القوّة في العلاقات الدولية حالة طبيعية الولايات المتحدة أنموذجاً ٢

يقارب الكاتب رضا حرب موضوع القوّة في العلاقات الدولية، فيرى أنها البعد الأساس الذي يحكم حركة الأمم سلماً أو حرباً. وبالتالي فإن الحق متوقّفٌ على مقدار القوّة الذي أكّدته الأحداث الدولية كافة. لقد أشار بريجنسكي إلى أن النزوح إلى القوّة صفة موروثة في الجنس البشري، وبالتالي فهي قاعدة ثابتة في التعاون الدولي.

إن شكل النظام الدولي ومضمونه الذي سبق أن شهده العالم سواء النظام الأحادي القائم أو الثنائي السابق أو المتعدّد الآتي هو نظام ينسجم مع حقائق القوة وتوزيعها كما يقول محمد حسنين هيكل.

بعد نشر الجزء الأول هنا الجزء الثاني والأخير.

رضا حرب

لماذا الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة؟

قسم الاستراتيجيون «القوة» الى خمس فئات/مستويات: قوة عظمى وقوة كبرى وقوة اقليمية وقوة وسطى وقوة صغرى وقدرات كل دولة تضعها في الفئة الملائمة. في مرحلة ما بعد الحرب الباردة باتت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم، وفي العقد الاول من القرن الواحد والعشرين استفادت من قدراتها ومن عدم وجود خصم من الفئة نفسها فبات نفوذها في كل بقعة من المناطق الحيوية في العالم.

تعريف القوة العظمى: وفقاً لتعريف ويليام فوكس للقوة العظمى «قوة كبرى إضافة الى القدرات الكبرى على تحريك القوة»، ووفقاً لتعريف أليس ميلر ليمان عملت محللة في المخابرات المركزية السي آي ايه من 1974 لغاية 1990 للقوة عظمى «الدولة التي تملك القدرات لفرض هيمنها ونفوذها في أي بقعة في العالم، وأحياناً، في أكثر من منطقة من العالم في وقت واحد، وهكذا قد تحقق الهيمنة العالمية». بالعموم، القوة العظمى هي الدولة المهيمنة في العلاقات الدولية وتمتاز على غيرها بقدرتها على ممارسة النفوذ أو إبراز قوتها على نطاق عالمي، الهيمنة على الشؤون العالمية.

تعتبر الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم ولكن الـ»وحيدة» هذه تتراجع بسرعة أمام العودة الروسية والتقدم الصيني. لتوضيح مفهوم القوة العظمى، تُقاس قوة الدولة بحسب نفوذها والقدرة على فرض نفوذها على الصديق والخصم واتساع مجالها الحيوي، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بالقدرات العسكرية والاستفادة من تراجع القوى الأخرى ملأت الفراغ الذي تركه تراجع بريطانيا في الخمسينات من القرن الماضي واستفادت من سقوط العدو الإيديولوجي الاتحاد السوفياتي في العقد الأخير من القرن الماضي، فملأت الفراغ الذي تركه وراءه في شرق أوروبا وسعت الى ملء الفراغ في وسط آسيا والقوقاز. اليوم، فقط الولايات المتحدة توفي بالشروط التي تفرضها معايير القوة العظمى.

تملك الولايات المتحدة قدرات عسكرية هائلة واقتصادها في أسوأ ظروفه يشكل 30 في المئة من اقتصاد العالم، وهذا يسمح بتخصيص موازنة عالية جداً، وليس هناك دولة في الوقت الحاضر وفي المستقبل المنظور قادرة على منافسة الولايات المتحدة في مجال الانفاق. الإنفاق الأميركي السنوي يتجاوز 700 مليار دولار أكثر من 7 أضعاف الصين ، يساوي 40 في المئة من الإنفاق العالمي وإنفاق دول الناتو يشمل الولايات المتحدة يساوي 70 في المئة من الإنفاق العالمي.

عندما نستعرض القوة الأميركية أو أي قوة عالمية أخرى يكون الاستعراض في المجالات الخمسة: القدرات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والعسكرية. الولايات المتحدة تملك من القوة والقدرة على توظيفها في المجالات التالية:

حماية الأمن القومي. لم تتعرض الولايات المتحدة لهجمات على أراضيها سوى مرتين: الاعتداء الياباني على بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية وهجمات القاعدة على المركز التجاري العالمي عام 2001. الهجوم الأول كان سبباً مباشراً لدخول الحرب واحتلال اليابان، والهجوم الثاني كان السبب المُعلن للحرب على الإرهاب واحتلال أفغانستان.

التحكم بمصادر الطاقة. بعد الحرب الأولى والثانية على العراق، أصبحت دول الخليج محميات أميركية. وعملت على السيطرة على مصادر الطاقة في وسط آسيا بعد احتلال أفغانستان من خلال «شبكة التوزيع الشمالية NDN» ومشروع «التهديدات العابرة للحدود الوطنية TNT».

التوسع في المجال الحيوي: في ظل النظام العالمي الآحادي سقطت معظم المناطق الحيوية في المجال الحيوي الأميركي.

استخدام القوة بجميع أشكالها للتوسع في مناطق نفوذها. اليوم مناطق نفوذها أوسع من أي إمبراطورية سبقتها. وعملت على إسقاط حكومات منتخبة ديمقراطياً واستبدالها بحكومات استبدادية حليفة تخضع لنفوذها أسقطت حكومة محمد مصدق في إيران عام 1953 من أجل حصة من النفط الإيراني .

ممارسة أنواع القوة: الولايات المتحدة ربما الدولة الوحيدة اليوم القادرة على ممارسة القوة الصلبة والقوة الناعمة والقوة الذكية.

سياسة الجزرة والعصا: تعود هذه السياسة إلى بدايات القرن العشرين تكلم بلطف واحمل عصا غليظة الرئيس روزفلت وما زالت صالحة حتى يومنا هذا. إذا لم تنفع الجزرة فالعصا جاهزة. حاولت استخدام هذه السياسة مع إيران، لكنها اكتشفت أن الشعب الإيراني لا تغريه الجزرة ولا ترعبه العصا.

إقامة تحالفات مع دول تفرض نفوذها داخل تلك الدول، دول الناتو ودول الخليج ودول شرق أوروبا.

في بداية هذا الجزء، عرفنا الولايات المتحدة بأنها القوة الأقوى في العالم، فلا بدّ من الإشارة إلى أن مفهوم الأقوى في العالم، لا يعني بأيّ حال من الأحول امتلاك الحصانة المطلقة من التعرض للهزيمة على يد قوة لا تملك نفس القدرات. حرب تموز 2006 أقرب مثال، وهزيمة الولايات المتحدة في فيتنام خير مثال رغم الفارق بين الخسائر. نمط الحروب وتوظيف القدرات المحدودة يمكن أن تحدد مسار ونتائج الحرب الحرب اللاتماثلية التي خاضها حزب الله في حرب تموز 2006 قلبت موازين القوة.

القوة ستحدّد ملامح النظام العالمي الجديد

مصطلح «نظام عالمي جديد New World Order» يشير الى فترة تاريخية محددة يشهد فيها العالم متغيرات عميقة في توازن القوى يصبح النظام العالمي القائم القديم غير صالح لإدارة شؤون العالم، وأصبح من الضروري أن يحلّ محله نظام عالمي جديد يتعاطى بواقعية مع توازن القوى الناشئ. وبالرغم من التعريفات أو التفسيرات المختلفة للمصطلح إلا أن التعريف الأبسط هو «دول عظمى تمتلك قدرات عسكرية ضخمة تتعاون أو تتنافس على إدارة شؤون العالم». فكما أن القوة فرضت النظام العالمي المتهاوي، القوة ستفرض النظام العالمي الجديد. الانتقال من النظام العالمي القديم الى النظام العالمي الجديد يمرّ بمرحلة دقيقة وحساسة جداً يُطلق عليها بـ «المرحلة الانتقالية» وهي المرحلة التي تتشكل فيه ملامح النظام العالمي الجديد، وهي مرحلة خطيرة حيث يشهد العالم نزاعات مسلحة في مناطق حيوية يصعب على القوى المحلية والإقليمية احتواءها حتى تتفق القوى العظمى على التعاون، عندها فقط يظهر الى الوجود نظام عالمي جديد.

كان عامل القوة هو الذي يصنع النظام العالمي الجديد، ومن أبرزها النظام العالمي الذي شكل الخريطة القومية لأوروبا بعد معاهدة وستفاليا التي نقلت الحروب من حروب بين ملوك وأمراء ونبلاء الى حروب بين الشعوب – حروب قوميات عابرة للحدود الوطنية وفقاً لوصف «آر آر بالمر». علماً أن المصطلح استُخدم لأول مرة في نقاط وودرو ويلسون الأربع عشر والتي على أساسها تأسست عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى الحكومة العالمية – لتكون «الحرب نهاية لكل الحروب». لم يدم النظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى، لأنه لم يستند إلى القانون بل إلى القوة والمطامع فشرع الاحتلال تحت مسمى «الانتداب». سقوطه كلف البشرية أكثر من خمسين مليون قتيل. بعد الحرب العالمية الثانية نشأ نظام عالمي جديد مستنداً أيضاً إلى القوة التي قسمت العالم الى معسكرين، معسكر يتزعمه الاتحاد السوفياتي ومعسكر تتزعمه الولايات المتحدة، وصفه بريجنسكي «كل من المتنافسين على امتداد العالم بث نداءً ايديولوجيا مشرباً بالتفاؤل التاريخي… واستخدم كل من المتنافسين الإيديولوجيا في إحكام قبضته على اتباعه ومريديه بطريقة تعيد الى الأذهان ذكرى زمن الحروب الدينية».

شهد التاريخ للمرة الأولى سقوط قوة عظمى وانهيار امبراطوريتها بلا حرب وسقط معها النظام العالمي. الحقيقة أن سقوط الاتحاد السوفياتي وتفتت المعسكر الشيوعي بطريقة مهينة كان زلزالاً دولياً بقوة 15 على مقياس ريختر خلف وراءه مساحة واسعة من الفراغ وعزز من موقع الإيديولوجيا الليبرالية المتطرفة، فكان من الطبيعي أن تتحرك الولايات المتحدة بما يتلاءم مع مصالحها على قاعدة أن العلاقة طردية بين النفوذ الأميركي من جهة والاستقرار والديمقراطية من جهة ثانية. أتاحت هذه التحولات المفاجئة التي شهدها العالم في أواخر القرن الماضي، لا سيما عدم التوازن في توزيع القوة وعدم وجود منافس، فرصة تاريخية أمام الولايات المتحدة لتأخذ موقعها الأحادي والمنفرد، وهذا ما عبرت عنه مادلين أولبرايت: «إنني الممثلة لأميركا المقتنعة بأنها تتحمل مسؤوليات شمولية وبكونها أمة لا غنى عنها». لم تعد هناك قوة قادرة على مجاراتها في أي من الميادين، فلم تتردد في فرض نفسها كقوة عظمى وحيدة في العالم وشرعت الحلول باستخدام القوة الصلبة لكل أزمات العالم، وفي العلاقة مع الدول والأنظمة التي تراها تشكل تهديداً لمصالحها، فبات مذهب بوش العسكري «إما معنا وإما علينا» المبدأ الأساسي للعلاقة مع الخصم ومع الصديق على حد سواء. القوة المطلقة والمسؤولية المطلقة أصبحتا شأناً أميركياً.

افتقاد بوش وفريقه من المحافظين الجدد للعقلانية أعماهم عن رؤية الاحتياجات الحقيقية للعراق وأفغانستان. مشروع «مارشال» يراعي الثقافة الإسلامية كان أجدى من مشروع «الفوضى البناءة». وسياسة المحاببة للأنظمة الاستبدادية والأنظمة التي تحكمها «الفاشية الدينية Theo-fascism» ومعاداة محور المقاومة عمق من جذور الخلافات بين دول المنطقة، إثنياً ومذهبياً أدت الى إنتاج هذا الإرهاب الإسلاموي الذي بات يشكل تهديداً حقيقياً من المغرب العربي الى مقاطعة زنجيانغ الصينية مروراً بالقوقاز ووسط آسيا. آوباما لم يبتعد كثيراً عن استراتيجية بوش، اللهم إلا في التكتيك. الفارق أن أوباما أدرك أن الولايات المتحدة تواجه تحديات تفرضها متغيرات في توازن القوى: التقدم الصيني والصعود الهندي والعودة الروسية وتماسك محور المقاومة، إضافة الى تنامي قوة بريكس وتوسع منظمة شنغهاي.

يعزو البعض تراجع الولايات المتحدة الى ضعف حلفائها في المنطقة وأنها تدفع ثمن سياسة المحاببة لأنظمة استبدادية، ويعزو البعض الآخر السبب الى قوة خصومها محور المقاومة وطرف ثالث يقول إن التحديات الجديدة التي تفرض نفسها على الولايات المتحدة تدفعها بنقل أولوياتها الى مناطق تحدّ من العودة الروسية وتحد من التقدم الصيني الذي بات يشكل تهديداً حقيقياً لحلفائها في جنوب شرق آسيا ويهدد الهيمنة الآحادية على المحيط الهادئ. كل المؤشرات تؤكد أن المحيط الهادئ حيث هناك نزاعات حادة بين معظم الدول الكبرى والصاعدة على تخوم المحيط: الصين واليابان والفيليبين وإندونيسيا والبرازيل والولايات المتحدة وأستراليا والكوريتان. المحيط الهادئ لن يبقى هادئاً.

هذا التراجع الأميركي أنتج مساحة واسعة للتنافس على مناطق النفوذ بين قوى إقليمية السعودي وتركيا على قاعدة من يحكم القرار السني يحكم المنطقة. الفارق أن السعودي يعرف حجمه ويعرف أن نفوذه مرتبط بالدعم الأميركي، تداعى نفوذه على يد الحوثيين في اليمن بين ليلة وضحاها ويدرك أيضاً أن هذا التراجع له تداعيات كبيرة على الاستقرار الداخلي، السعودي غير واهم. على الطرف الآخر، التركي يعيش حالة من «الوهم العثماني» وسقوط بشار الأسد ورقة الخلاص له ولمشروعه. المثير في التطورات الأخيرة أن الطرفين يفتقدان الى القدرة على قراءة الاستراتيجية الأميركية التي تقوم على التسليم بنفوذ إيران كمقدمة لحل نهائي لأزمة الملف النووي رغم التعقيدات التي تبرز بين الحين والآخر.

الصراعات الدولية تجري على خمسة محاور: الشرق الأوسط وشرق أوروبا ووسط آسيا وبحري جنوب وشرق الصين والقوقاز. في القوقاز ما زالت النار تحت الرماد، الصراع على مناطق النفوذ في وسط آسيا بدأ يشتد منذ 2005 وسيأخذ منحى التوترات العسكرية للضغط على الصين وبالتحديد مقاطعة زنجيانغ انطلاقاً من وادي فرغانا بالاعتماد على الحركات الإسلامية. الصراع في بحري شرق وجنوب الصين يتعلق باحتياطات النفط… لكن الصين تسعى لتحقيق أهدافها من دون الدخول في صدامات عسكرية مع القوى المنافسة، أما الصراع الروسي الأميركي حول أوكرانيا مرشح أن يتحول الى حرب باردة. الشرق الأوسط هي المنطقة الساخنة جداً ولا يمكن التعاطي معها بمعزل عن الصراعات في الأقاليم الأخرى. المنطقة الشرق أوسطية تمر بمرحلة «إعادة تشكيل» تطاول الحدود الجغرافية والمكونات الاجتماعية ومناطق النفوذ والمجال الحيوي لكل دولة وستكون القوة هي العامل البارز.

ما نشهده اليوم هو إعادة تشكيل نظام عالمي جديد ينهي الهيمنة الأميركية على القرار الدولي وعلى الاعتماد على صناعة الحروب ما يتيح مجموعة من الفرص أمام دول كبرى كإيران والبرازيل والهند وقوى عظمى كروسيا والصين كي تفرض نفسها كشريك في إدارة الشأن الدولي والإقليمي. حتى يأتي ذاك اليوم الذي تتفق فيه الدول العظمى والكبرى على التعاون ستبقى النزاعات المسلحة هي المشهد الأبرز.

المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى