القوة في العلاقات الدولية حالة طبيعية ــ الولايات المتحدة أنموذجاً ١

يقارب الكاتب رضا حرب موضوع القوّة في العلاقات الدولية، فيرى أنها البعد الأساس الذي يحكم حركة الأمم سلماً أم حرباً. وبالتالي فإن الحق متوقّفٌ على مقدار القوّة الذي أكّدته الأحداث الدولية كافة. لقد أشار بريجنسكي إلى أن النزوح إلى القوّة صفة موروثة في الجنس البشري، وبالتالي فهي قاعدة ثابتة في التعاون الدولي.

إن شكل النظام الدولي ومضمونه الذي سبق أن شهده العالم سواء النظام الأحادي القائم أم الثنائي السابق أم المتعدّد الآتي هو نظام ينسجم مع حقائق القوّة وتوزيعها كما يقول محمد حسنين هيكل.

رضا حرب

معنى القوة

بلا أدنى شك، ما زال مفهوم «القوة» ومبررات «استخدام القوة» في العلاقات الدولية الموضوع الأكثر جدالاً بين المفكرين والاستراتيجيين وحتى القانونيين. وبغض النظر عن الاعتبارات التي تستند إليها الأطراف في جدليتهم، مع أو ضد والمبررات القانونية التي يتسلح بها كل طرف، ما زالت «القوة» العامل الأكثر فاعلية في العلاقات الدولية والأهم في حسم النزاعات. وما زالت مقولة «القوة حق» صالحة في العلاقات الدولية ويلجأ إليها الجميع.

منذ قتل قابيل هابيل وصولاً إلى التاريخ المعاصر، القوة هي العامل الأساسي والأكثر استخداماً في حسم الصراعات والتوصل إلى ما يُسمى «تفاهم عادل» يفرضه الطرف القوي على الطرف الضعيف أو «السلام بالقوة» الذي تفرضه القوة العسكرية، أو «سلام المنتصر» الذي يفرضه الطرف المنتصر في الحرب على الطرف المهزوم. كلها مسميات لانتصار مبدأ القوة، فمن الطبيعي أن لا يكون عادلاً ومن الطبيعي أن يكون جائراً. الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى أعادت رسم خرائط المنطقة وتقاسمت مناطق النفوذ، والدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية أعادت توزيع مناطق نفوذها وهيمنتها وكان للولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي النصيب الأكبر بحكم قوتهما وتأثيرهما في مسار الحرب وبعد الحرب. السلام العادل والشامل المطروح في المفاوضات «الإسرائيلية» ـ الفلسطينية ليس الحق الفلسطيني، بل هو ما يمكن أن تفرضه الآلة العسكرية «الإسرائيلية» تماشياً وانسجاماً مع العُرف الأميركي المعروف بـ»السلام العادل Just Peace»، أي ما يمكن أن يتوصل إليه الطرفان المتصارعان وليس الحق التاريخي.

شئنا أم أبينا، مقولة زبينغو بريجنسكي «الهيمنة قديمة كقِدم الجنس البشري» تستحوذ على 90 في المئة من تاريخ البشرية، علماً أن الهيمنة لا تتحقق بتفوق القيم بل بتفوق بالقوة. جميع القوى ذات الطموح الإمبراطوري اعتمدت على القوة رغم الشعور بالتفوق الحضاري باستثناء التتار، ثم تآكلت قوتها وبالتالي خسرت مناطق نفوذها. ويقرّ منظرو السياسة الدولية في السياق نفسه أن السلام حالة استثنائية لأنه سلام مفروض بالقوة، وإن استخدام القوة كان دوماً الحالة الطبيعية في العلاقات الدولية. الأميركي نيبوهر المتقدم على عمالقة الواقعية هانز مورغنثاو وجورج كينان وكينيث وولتز رفض الاعتراف بالفكرة التي تقول بأن الطبيعة البشرية قابلة للتطويع أو أن السلام الدائم ممكن أن يتحقق. باختصار، العالم يخضع لسيادة القوة.

يقول جيفري بلايني: «الحرب والسلم تعكس شخصية رجل الدولة. إذا كان ينزع للسلم سيحافظ على السلم، أما إذا كان ينزع للحرب ستقع الحرب». هذا يعني أن عامل «النزعة» هو العامل الطاغي في العلاقات الدولية. ينبغي توسيع القاعدة. النزعة لدى رجل الدولة غير كافية إذا لم تكن محصنة بقوة عسكرية قادرة على حماية الأمن القومي أو الذهاب إلى التوسع في المجال الحيوي. النزعة للسلم تفرض عليه السعي إلى امتلاك القوة العسكرية استناداً إلى المقولة الرومانية الشهيرة التي ما زالت تحكم الواقعية وتحركها «إذا أردت السلام… استعد للحرب،» أما النزعة للحرب تفرض عليه امتلاك القوة المتفوقة التي تؤهله كي يكون منسجماً مع سيناتور ميتشغن «لا تعتبر الأمة متميزة إلا إذا تميّزت في الحرب». قرار الحرب بسبب النزعة من غير أن يكون مدفوعاً بقوة عسكرية متفوقة قرار جنوني. كان هتلر يتمتع بأكثر من نزعة، النزعة العدوانية والنزعة العسكرية والنزعة التوسعية والنزعة العنصرية – الكراهية للسامية والمغالاة في الاعتزاز بالقومية الجرمانية – لكن كل تلك النزعات لم تدفعه نحو الحرب إلا بعد أن بنى الآلة العسكرية الألمانية المدمرة التي أخلت بالتوازنات في أوروبا. صحيح أن النزعة حاضن للحرب، لكن الشعور بـ»تفوق القوة Preponderance of Power» هو الحاضن الأوسع والدافع للحرب والهيمنة. وتجدر الإشارة هنا إلى «إذا القوة أوجدت التوازن، تُرَجح كفة السلام وإذا أدت إلى اختلال في توازن القوى لصالح طرف ينزع للحرب تُرجح كفة الحرب». بالمبدأ، لا قيمة للنزعة بلا وجود قوة، ولا قيمة للقوة إذا افتقد صاحبها إلى النزعة للسيادة والهيمنة.

توصل هنتنغتون من خلال قراءته للتاريخ إلى استنتاج لا يختلف عليه اثنان. يقول بأن صعود الغرب كان يعتمد على ممارسة القوة إلى حد كبير، نتيجة للشعور بتفوق قوته العسكرية وبتفوقه في إيجاد الذرائع التي تبرر استخدام القوة. هذا انعكس على الدبلوماسية التي طالما تراجعت أما تصاعد القوة وتصاعد لغة الصدام، أي أنه عبر التاريخ القديم والحديث، ومع تصاعد القوة العسكرية يحدث دوماً مقابله تراجع في الدبلوماسية. فقد تغيرت اللغة الأميركية بعد التجربة الناجحة لأول تفجير نووي سوفياتي عام 1949 واختفت كلياً الأصوات التي طالبت بضربة نووية للاتحاد السوفياتي، وحلت محلها أصوات تطالب بسياسة الردع والاحتواء. توازن الردع الذي فرضه الاتحاد السوفياتي فرض على الولايات المتحدة تبني استراتيجية «الاحتواء» التي كان مهندسها الدبلوماسي جورج كينان. وعندما ظهرت بوادر التفوق الأميركي في عهد رونالد ريغان، تراجعت لغة الدبلوماسية مع «إمبراطورية الشر». في عهد جورج بوش الابن، انتقلت السياسة الأميركية مرة أخرى إلى استبعاد الدبلوماسية لأنها لا تحقق المكاسب المطلوبة مقارنة بما يمكن أن تحققه القوة. هذا أمر طبيعي في العلاقات الدولية. القوي يفاوض لا يساوم، يسعى إلى الحصول على السقف الأعلى من المكاسب من دون أن يعطي مقابل. ميزان القوة يحدد سقف المطالب. ذهبت أميركا إلى الحرب عندما فشل الموفد الأميركي في فرض شروطه على المكسيك، ما لم تأخذه بالدبلوماسية أخذته بالقوة العسكرية. اليوم يعيد التاريخ نفسه، تسعى الولايات المتحدة إلى احتواء روسيا لإسقاطها كما سقط الاتحاد السوفياتي.

بريطانيا كانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس لأنها في مرحلة ما تفوّقت على العديد من القوى العالمية وليس نتيجة لتفوق قيمها، ونابليون رأى في فرنسا أنها تمثّل مركز أوروبا، ولكن طموحه تجاوز أوروبا عندما شعر أن القوة الفرنسية متفوقة على القوى الاستعمارية الأخرى بالأخص منافستها بريطانيا العدو اللدود. وبعد أكثر من مئة سنة من الصراعات والصدامات الفرنسية البريطانية، اتفق سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي على تقسيم التركة التركية بما يتناسب مع تصورهما للحقبة التالية من النظام العالمي الجديد الذي رسمه مؤتمر باريس بمشاركة أميركية.

ولم تكن القوة في نظر هتلر أداة للقهر والظلم، إنما رأى فيها أداة مشروعة وفاعلة في التعامل مع الفوضى لقناعاته بقداسة النظام والانضباط وأهمية المجال الحيوي. وبخطبه النارية قاد الشباب الألماني المتحمس إلى الخطوط الأمامية ليجعل من القوة السند الوحيد لمشروعه العنصري في ألمانيا فتخلص من معارضيه كافة. وعندما شعر بتفوق ألمانيا العسكري اجتاح معظم دول أوروبا ومنطقة البلقان تحت ذريعة حماية الأمن القومي والمجال الحيوي. وفي أواخر الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. واستخدمت القوة في حل النزاعات الداخلية في كوريا وكمبوديا ولاوس وفيتنام.

اليوم تملك الولايات المتحدة كل أسباب القوة للهيمنة والتسلط، ولديها النوايا، باستثناء ما نشهده من تراجع في التهور الإيديولوجي في عهد أوباما، هو قريب جداً من بريجنسكي في فهم أهمية الجغرافيا السياسية والمحاور الجيوسياسية وملتزم بنصائحة «اعتماد المهارة الجيوستراتيجية والنشر المدروس والانتقائي للموارد الأميركية على امتداد رقعة الشطرنج الأوراسية الشاسعة». من هذا المنطلق واستناداً إلى نظرية ماكيندر حول أهمية شرق أوربا تحرك أوباما نحو أوكرانيا. فهم بوتين الأهمية الجيوسياسية لأوكرانيا فعمل على فصل شبه جزيرة القرم ويعمل على فصل شرق أوكرانيا وجنوبها وصولاً إلى حدود مالدوفا حتى بات هناك من هو على قناعة تامة بأن أوكرانيا ككيان موحد قد انتهى مانويل اوشزنرايترManuel Ochsenreiter .

القوة تعني أن يفرض طرف إرادته على طرف آخر، أي أن القوة بجميع أشكالها، خاصة العسكرية، تمثل العلاقة وتمثل الحكم بين الطرفين في ظل انعدام التوزان في القوة، والولايات المتحدة خير مثال على فرض أرادتها على المكسيك وإسبانيا. ويعطي هنتنغتون تفسيراً واضحاً لمعنى القوة في العلاقات الدولية «السياسة معنية بسيادة القوة. في السياسة الدولية، القوة هي قدرة طرف على تغيير سلوك أطراف آخرين». إذاً، إن القوة هي المنظم الأساسي للعلاقات الدولية وفي رسم حدود مناطق النفوذ وحمايتها واحتواء الخصم. صحيح أن القوة لا تصنع الحق في معظم الأحيان، غلا أنها تصنع التاريخ في كل الأحيان.

استخدام القوة يحتاج إلى غطاء أخلاقي

رفض الرئيس الأميركي جيمس ماديسون القبول بمبدأ تقدم القوة على الأخلاق في العلاقات الدولية «إن السلطة والقوة حكمتا العلاقات الدولية في العصور المظلمة، تلك الأيام قد ولت. لا أعرف إلا نظاماً واحداً لأخلاق الإنسان سواء تصرف منفرداً أو جماعياً». ماديسون قال بالمثالية لكنه انحنى أمام الواقعية لأن الدولة تعبر عن نفسها بقوتها وإن المصالح الأميركية عبر البحار تتعارض مع المصالح الأمم الأخرى فلا بدّ من حمايتها بالقوة. لذلك، كان من الطبيعي أن يكون الأسطول التجاري الأميركي أسطولاً مسلحاً. التاريخ يؤكد لنا بلا التباس أن الأميركيين يناقشون السياسة والعلاقات الدولية وفقاً لمبادئ أخلاقية ومكانة أميركا الأخلاقية في العالم ولكن في الواقع يتعاطونها على أسس جيوسياسية ووفقاً لمصالح أميركا الاستراتيجية وهم على قناعة بأن منطق الأمور يقول إن المصالح لا تحميها سوى القوة وإن استخدام القوة يحتاج إلى غطاء أخلاقي. لذا، هناك وضوح كامل بأن كل حروبها بدءاً من حربها على المكسيك وصولاً إلى حربها على العراق كانت لتحقيق أهداف جيوسياسية مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالتحولات في ميزان القوة العالمي. يجب أن نقرأ التاريخ السياسي الأميركي بدقة لندرك أن حروب أميركا بحد ذاتها تؤرخ المذاهب التي حكمت السياسة الخارجية الأميركية، والمبررات تحدد لنا معالم أهم ركن من أركانها ألا وهو «صناعة أزمة وفرض الحل»، شأنها شأن القوى العظمى السابقة واللاحقة اعتماد الميكافيلية بكل جوانبها. وفقاً لهذا الركن الأساسي تختفي الدوافع وتظهر المبررات «الأخلاقية». وإذا اقتصر وصف السيناتور ستيفن دوغلاس على الأمة الأميركية «… أن التوسع قانون وجود الأمة» إلا أنه ينطبق أيضاً على وجود كل الأمم.

وصف المؤرخ آرثر شيلزنجر التاريخ الأميركي بأنه دورات من الحرب بين الواقعية والمسيحانية ووصفها كيسنجر بالازدواجية بين الانعزالية والعالمية، أي بين المثالية والواقعية، إنها في الحقيقة الاستثنائية الأميركية بكل تناقضاتها. الحقيقة أن الساحة الأميركية هي ميدان الصراع بين المثالية في الخطابات السياسية والواقعية في العلاقات الدولية المسؤولية الأخلاقية والقوة.

قامت الواقعية الأميركية على مسلّمتين: الأولى «المصير البين Manifest Destiny» لجون أوسوليفان التي قادت إلى التوسع القاري. آمن الأميركيون بالتوسع على امتداد القارة لأن ذلك التوسع يحدد بقاء الأمة. والمسلمة الثانية التي أطلقها توماس باين Thomas Paine «لدينا القوة لنبدأ التاريخ من جديد» التي حكمت التوسع الأميركي إلى ما وراء المحيطين العازلين. لا يختلف أبداً عن الخطاب الاستراتيجي النازي.

عندما شعرت بتفوق قوتها على جارتها الجنوبية، المكسيك، اجتاحت الاراضي المكسيكية لتفرض عليها عام 1848 معاهدة غوادلوبي هيدالغو «العادلة» التي بموجبها استولت الولايات المتحدة على 40 في المئة أراضي المكسيك مليون وأربعمئة ألف كيلومتر مربع . وعندما شعرت بتقدم قوتها مقابل تراجع القوة الكاثوليكية الوحيدة إسبانيا انقضت عليها في أواخر القرن التاسع عشر لتهمة لم يتم التحقيق فيها علماً أن الاستعداد للحرب بدأ عام 1896. شكلت الحرب الأميركية الإسبانية عام 1898 الانعطافة الكبرى نحو العالمية، كتبت «واشنطن بوست» يومها «أن سياسة الانعزال قد ماتت». القضية «النبيلة» كانت استقلال كوبا وحرية الشعب الكوبي، إلا أن انتشار البحرية الأميركية في الكاريبي والمحيط الهادي وهونغ كونغ كانت تشير إلى استعدادات أميركية لخوض الحرب على عدة جبهات وفي أكثر من محيط الأطلسي والهادئ وأطراف المحيط الهندي. امتد مسرح العمليات العسكرية إلى ما وراء هاواي وصولاً إلى الفيليبين وجزيرة غوام. على أية حال، انتهت حرب العشرة أسابيع باحتلال كوبا وبورتريكو وغوام والفيليبين. التوسع كان هدفها وشعب كوبا كان آخر همها. احتلت كوبا تحت عنوان «السيطرة الموقتة»، واحتلت الفيليبين حيث قتلت 100 ألف فيليبيني وغوام إحدى جزر ماريانا حيث لها قاعدة للقاذفات الاستراتيجية بي-52. كانت الحرب لأهداف جيوسياسية أسهمت في تغيير موازين القوة، كما أنها ساهمت بنمو مشاعر التوجه نحو السيادة العالمية.

عندما انتهت الحرب اليابانية – الروسية لمصلحة اليابان بالسيطرة على شمال شرقي آسيا علق الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت: «لقد سررت بهذا الظفر الياباني اليابان تلعب لعبتنا»، الحرب عززت من نفوذ اليابان في آسيا فيما اعتبره روزفلت يصب في مصلحة التوجه الإمبراطوري الأميركي. المفارقة العجيبة أن روزفلت ساهم في التوصل إلى السلام بين الطرفين ونال جائزة نوبل للسلام.

وعندما انفردت بامتلاك القوة النووية لم تتردد في استخدامها ضد هيروشيما وناغازاكي مع أنه ليس للمدينتين أي صفة عسكرية، إنما لأنها أرادت أن توجه رسالة إلى العالم تقول فيها إن الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ليست نفسها بعد الحرب العالمية الأولى، كما أكدها هاري ترومان: «القرار النهائي المتعلق بأين ومتى تُستخدم القنبلة الذرية كان يعود لي. دعونا لا نخطئ في الأمر. اعتبرت القنبلة الذرية سلاحاً عسكرياً ولم أشك أبداً أنه يجب أن يُستخدم». بعد الحرب العالمية الأولى رسمت ملامح النظام الدولي ثم انعزلت وبعد الحرب الحرب العالمية الثانية أرادت الهيمنة على النظام العالمي الجديد فانخرطت في حروب تمتدّ من شرق آسيا إلى أميركا اللاتينية، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي دشنت النظام المولود حديثاً بمقتل 750.000 طفل عراقي علقت مادلين أولبرايت «الخيار صعب ولكن نعتقد أن الثمن مناسب».

المبرّر الأخلاقي للحرب على نظام طالبان الظلامي كان «الحرب على الإرهاب» بينما الحقيقة أن الحرب كانت من أجل النفط والغاز، بالتحديد خط تركمنستان – أفغانستان – باكستان TAP . والمبرر الأخلاقي للحرب على العراق كان «أسلحة الدمار الشامل»، إلا أن الحقيقة كانت مرحلة من حروب السنوات الخمس.

القوة صنعت تاريخ أميركا والقوة تصنع حاضرها وستصنع مستقبلها.

نظام عالمي أميركي

«النظام العالمي كان دوماً ينسجم مع حقائق القوة وتوزيعها» الأستاذ محمد حسنين هيكل .

إثر السقوط المدوي للنظام العالمي القائم على القطبين دار الجدل حول النظام العالمي الجديد الذي سيعيد تنظيم العالم. قال المتفائلون بانتهاء أسباب الحروب الإيديولوجية ونشوء نظام عالمي جديد وإن كانت ملامحه غير محددة يمر بمرحلة انتقالية، إنما يبشر بسلام دائم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية تعالت أصوات تحذر من فوضى عارمة ومن حدوث تسيب وانفلات في النظام العالمي الجديد ما لم تحدد ملامحه وترسم قواعده القوة العظمى الوحيدة في العالم، الولايات المتحدة تتحمل الولايات المتحدة «المسؤولية المطلقة» في حفظ السلام العالمي، وكان من أبرز المحذرين كيسنجر وبريجنسكي وهنتنغتون، وكل على طريقته بحسب قراءته للقوة والجغرافيا السياسية استناداً إلى فرضية أن «القوة والجغرافيا معاً يشكلان أساس أي نظام عالمي». في مواجهة الرأيين -1 السلام الدائم و 2- الفوضى العارمة، جاء التحذير على لسان برتران بادي بأن نهاية القطبية الثنائية تكرس مبدأ «القوة المطلقة». السؤال الذي يعجز عن الإجابة عليه المثاليين والواقعيين، الانعزاليين والتدخليين، على حد سواء، ما هي حدود القوة وما هي حدود المسؤولية؟

قبل الإجابة على السؤال، دعونا ندرس بعض الآراء المؤثرة. كيسنجر حذر من عالم متعدد الأقطاب تنافس فيه قوى صاعدة الولايات المتحدة في قيادة العالم «قوة أو قوى صاعدة في مواجهة قوة مهيمنة». هذا السيناريو التاريخي يعود إلى الخوف الذي أثارته اثينا الصاعدة لدى اسبارطة المهيمنة يومها «الذي جعل الحرب حتمية كان صعود أثينا والخوف الذي احدثه في اسبارطة» المؤرخ ثوسيديس . إثارة الخوف من القوى الصاعدة في الوقت الراهن، الصين وروسيا وإيران، لا يعني بأي بحال من الأحوال أن الولايات المتحدة تعيش نفس مخاوف اسبارطة، لكن التحديات الجديدة دفعت الولايات المتحدة أخيراً إلى التغيير في أولوياتها التي فرضت عليها التقرب من إيران والاعتراف بدورها ونفوذها في المنطقة. وبريجنسكي دعا إلى السيطرة على أوروبا الشرقية قلب العالم القديم أوراسيا لمنع ظهور عالم متعدد الأقطاب. في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» رسم خريطة طريق للهيمنة تقوم على التفوق الأميركي في المجالات الأربعة: «تقف أميركا شامخة في المجالات الأربعة الحاسمة للنفوذ العالمي، عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وحضارياً». ويضيف: «وبسبب اجتماع هذه العوامل الأربعة تصبح أميركا القوة العالمية العظمى الوحيدة والشاملة». وهنتنغتون بفرضية مثيرة بشكل لافت تنبأ بصدام الحضارات أي العودة إلى الحروب الثقافية والدينية مستنداً إلى ما أطلق عليه «خطوط الخلل» التي منها انطلق الاستراتيجيون الأميركيون مع حلفائهم في المنطقة إلى توظيفها في تحويل الصراع من أجل المصالح الاستراتيجية إلى صراع مذهبي سني-شيعي لأن خطوط الخلل داخل الثقافة الواحدة أقرب وأكثر حدة وأكثر قابلية للاحتواء في النطاق الجغرافي المرسوم «حدود الصراع والصدام». ويعطي هنتنغتون تفسيراً تحفيزياً وتبريرياً لسيادة أميركية مطلقة على العالم كعامل وحيد في وأد الفوضى «عالماً من دون سيادة الولايات المتحدة سيكون عالماً أكثر عنفاً وفوضى وأقل ديمقراطية وأدنى في النمو الاقتصادي». ولا ننسى فرانسيس فوكوياما الذي قال بنهاية التاريخ. وهناك من كان أكثر تفاؤلاً وقال بسقوط الجغرافيا والدولة القومية. والذي عزز من هذه الفرضيات والتنبؤات مجموعة من العوامل: انهيار المعسكر الشرقي والاحتلال العراقي للكويت والحرب الأهلية في يوغوسلافيا والحرب الأهلية في طاجيكستان وانعدام الاستقرار في أوزبكستان بسبب العنف الذي مارسته الحركة الإسلامية المتطرفة، وسيطرة طالبان على أفغانستان والعودة القوية للقاعدة، وحروب شمال القوقاز الشيشان وأبخازيا وأنغوشيا .

التفاؤل الذي ساد بعض الأوساط المثالية أنهم رأوا في انهيار توازن القوى وزوال العدو الإيديولوجي الشيوعية تشكل فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار لنظرية الأمن الجماعي لوودرو ويلسون وإعادة طرحها من جديد من خلال تفعيل دور الأمم المتحدة لتكون الضابط الفعلي على الساحة الدولية المعنية بالحرب والسلم. لكن من الواضح أن هذه القلة وقد اختلطت عليها الأمور اعتقدت ربما عن سذاجة وعن حسن نية أو عن قناعة بأن السلام حالة طبيعية وبأن مفهوم الحق الطبيعي يمكن أن يحل محل المفهوم الأميركي الطاغي «القوة حق» في عصر الأيقونة الأميركية، ما لبثوا أن تداركوا خطأهم وأدركوا أيضاً أن الأمن الجماعي الذي يحلمون به «وهم» وأنهم كانوا «واهمون»، وأن دور القوة التاريخي في العلاقات الدولية وفي رسم ملامح الأنظمة العالمية السابقة منذ معاهدات وستفاليا وقبلها سيبقى كما هو العامل الحاسم في تنظيم العلاقات بين الدول.

وأما الذين أثاروا المخاوف من الفوضى ومن صعود قوى إقليمية إلى العالمية، فقد أرادوا استنفار القوة الأميركية لربما يعود ذلك إلى رؤياهم الواقعية لمعنى القوة أو الإيديولوجيا، وحقيقة العلاقة التاريخية بين القوة والأمر الواقع أو القوة في فرض الأمر الواقع، ولربما يعود أيضاً لقناعاتهم بأنه من حق الولايات المتحدة أن تكون الإمبراطورية الوحيدة كونها الأقوى عسكرياً واقتصادياً والقادرة على فرض «الاستقرار» بالقوة تحرير الكويت ولجم صربيا لكنها وقفت تتفرج على المذابح التي ارتكبها صدام حسين خلال الانتفاضة الشعبانية وامتلاكها أوراق توزيع الأدوار الإقليمية، فمن حقها منع صعود أي قوة منافسة لها إقليمياً أو دولياً، وقد استخدمت هذا الحق الدول الاستعمارية السابقة. الولايات المتحدة ليست استثنائية في هذا السياق، استثنائيتها في سرعة صعودها إلى العالمية واستثنائية العوامل إذا استثنينا نظرية المؤامرة.

في بداية الألفية الجديدة وصل المحافظون الجدد إلى البيت الأبيض حاملين معهم مشروع «القرن الأميركي» الحل بالقوة لأزمات العالم، بمعنى أن القوة المطلقة والمسؤولية المطلقة من حق القوة العظمى الوحيدة في العالم فأرادوا فرض واقع جديد «إما معنا وإما علينا». هذه المعادلة قادت إلى حربين مبررتين «أخلاقياً» وحرب ثالثة بالوكالة على حزب الله.

التجربة الأميركية فريدة في التاريخ. فريدة في انعزاليتها وواقعيتها، وفريدة في تفوقها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي وحتى في طبيعة هيمنتها. فريدة في اتساع مناطق نفوذها، وفريدة في اتساع مجالها الحيوي. كل ذلك لم يسعفها في السيطرة المطلقة وتحمل المسؤولية المطلقة. التكلفة كانت كبيرة كما أن بروز تحديات جديدة دفعت أوباما إلى تبني استراتيجية جديدة «الحرب بالآخرين» التي أطلق عليها «القيادة من الخلف».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى