تراصُفُ المعادلة

د. نسيب أبو ضرغم

نادراً ما تتخلّف الجغرافيا عن لعب دورها، وقليلاً ما تمارس ديكتاتوريتها على القرار، تعني أن لحظة تاريخية هي قيد التشكل، وبالتالي فإن مرحلة عادية ستنقضي، وأخرى استثنائية تأخذ طريقها للتحقق.

لقد تجمّعت عناصر عديدة على رقعة جغرافيا سوريا الطبيعية، العناصر الآخذة بالتبلور والوضوح منذ عقدين تقريباً، سواء لجهة «طريق الغاز» التي صارت في العصر الحاضر بأهمية تفوق «طريق الحرير» بما لا يُقاس، أم لجهة الثروة الباطنية التي تختزنها الأرض والبحر السوريين، أم لجهة السعي لقطع أرجل العملاق الروسي عبر طرده من شرق المتوسط والمتوسط بشكل عام، أم لجهة الدور الذي تلعبه الدولة السورية في دعم المقاومة اللبنانية، أم لجهة قطع «حبل الصرة» الذي يوصل إيران بعملية صناعة التاريخ الجارية على الأرض السورية منذ العام 1948 لحظة قيام كيان العدو.

هذه العناصر وسواها، دفعت بالتحالف الصهيو – أميركي بأن يبدأ حربه الكونية على دمشق، بعد أن مهّد لها بمسرحية «الربيع العربي»، التي كانت مشاهدها التونسية والمصرية، مقدّمات للمشهد الأساس، وهو المشهد السوري.

بدأت الحرب الكونية بتجييش عربان النفط مالاً وإعلاماً، وبفتح المجال التركي لعبور الإرهاب رجالاً واستخباراً ودعماً لوجستياً وعسكرياً. لقد جرى التعامل مع الجغرافيا السورية، وكأنها مساحة مشاع، من دون اعتبار لما يمكن أن تكون قد اكتنزته هذه الجغرافيا من قدرات، هي في كل الأحوال في غير مصلحة التحالف الصهيو – أميركي.

إن تركيا تكاد تكون أهم دول الحلف الأطلسي، وربما هي كذلك، نظراً للخدمة الجيو – استراتيجية التي تقدّمها هذه الدولة للمشروع الصهيو – أميركي في العالم.

تركيا الأطلسية، هي الجسر الذي يسمح للتحالف الصهيو – أميركي أن يجاور غرب الصين، وأيضاً أن يفصل العملاق الروسي عن الأوكسيجين المتوسطي وعن مفاتيح بيته في دمشق، كما كانت تقول كاثرين العظمى. تركيا الأطلسية، تعني الضغط على الجغرافيا في سوريا الطبيعية، العراق والشام، وبالتالي يشكل ذلك مصلحة للكيان الإسرائيلي، أساسية في إمكانية استمراره على هذه الأرض.

تركيا الأطلسية، لعبت الدور الجوهري المطلوب فيها كأهم دولة في الحلف الأطلسي، الأهمية الناتجة من موقعها الجغرافي وما يقدّمه من مكاسب استراتيجية للمعلم الأكبر التحالف الصهيو – أميركي.

وحتى تؤدي تركيا الأطلسية دورها المطلوب، كانت الوكيل الأول لتأمين عبور الإرهاب ودعمه بكل أشكال الدعم، حتى استحالت الساحة السورية كما الساحة العراقية، مصدراً للتهديد الاستراتيجي الذي يطال عمق المصالح الروسية، واستطراداً الصينية.

فكما أن الردّ يكون على قدر التحدي، فإن عملية تراصُف مصلحي استراتيجي واسع، راحت تتشكل معلنة عن نفسها بغرفة العمليات الاستخبارية المشتركة بين أطراف المربّع الصاعد سوريا العراق إيران – روسيا.

إن المنطق الاستطرادي يقضي بالقول إنه يستفاد من طبيعة الغرفة المشتركة المشار إليها، بأن أمراً أبعد من ذلك كان قد وقف وراء قرار تأسيس هذه الغرفة، الأمر الذي يتعلق بتشابك المصالح الاستراتيجية العائدة للأطراف الأربعة، هي المصالح عينها التي باتت تحت وطأة التهديد المباشر، والتي جاء وقت حمايتها بالردّ المباشر وميدانياً وفق تصور ورؤية استراتيجية واحدة تعزز هذه المصالح وتجعل منها قاعدة أساسية في بناء النظام الدولي الجديد.

لقد تراصفت المعادلة، وأخذت تشق طريق فرضها على العالم، بدءاً بالتدخل العسكري الروسي وتقدّم الجيش السوري، ومروراً بما ستظهره الأيام القريبة من مشهد مشابه على الساحة العراقية.

لقد تراصفت المعادلة، وكذلك القوى الممثلة لها، والعالم يعيش مخاض ولادة النظام الدولي الجديد، الذي سيولد على جغرافية سوريا الطبيعية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى