موسكو وواشنطن… وشروط خاصة للفوز بالمباراة

عادة تتمّ الحروب بالتقابل المباشر بين جيوش الدول المتحاربة. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تتحاشى الدول العظمى هذا النوع من الحروب الذي تعلم أنه في ظلّ وجود السلاح النووي، سرعان ما سيتصاعد القتال حتى يجد الفريق الخاسر نفسه قد اقترب من اللجوء إلى سلاح الردع الاستراتيجي. لذلك، عرف النصف الثاني من القرن العشرين شكلاً مختلفاً من البدائل، تمثل بدعم الدول العظمى القوى التي تناوئ خصومها الكبار، وسمّيت المواجهة بين الأميركيين والسوفيات بالحرب الباردة، على رغم كونها تضمن حروباً حقيقية كانت أبرزها، حربا فييتنام وأفغانستان.

أصيبت واشنطن في حرب فييتنام بجروح بليغة حاولت الشفاء منها والعودة إلى التدخل العسكري في حربَي العراق وأفغانستان بعد ثلاثين سنة. لكن العقدة أصبحت أكثر تعقيداً، ومُنيت واشنطن بالفشل، وأصيبت موسكو بالضربة القاضية في حرب أفغانستان، وبدأ تفككك الاتحاد السوفياتي معها، من هزيمة الجيش الأحمر على أيدي المجاهدين المدعومين من واشنطن، الذين صاروا تنظيم «القاعدة» في ما بعد، وها هي تقدّم نموذجها للشفاء من عقدة أفغانستان في حرب سورية. وعندما تخرج منتصرة ومعافاة، سيكون النصر لها في الحرب الباردة التي أوقفها انهيار الاتحاد السوفياتي، وتستأنف اليوم بشكل جديد، عبر نصر حليفها على واشنطن وحلفائها، كما الفوز بالجائزة الكبرى وهي إدارة الشرق الأوسط بثرواته وصراعاته وتسوياته.

تخوض موسكو وواشنطن حربهما الجديدة بطريقة جديدة، تشبه مباريات نصف النهائي في مونديال كرة القدم، ما قبل تلاقي الفائزين الأخيرين، اللذين يمتنعان هنا عن المواجهة المباشرة، إنما ينتصر بينهما على الآخر من يسجّل أهدافاً في مرمى الخصم الذي تمّ الاتفاق على اختياره الحرب، بعدما شهدت الحرب هذه المرة جولة أولى، منح الروس فيها للأميركيين فرص الفوز وحظوظه على طريقة الحرب الباردة بنسختها القديمة. فحشدت واشنطن لإسقاط سورية، وسعت موسكو إلى إسناد سورية. وعندما تصاعد الاشتباك، اكتشفت واشنطن أنها تتورط باستحضار أساطيلها، واكتشفت روسيا أنها تستنفر صواريخها. فتوقفت المباراة بالتعادل، وانتهت الجولة الأولى بعودة الأساطيل وتهدئة مرابض الصواريخ والذهاب إلى التفاوض على السلاح الكيماوي السوري والملف النووي الإيراني. وانتهت بصيغة رابح ـ رابح.

الجولة الحالية من الاشتباك تتم بطريقة مختلفة. إذ لجأت واشنطن في قلب الجولة الأولى إلى التعاون مع حلفائها لاستجلاب مسلّحي تنظيم «القاعدة» من كلّ أنحاء العالم إلى سورية. وصار الاعتراف من العالم كلّه أنّ هذا الخطر صار متقدّماً على النتائج الأخرى للحرب السورية بما فيها من يربح ومن يخسر. وصار التخلّص من التجمعّات الإرهابية معضلة سياسية عسكرية لدى العالم كله. وحُدّدت كلفة النصر بالقدرة على جمع جبهتَي سورية والعراق من جهة، والحرب البرّية مع الغارات الجوّية من جهة ثانية. وإخراج التشكيلات الإرهابية كلّها من المسرح سياسياً أو عسكرياً ثالثاً. وتشكيل حلف دوليّ إقليميّ قادر على المهمة رابعاً، والابتعاد عن انتهاك معايير القانون الدولي خامساً. وشرط الفوز بالمباراة، الفوز بالحرب بتوفير أقرب الشروط واقعياً إلى هذه السلة من الشروط النظرية المتفق عليها. وخلال سنة، حاولت واشنطن فاستبعدت أيّ تعاون مع خصومها، ووضعت خطتها وفقاً للمعايير التالية: حلف قادر على جمع حلفائها التقليديين فقط، ومنحهم حافزاً بربط إسقاط الإرهاب بشرطين هما: تحييد نصف الإرهابيين حلفاء حلفائها، ومحاولة إدماجهم بالحلّ السياسي. وجعل الحرب مزدوجة ضد الإرهاب وخصمها وخصم حلفائها الذي يتمثل بالرئيس السوري بشار الأسد. وفشلت واشنطن بتلبية الشروط، فانتهكت القانون الدولي بالتدخل في سورية عسكرياً من دون قرار أممي، ومن دون تنسيق مع الدولة ذات السيادة. وفشلت في توفير حليف يقاتل برّاً من بين حلفائها التقليديين. كما فشلت بدائلها لحرب برّية في الحالتين العراقية والسورية بإصرارها على استبعاد الجيش السوري والحشد الشعبي العراقي. وبدا حلفها نظرياً، وحربها تقتصر على الغارات التي أثبتت لاجدواها.

تنال موسكو اليوم فرصتها في المنازلة، فتبدأ بشمولية كلّ التنظيمات الإرهابية للحرب على أساس استحالة احتواء الإرهاب. وتتقدّم برباعي سوري ـ عراقي إيراني ـ روسي منسجم وشرعي، يملك قدرات الحرب البرّية بكلّ مواصفاتها. وجاءت وفقاً لمعايير القانون الدولي، ويأتي صراخ واشنطن وحلفائها، من خارج أصول المباراة كصراخ مناصري الفريق المهزوم في ملاعب كرة القدم، لشنّ حرب نفسية على الفريق الخصم عندما يبدأ تحقيق الأهداف في المرمى.

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى