هكذا يكون الحبّ

اتصال غير متوقّع من صديق الطفولة، زلزل ما فيّ من سكينة. بضع كلمات خرجت من الحلق المجروح: «لقد انتهى كلّ ما كان بيننا».

للحظات، تخيّلت صديقتي منهارة ضائعة. لقد تحطّم بنيان الحبّ المرصوص. لهذا، تركت كلّ شيء وأسرعت للقائه أطلب استفساراً.

في الطريق إليه، اتصلتُ بها، كان صوتها باكياً حزيناً وكأنها تنتظر اتصالي. ومن دون أن أسألها، بادرتني قائلة: «صديقك تركني من دون سبب، صديقك الذي قلنا عنه يوماً إنه رجلٌ صادق، وليس ككلّ الرجال، طعن قلبي وأدار ظهره ورحل». فقلت لها: «أنا الآن في طريقي إليه، وسأعرف السبب وأتصل بك».

ما إن وصلتُ، وقبل أن أطرح سؤالي، بادرني بعبارة جمّدت الدم في عروقي: «مرض عضال ينهش جسدي… يفترس روحي».

لم أدرِ بنفسي إلا وأنا أحضنه وأبكي معه. لم أستطع السيطرة على عَبَراتي وأنا أشعر أنّ صديقي المقرّب سيموت. جلست قربه ممسكةً بيده أواسيه، وأنا التي تريد من يواسيها فيه. فجأةً، وقف ومشى إلى مكتبته، تناول منها علبةً حمراء اللون، وعاد إلى جلسته. فتحها، وإذ في داخلها صورة مَعَ صديقتي!

أتأمّله وهو يتأمل باقة من الصوَر، أيقونات عمره، دمعته على خدّه وهو هائم في صوَر ذكرياته معها. فهذه صورتها تنطق فرحاً في عيد ميلادها، وتلك خلال رحلة بحرية وضحكاتهما تقفز من عيونهما فرحاً. صورٌ لا تحصى. يتوقف عن تأملها، وينظر إليّ وغمامة من الحزن تمطر ألماً. وبتنهيدة حزينة يقول لي: «أتذكرين لقاءنا الأول وكيف تعارفنا؟ أتذكرين ليلة احتفلنا بخطبتنا وكم كنّا سعداء؟ وكم كانت جميلةً حينذاك؟».

صمتَ، ولثانية رحل بذكرياته بعيداً، إلى ذلك اليوم الجميل. أرى ذلك في عينيه فقد التمعتا بحبّ حقيقيّ. لكنه ما لبث أن عاد إلى الواقع المؤلم، وقال لي: «أتذكرين كيف اعترفت لكِ بحبّي لها؟ وكيف شجّعتِني وهدّدتِني إن جرحتها يوماً ستكونين لي بالمرصاد؟».

ومن قلب الحزن، ابتسمنا لصورة مرّت في خيالنا، ما لبثت أن تلاشت. لم أعرف من أين أبدأ الحديث، وماذا أقول في خضمّ ظرف كهذا. غمرته ونظرت في عينيه وأنا أقاوم دمعةً قرّرت الانهمار، وإن أنا غافلتها لحظةً وأجهدت نفسي أن أبتسم، وأنا أقول له: «وما ذنبها، أيعقل أن تتركها لطعنة حبّ وتجعلها فريسة بين مخالب الشك؟».

أجابني وهو يجهد نفسه ألّا يغمى عليه من شدة الألم: «كان يجب أن أغادر حياتها بعدما عرفت أنّ بيني وبين الحياة عدّة أشهر. لم يعد لديّ ما أمنحه.

وماذا أُقدّم لها غير القهر والعذاب وساعات الانتظار المميتة؟ لماذا أُدخلها في لعبة القدر؟ بأيّ حقّ أجعلها تترقّب كلّ صباح تنهيدة الألم تقتلع الأمل؟ لا لا أستطيع أن أكون أنانياً مع من اختارها الكيان ليملأ نقصه حبّاً ويفيض اكتمالاً، ويسعى إلى عيش الفرح ثملاً. لا، لن أقبل أن أتحوّل من بلسم الروح إلى ألمٍ يزهق الروح».

صمتٌ أطبق على الغرفة. فالجواب كان أكثر من أن أتخيله أو أستوعب ما قاله لي صديق طفولتي. لم أتصور يوماً أنّ هذا الشاب النشيط المفعم بالقوّة قد يمرض. فكيف لي أن أقبل فكرة رحيله عن هذه الحياة؟ هذا الشاب الذي كان يجذب بنات الجامعة بروحه المرحة واحترامه لنفسه، وكيف أنه اختار صديقتي لتكون حبيبة عمره. وأيّ عمر باقٍ له الآن وهو يُخبرني أن السرطان يعشّش في جسده وسيقتلعه الموت منّا بعد ستة أشهر؟

صامتة فكّرت بصديقتي، ماذا تراها ستفعل حينما تعرف سبب بُعده؟ وأنّ الموت وحده سيبعده عنها؟

كسر صمتي حينما نظر إليّ وقال: «أنا أحبّها ولا أريدها أن تحزن، وهذا هو الحل الأنسب لها ولي».

قال هذا وسكت، لم تسعفه الكلمات التي اختنقت في حلقه. يريد أن يبكي أن يصرخ. أمسكت يده وقلت وأنا أقاوم دموعي: «لأنك تحبها يجب أن تصارحها، أترك لها حرّية الاختيار».

نظر إليّ يريد مقاطعتي، فوضعت يدي على فمه وتابعت: «يا صديقي، تخيّل الوضع خلاف ذلك، تخيّلها هي المصابة بالسرطان، فهل ستسامحها يوماً إن عرفتَ بعد مماتها؟ فكّر في الأمر، فكّر بشعورها بعدما تغادر أنت الحياة، وتعرف هي أنك غادرت حياتها لأنك كنت جباناً إذ لم تعترف لها بمرضك وبإمكانية موتك. فكّر بحزنها وألمها، تخيّل ما سيحصل لها وهي تدرك بعد فوات الأوان أنك لم تكن صريحاً معها. فكّر بدموعها ووجعها. لهذا، أقدّم لك يا صديقي نصيحتي، اتصل بها ودَعْها هي تقرّر».

بهدوء، وقبل أن يقول شيئاً، ،  أمسكت سماعة الهاتف، وطلبت رقمها، وما أن سمعتُ صوتها الحزين، أعطيته السماعة ورحلتُ.

ساعة من الزمن، ورنّ جرس باب بيتي، فتحت الباب بيد مرتعشة. فحسبي اليوم ما تلقيته من نبأ. وإذ بصديقة عمري تقف أمامي بدموع الفرح والحزن وبعبارات تتنهّد حبّاً. قبّلتني وحضنتني وأنا حضنتها مدهوشة. نظرتُ إليه يقف وراءها، ومن دون أن أسأل، ابتسم وقال: «لقد أحببتُ مجنونة. تريد أن تتزوج غداً»!

طرحٌ لم يكن وقعه عليّ غريباً البتّة. وبابتسامةٍ تغمر الكيان وتفيض منه، رحتُ أُبارك لهما. وصديقتي تشرح لذاتها قبل أن تُفسّر لي دوافع هذا القرار: «أنا أحبّه وهو يحبّني، ولن أترك هذا المرض يفرّق بيننا، لن نكون مستسلمَيْن ولن نقف منتظرَيْن الموت يفرّق بيننا. فحبنا أقوى من المرض وأقوى من الموت».

قالت ذلك ونظرت إليه مبتسمةً، ممسكةً بيده تخاف أن يغيب عنها لثانية واحدة، أو لجزء من الثانية، ثم نظرَتْ إليّ وتابعت: «لنا في جعبة الحياة أيّام سنعرف كيف نملأها فرحاً. فمن الممكن ألّا يكون المرض هو الذي يفرّقنا. أنا أؤمن أنّ الموت يأتينا من دون أن ندري، ومن الممكن أن أموت قبله، لا أحد يعرف، سألعب مع القدر لعبته حتى النهاية، ولن أفكر بالأمر، وسنتزوج غداً وأعيش معه وأنسى أنه سيموت يوماً ما، فنحن جميعاً سنموت… يوماً ما»!

ابتسمت وقبّلتني على خدّي وشماً لحبّ يقهر المرض، ومن دون أن تنتظر مني ردّاً، ودّعتني ورحلت. رأيتها تقفز والحبّ يقفز معها. رأيت أيديهما متعانقةً في صورة لن أنساها ما حييت. هو الحبّ وحده يصنع المعجزات.

أغلقتُ الباب مودّعةً، وفي داخلي تتصارع كلّ مشاعر الحياة، وأنا أفكّر بابتسامة محتارة بين الفرح والحزن. سعيدة أنني كنت شاهدة على حبّ نقرأ عنه فقط في الروايات!

فيليبا صرّاف

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى