها المقاوم الذي يمثّله الرئيس الدكتور بشار الأسد، لصالح وخدمة المشروع الصهيوني، ما يفسّر الرغبة في مواصلة طلب تنحي الرئيس، ومنهم من نادى «بتصفيته جسدياً» وإلغاء دوره، ما يعني إلغاء دور المقاومة بالعام، ومما يدعو للأسف أنّ هذا «السُّعار» شاركت فيه، بل قادته دول عربية تفتقد لأدنى معايير الديمقراطية والحرية، وجامعة الدول العربية، ودول إقليمية تبحث أيضاً عن مصالحها ولو كانت بطرق قذرة كما دأبت تركيا على فعله منذ بداية الأزمة.

كلّ هذا أصبح الآن أقرب إلى التصديق من كثير من دول العالم التي كانت مغيّبة عن المشهد الحقيقي والواقعي وما يجري في سورية على وجه التحديد، لذلك بدأنا نشعر ونلمس تغيير الكثير من مواقف تلك الدول في المحافل الدولية، وبالتالي بدأنا نتابع تراجع في مواقف لبعض الدول التي كانت شريكة في الحرب على سورية بطرق مختلفة، وبدأنا، وهذا هو الأهمّ، نتابع حماسة بعض الدول لإعلان مواقف صريحة بأنّ ما تتعرّض له سورية هو إرهاب منظم ومدروس ومدفوع الأجر بكلّ ما تعنيه الحالة من معنى، على الرغم من مواصلة بعض «الموتورين» أمثال هذا الـ»جبير»، وغيره، العزف على نغمة «إسقاط النظام» و«رحيل الأسد»، كخيار سلمي بديلاً عن الخيار الآخر وهو مواصلة الحرب، ويهددون وكأنهم خارج حدود الزمن، ولم يكن هذا جديداً، بل كان منذ بدأت الأزمة، ولكن سورية وقيادتها كانوا أكثر حكمة ووعياً بأنهم تجاهلوا كلّ هذه الاستفزازات، وردّوا بالعمل الصامت، والصمود، والتصدّي بما توفّر من قوة وإمكانيات، وهذا الصمود، الذي يبدو، في ظلّ ما خطط له من استهداف لسورية وقيادتها، يبدو أسطورياً أمام حجم الدعم المادي والمعنوي الذي قدّم بسخاء للتنظيمات الإرهابية، عدداً وعدّة.

وعندما «انكشف» دور الإرهاب متمثّلاً «بداعش والنصرة»، ولم يعد خافياً على أحد في العالم، جرى العزف من جديد على وتر جديد مختلق أطلقوا عليه «معارضة معتدلة»، ولست أفهم ما المعني بـ«معارضة معتدلة» في مقابل معارضة غير معتدلة! وهل مثل هكذا معارضات يفترض أن تكون مسلّحة وأمرها عادي واجب الحضور في كلّ دول العالم؟! ومن المخوّل بإطلاق صفة الاعتدال عليها؟ وهل «الاعتدال» بنوع الأسلحة مثلاً؟ وهذه المعارضة التي اعتبروها معتدلة، ويدعمونها، ويروّجون لها، هي التي تمطر المدن والقرى في سورية بوابل يومي من هاونات وصواريخ، وتوقع ما توقعه من قتل وتدمير، وعندما تقع في حومة حصار أو استهداف، سرعان ما تعلن ولاءها ومبايعتها لـ«داعش» أو «النصرة»، او لأيّ فرع من فروع «القاعدة»، وتقوم بتسليم أسلحتها الحديثة المرسلة من الدول الراعية للإرهاب لتلك التي تعتبر معارضة غير معتدلة!

إنهم يستغبون العالم من موقع القوّة المطلقة، ومن موقع أهمّ بات يهتزّ ويتأرجح بالصعود الدراماتيكي المتسارع في الآونة الأخيرة لروسيا الاتحادية، وهو موقع يمثل القطب الوحيد والأوحد في العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وهذا القطب «أميركا» هو المسيطر على المنظمات الدولية ذات الشأن، والمخوّل بأن يفعل ما يشاء، ويحدّد أو يغيّر سياسات من يشاء من الدول، ويحارب من يشاء ويسالم من يشاء، وينصّب من يشاء، ويخلع من يشاء، وكله يصّب في المصالح بطبيعة الحال.

لم يأت هذا الصعود المتسارع من فراغ، بل سبقه حراك محموم، علني وسرّي، يجري هنا وهناك، على مستوى أفراد ودول، جعلنا نقول، وفي وقت سابق إننا في الربع الساعة الأخير من الأزمة، والذي سيكون أكثر حرارة ودموية، لكنه الربع الساعة الأخير دون شك.

العالم يشهد في هذه المرحلة تكتلات وتحالفات، وكما سعت أميركا إلى تشكيل تحالف دولي ضدّ سورية، جمعت تحت رايته عشرات الدول، ومنها «بعض دول الخليج العربي» الأكثر تأثيراً على واقع ما يجري في سورية تمويلاً ودعماً وإعلاماً، ودول في المنطقة لها دور محوري في عبور المرتزقة والسلاح والدعم اللوجستي «تركيا والأردن وإسرائيل وحلفاؤهم في لبنان»، والدور السياسي الضاغط الذي مثّلته ونفّذته جامعة الدول العربية، وبعض دول عربية أخرى.

ولا ننكر أنّ سورية أيضاً في منظومة حلفاء، منهم من كان علنياً وفاعلاً وحاضراً على الأرض السورية ومشاركاً في القتال ومواجهة الإرهابيين إلى جانب الجيش السوري… «حزب الله، وبعض فصائل فلسطينية»، وحلف «غير معلن» داعم وسياسي مع إيران وروسيا والصين ودول بريكس، وما لهم من دور هام في إفشال الكثير من المشاريع التي كانت تجري تحت قبّة مجلس الأمن لاستهداف سورية دولياً تحت البند السابع وغزوها وتدميرها وتقسيمها، والذين دعموا سورية سياسياً واقتصادياً.

كلّ هذا العرض يقودنا بالضرورة إلى آخر المستجدات، والدخول الدراماتيكي لروسيا على خط مكافحة الإرهاب في سورية، وقد يصبح في العراق أيضاً، وبخطوات مدروسة ومبرّرة دولياً وعالمياً وفق الأنظمة والقوانين الموضوعة ذات الشأن، ولعلّ أهمّها طلب سورية رسمياً من روسيا التدخل عسكرياً.

وهنا يفترض أن نقف قليلاً ونسأل بعض أسئلة ربما تساعد على بيان واقع ما يجري من تدخل روسي علني على خط الأزمة في سورية، ولماذا؟

هل كنا بحاجة إلى حرب على مدى خمس سنوات في سورية، ودفع الفاتورة الثقيلة من قتل وتدمير حتى نصل إلى هذا الجديد الحاسم؟

وهل التدخل العسكري الروسي كان كرمى لعيون سورية، وبعيداً عن مصالح روسيا أيضاً؟ ونحن والعالم يعلم أنّ آخر قاعدة روسية في المنطقة، وقد تكون في مواجهة المدّ العسكري الأميركي والأوروبي الذي يستهدف روسيا وإيران والصين ودول بريكس أيضاً تقع في سورية، بما يمكن اعتباره، واعتبار سورية بموقعها الجغرافي خط الدفاع الأول لروسيا، ولهذه الدول بما لا يجعل مجالاً للشك في أنّ لروسيا أيضاً مصالح استراتيجية في تدخلها العسكري في سورية للقضاء على الإرهاب المدعوم والممول أميركيا وأوروبياً.

وكي نكون على حدّ الشفافية والموضوعية لا بدّ لنا أن نتحدّث عن دور الصمود السوري الأسطوري وغير المتوقع من كلّ الدول التي اشتغلت على استهداف سورية موقعاً ودوراً وقيمة وسيادة وانتماء، صمود القيادة والحكومة والجيش والشعب في سورية، وعلى مدى ما يقارب خمس سنوات من عمر الأزمة هو الذي هيأ الأرضية الصالحة لقيام روسيا، وصحوة الدبّ الروسي للمطالبة عملياً بأن يحتلّ موقعاً متقدّماً يشكل قطباً عالمياً يعمل على إلغاء دور القطب الوحيد، ويحقق نوعاً من التوازن في العلاقات الدولية، وفي تحقيق بعض عدالة دولية لا يستطيع القطب الوحيد أن «يخصيها» لصالحه بعد اليوم.

لقد بدأت روسيا تشارك فعلياً في عمليات في الأجواء السورية، وبطلب رسمي من الحكومة السورية، وبالتعاون مع الجيش والحكومة السورية لضرب الإرهاب والقضاء عليه، وعلينا أن ننتظر جلاء بعض الضباب في المواقف والنتائج المبدئية لما قامت به خلال الأيام القليلة الماضية، وما حققته من إنجازات في هذا المجال، وصداه، وما يمكن أن تحققه لاحقاً على هذا المسار والتوجّه.

لا شك في أنّ التدخل الروسي الصاعق على خط محاربة الإرهاب خطوة فعّالة في دحر الإرهاب، وفتح المجال لحلّ سياسي شامل في سورية، ولكن هذا كله لم يكن ليتحقق لولا الصمود السوري، والتمسّك بالثوابت الوطنية، والسيادة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى