التدخل الروسي… إسقاط الأحادية القطبية

عصام الحسيني

منذ التاريخ، كان الإنسان دائماً أمام تحديات ومخاطر وصعاب، احتاجت جهداً وتعاوناً جماعياً لمواجهتها، بدأ من إشكالية ظواهر الطبيعة في غضبها وجبروتها، إلى إشكالية الأمن والغذاء، مروراً بإشكالية الموارد المحدودة والحاجات المتنامية، وليس آخراً إشكالية المرض والموت، وما بعد الموت.

ولما كان «أنا» الإنسان، ضعيفاً لوحده أمام هذه التحديات، فإنه كان دائماً وأبداً بحاجة إلى «أنا « الآخر، كي يعبر نقطة الخوف، منذ الإنسان الأول، إلى إنسان ما بعد الحداثة، إنسان الاجتماع السياسي.

وفي رحلة الصيرورة المجتمعية، المتطورة نحو بداية تشكل نواة الدولة، عرف الإنسان كلّ أنواع التطور الاجتماعي المنتظم، وما رافق هذا التطور من حقائق تاريخية ثابتة، تتمحور حول حقيقة السلم والحرب، رحلة الإنسان مع نفسه، وما أنتجته هذه النفس، من صراعات وحروب لا محدودة.

وإذا كان الصراع أو الحرب، لحظة حرجة في تاريخ الإنسان الفرد أو الجماعة، فإنّ هذه اللحظة، احتاجت المزيد من القوة، وتجمع هذه القوة، لتحقق أهدافها مجتمعة، عبر «الأنا» و«الأنا» الآخر.

والتاريخ القديم والحديث، حافل بشواهد عن تجمع هذه القوى، في مواجهة بعضها بعضاً، ضمن نظرية «توازن القوى»، والتي عرفها فقهاء الإغريق، وتبنّتها مدنهم في استراتيجيتها.

ثم كذلك طبّقتها الدويلات الإيطالية في القرون الوسطى، لتخفّف من حدة المنافسة بين ملكي فرنسا والنمسا.

وشهدنا في منتصف القرن السادس عشر، مع حروب فرنسا وإسبانيا، نموذجاً لهذه النظرية، لتأتي معاهدة «وستفاليا» عام 1648 وتكرّس مبدأ التوازن، كأساس تبني عليه العلاقات الدولية في أحد بنودها.

وقد عبرت معاهدة «أوترخت» عام 1713 عن هذا المضمون، كشعار للتوازن الأوروبي، وكذلك تقسيم «بولونيا» عام 1772 وعام 1793 ثم عادت وأزيلت نهائيا عام 1795 من الخارطة الدولية، في سبيل بقاء التوازن الدولي مصاناً وغير معرض للإخلال.

ومع معاهدة فيينا عام 1815 والتي أنهت الحروب النابليونية، تكرّس مبدآن أساسيان في النظام الأوروبي الجديد وهما: مبدأ الشرعية، ومبدأ التوازن.

وبالانتقال إلى مرحلة ظهور القوميات الأوروبية، وبعد مرحلة «بسمارك«، طُرح مبدأ «الأمن الجماعي» كبديل لمبدأ «توازن القوى «لصيانة السلام العالمي.

لكن لا هذا التوازن، استطاع المحافظة على السلام العالمي، ولا الأمن الجماعي، تمكن من ردع الدول الكبرى، من أن تتوجه نحو حرب عالمية ثانية.

ومع انتهاء هذه الحرب، انقسم العالم إلى معسكرين، ودخل مرحلة الحرب الباردة، ليتحوّل التوازن الأوروبي إلى توازن عالمي، بقيادة الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، ثم لينتقل إلى توازن من نوع آخر، وهو «توازن الرعب النووي»، وتوازن القوى في السياسة الدولية، حتى سقوط المعسكر الاشتراكي، وسقوط هذا التوازن.

وتوازن القوى، هي نظرية سياسية، يقصد بها «المحافظة على ميزان القوة بين دول العالم، بحيث لا يسمح لدولة، أو لدولة مع حليفاتها، بالاستئثار بالنفوذ في المجال الدولي، حتى تفرض سيطرتها على الدول الأخرى، بما يكون في حوزتها من قوة عسكرية متفوقة، وإمكانيات اقتصادية كبيرة، ووسائل إعلام متقدمة».

إذن… فتوازن القوى، يدعو إلى إقامة توازن بين الدول المختلفة على الصعيد العالمي، انطلاقاً من فرضية أن «حفظ السلام الدولي»، هو الأساس في استقرار العلاقات الدولية.

وتوازن القوى لم يكن في يوم من الأيام ساكناً، ولكنه يبقى دائماً في حالتي تطوّر ونموّ مستمرين ومتقابلين، وهو مزيج من العوامل الكمية والكيفية في آن واحد، أيّ انه مبني على التخمين أكثر مما هو قائم على الحقيقة، فيبقى توازناً وهمياً قبل أن يكون توازناً فعلياً.

والأحلاف السياسية والعسكرية، هي الأساس القانوني لتوازن القوى، حيث شهدت مرحلة الحرب الباردة، وجود أحلاف دولية عديدة، أهمّها تمثلت في حلفين أساسيين هما: حالف الناتو وحلف وارسو.

وللدولة حرية اختيار أحلافها، ضمن نظرية سيادة الدولة الداخلية والخارجية المطلقة، في الفهم الكلاسيكي للسيادة، شرط ألا تهدّد هذه السيادة في سلوكها العملي، السلم والأمن الدوليين، كونها جزءاً من المجتمع الدولي، وتترتب عليها حقوق وواجبات دولية.

الاستثناءات الكلاسيكية المشروعة لمبدأ عدم التدخل

ضمن نظرية المحافظة على السلم والأمن الدوليين، سمح القانون الدولي، لاستثناءات محدّدة من التدخل الدولي في شؤون دولة أخرى، في إطار المفهوم الكلاسيكي للتدخل، وإنْ كان الأصل هو مبدأ عدم التدخل، واحترام سيادة الدولة. ومن أوجه هذه الاستثناءات الكلاسيكية التدخلية:

1 ـ الأمن الجماعي، 2 ـ الدفاع عن النفس، 3 ـ حماية المحميات، 4 ـ حماية مواطني الدولة في الخارج، 5 ـ التدخل بناء لدعوة، 6 ـ الأعمال الزاجرة.

أ استثناء الأمن الجماعي والدفاع عن النفس: ضمن نظرية الأمن الجماعي، وحق الدفاع عن النفس، أقرّ ميثاق الأمم المتحدة في المادة 51 للدول، «حق الدفاع عن نفسها فرادى أو جماعات، إذا اعتدت قوة مسلحة عليها، إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي».

هذا يعني، أنّ الميثاق سمح ضمناً بالتالي:

1 – شرعية الدفاع عن النفس من اعتداء مسلح على الدولة الاستثناء الثاني .

2 – شرعية الدفاع الفردي أو المشترك الاستثناء الأول .

3 شرعية الأحلاف السياسية والعسكرية، كمقدمة قانونية ناظمة لحالة الدفاع المشترك.

وعلى هذا الأساس القانوني، شهد العالم الكثير من أشكال الأحلاف، والمعاهدات، والاتفاقيات السياسية والعسكرية، ترجمة على أرض الواقع في الكثير من أحداث العالم منها حالة سورية في حرب تشرين عام 1973 ، حيث اشترك قسم متخصص من الجيش الروسي، إلى جانب الجيش السوري في مجال الدفاع الجوي، وفي مجال الحرب الإلكترونية.

وهذا التدخل العسكري الروسي، أتى ضمن آلية قانونية مشروعة، حدّدها القانون الدولي، من وجود معاهدة مكتوبة رسمية بين البلدين، ومصادق عليها من قبل الشعب، بموجب «استفتاء شعبي».

وقد احتفظ الاتحاد السوفياتي، بوجود قواعد عسكرية له في سورية بعد الحرب، بموجب معاهدات دفاعية بين البلدين، وتمّ تجديد هذه المعاهدات مع الاتحاد الروسي، وهي تخضع لآلية قانونية، متوافقة مع القانون الدولي.

واتفاقيات الدفاع المشترك، والتي تأتي ضمن نظرية الأمن الجماعي، تقبلها منظمة الأمم المتحدة، إذا لم تخالف نص وروحية المادة 51 الأممية.

حلف الناتو وفي المادة رقم 5 من ميثاقه يقول: إن الاعتداء على عضو في الحلف هو اعتداء على الجميع، ولهم حق الدفاع المشترك، شرط التزامه بنص المادة 51 الدولية.

لكن استراتيجية الناتو تقوم على الهجوم وليس على الدفاع، وهي مخالفة صريحة لنص ولروحية المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي مخالفة للقانون الدولي.

القرار الدولي رقم 1373 الصادر بتاريخ 28 9 2001 عن مجلس الأمن، سمح بتدخل دولة للدفاع عن أخرى، وفي حالة دفاع الدول عن الولايات المتحدة في حربها في أفغانستان، بعد أحداث 11 أيلول 2001 ضمن نظرية الأمن الجماعي الاستثناء الأول .

ب استثناء التدخل بناء لدعوة: القانون الدولي يحظر ولا يبيح، لأنّ الدولة هي صاحبة السيادة، لها الحق في إقامة معاهدات دفاع مشترك، ولها الحق بإلغاء وجودها.

والقانون الدولي يشترط في استثناء الدعوة، توفر إرادة الشعب، ولهذا الأمر يتوجب إقامة الاستفتاء الشعبي.

فالدولة لها حق طلب التدخل من دولة أخرى، ضمن شروط قانونية هي:

1 أن يكون هناك دعوة صريحة بالتدخل، من الدولة الطالبة إلى الدولة المطلوبة.

2 أن يكون التدخل موقتاً وليس دائماً، لأنّ سيادة الدولة من الشعب.

3 أن تحدّد الدولة الطالبة، للدولة المطلوبة، موضوع التدخل، كي لا يصبح تدخلاً مفتوحاً على كلّ المجالات.

وفي حالة التدخل الروسي العسكري القائم حالياً في سورية نلاحظ التالي:

أولاً: أنه أتى بناء لدعوة من السلطات الرسمية الشرعية السورية، المنتخبة من الشعب، وحظي بإقرار رسمي من البرلمان الاتحادي الروسي.

ثانيا: تمّ تحديد الإطار الزمني للتدخل العسكري الروسي، عبر الإعلان الرسمي للمدّة المتوقعة، وعلى لسان السلطات الروسية الرسمية.

ثالثا: تمّ تحديد موضوع التدخل العسكري الروسي، وهو محاربة الإرهاب، المتمثل في «القاعدة» وأخواتها من التنظيمات الإرهابية.

وعليه يكون التدخل العسكري الروسي، قد استوفى الشروط القانونية، لاستثناء التدخل بناء لدعوة، وبدء العمليات الحربية، وهي مرحلة مكملة لوجوده العسكري السابق لمرحلة التدخل.

الاستثناءات غير الكلاسيكية المشروعة لمبدأ عدم التدخل

وهي استثناءات حديثة المفهوم، تتناول إشكاليات قانونية لم تكن مطروحة سابقاً في القانون الدولي، ومرتبطة بالتطور الإنساني، وآليات هذا التطور، وهي:

1 القواعد الآمرة، 2 ـ التدخل الإنساني، 3 نظام مكافحة الإرهاب، 4 ـ موجبات العولمة الجديدة.

وفي إطار بحثنا، حول فهم القانون المشرّع للتدخل الروسي في سورية، نستعرض لاستثناء عدم التدخل، لنظام مكافحة الإرهاب، وهو استثناء إضافي معلن من القيادة الروسية.

أ استثناء التدخل بموجب نظام مكافحة الإرهاب: إنّ نظام مكافحة الإرهاب، مبنيّ على ركيزتين أساسيتين:

الأولى على الاتفاقيات الدولية المتنوعة في مكافحة الإرهاب. والثانية على قرارات مجلس الأمن، المدرجة تحت الفصل السابع، المواد القهرية.

إنّ الاتفاقيات الدولية، لا تتضمّن قواعد آمرة ملزمة، ولا تلزم إلا الدول الموقعة عليها. لكن في القضايا المتعلقة بالإرهاب، هناك اتفاقيات ملزمة للدول يجب قبولها، وتأتي موجباتها تحت الفصل السابع وهي:

1 اتفاقية عام 1963 الخاصة بالجرائم وبعض الأفعال الأخرى، المرتكبة على متن الطائرات.

2 اتفاقية عام 1970 لمكافحة الاستيلاء غير المشروع على الطائرات.

3 اتفاقية عام 1971 لقمع الأعمال غير المشروعة، الموجهة ضدّ سلامة الطيران المدني.

4 اتفاقية عام 1973 لمنع الجرائم المرتكبة ضدّ الأشخاص المتمتعين بحماية دولية، بمن فيهم الموظفون الديبلوماسيون، والمعاقبة عليها.

5 اتفاقية عام 1979 لمناهضة أخذ الرهائن.

6 اتفاقية عام 1980 للحماية المادية للمواد النووية.

7 بروتوكول عام 1988 المتعلق بقمع أعمال العنف، غير المشروعة في المطارات التي تخدم الطيران المدني الدولي.

8 اتفاقية عام 1988 لقمع الأعمال غير المشروعة، الموجهة ضدّ السلامة الملاحية البحرية.

9 بروتوكول عام 1988 بقمع الأعمال غير المشروعة، الموجهة ضدّ سلامة المنشأت الثابتة الموجودة على الجرف القاري.

10 اتفاقية عام 1991 لتمييز المتفجرات البلاستيكية بغرض كشفها.

11 الاتفاقيات الدولية لقمع الهجمات الإرهابية بالقنابل لعام 1997 .

12 الاتفاقية الدولية لقمع تمويل الإرهاب لعام 1999 .

13 الاتفاقية الدولية لقمع أعمال الإرهاب النووي لعام 2005 .

14 اتفاقية عام 2010 لقمع الأفعال غير المشروعة المتعلقة بالطيران المدني الدولي.

تعريف الإرهاب

لقد عرف القانون الدولي الإرهاب بالتالي: «الإرهاب هو كلّ عنف غير قانوني بحق المدنيّين، لأجل تحقيق هدف سياسي.»

والإرهاب جريمة دولية، تمسّ جميع المجتمعات الإنسانية، وتهدّد الاستقرار مثل: الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية.

والإرهاب الدولي، جريمة يعاقب عليها:

1 – المحاكم الدولية: باعتبارها جريمة دولية.

2 – مجلس الأمن: باعتبارها تهدّد السلم والأمن الدوليّين.

3 لا تسقط بمرور الزمن.

إنّ موجبات التدخل الروسي العسكري في سورية، تستند في الشق القانوني، على استثناء التدخل لمحاربة الإرهاب، وخاصة في الاتفاقيات رقم 5 و 10 و 11 و 12 الملزمة للدول بالقبول بها، حيث أنّ موجباتها تأتي تحت الفصل السابع.

والواقع انه في المواقف المعلنة من معظم دول العالم، لا يوجد أيّ خلاف قانوني حول نظرية محاربة الإرهاب، لا بل هناك ما يشبه الإلزامية القانونية بوجوب محاربته، ضمن إطار تحالف دولي معلن، رسمته الإدارة الأميركية في العراق، ورسمته الإدارة الروسية في سورية.

إنّ التدخل الروسي في سورية، أتى ضمن الأطر التي حدّدها القانون الدولي، أكان هذا التدخل من خلال الاستثناءات الكلاسيكية، أم غير الكلاسيكية، وهو يخضع لآلية قانونية ثابتة، من روحية ونصوص ميثاق الأمم المتحدة، ومما هو متعارف ومصادق عليه في العلاقات الدولية.

إنّ الاستثناءات المشروعة لمبدأ عدم التدخل، الكلاسيكية وغير الكلاسيكية، والتي أقرّها القانون الدولي، قد سمحت ولظروف استثنائية وقاهرة، بتجاوز سيادة الدولة.

وفي مثال الوضع السوري، فإنّ التدخل الروسي، قد أتى بطلب من السلطة الرسمية الشرعية المنتخبة في سورية، وهو يخضع لأحكام الاتفاقيات العسكرية القائمة منذ عقود من الزمن بين البلدين، وبالتالي فهو تدخل قانوني لا يمسّ السيادة للدولة السورية.

وهو بخلاف التدخل العسكري الأميركي، الخارق للسيادة السورية، كونه لم يأتِ بطلب رسمي من الدولة، ولم ينسّق معها، وبالتالي يعتبر تدخله عملاً عدوانياً، بخرقه أجواء دولة ذات سيادة.

أما مفهوم سيادة الدولة، في عصر النيوعولمة، فلم يعد مفهوماً واضح المعالم والتفاصيل، كونه تعرّض للكثير من الخروقات، خارج إطار قدرة الدولة على التصدّي له، أو التحكم به.

وفي تاريخ الدولة القومية، لم تكن السيادة للدولة بالفعل، سيادة مطلقة، ولن تكون، إنما كانت دائماً سيادة نسبية، مشروطة لأوضاع الدولة الجيوبوليتكية والجيوسياسية.

إنّ نظرية سيادة الدولة الحديثة، هي سيادة مقيّدة من الدولة بإرادتها، كونها جزءاً من المجتمع الدولي، تتعاون من اجل استقرار واستمرار السلم والأمن الدوليّين.

إنّ معاهدات فيينا الديبلوماسية، منحت الحصانة المطلقة للبعثات الديبلوماسية على أراضي الدول الأخرى، في ظاهرة تقيّد الدولة لسيادتها المطلقة بإرادتها، على مبدأ المعاملة بالمثل، كونها جزءاً يعيش داخل إطار المجتمع الدولي الكلي.

ثم في عصر النيوعولمة، حيث شكل مفهوم الخرق لسيادة الدولة، وضعاً متفهّماً من كلّ الدول، أكان هذا الخرق ثقافياً، أو اقتصادياً، أو اجتماعياً.

وعليه، فإنّ نظرية السيادة المطلقة للدولة، هي مجرد نظرية، ولا ترقى إلى مستوى مقاربة الواقع الدولي القائم، حتى مع الدول الأكثر قوة في العالم، مثال ذلك إنكلترا، حيث يوجد فيها قواعد عسكرية، لجيوش الولايات المتحدة الأميركية.

وفي العودة إلى التدخل العسكري الروسي في سورية، المستوفي للشروط القانونية، فإنه يحمل في طياته، أبعاداً استراتيجية أبعد من سورية، فرضتها طبيعة المواجهة الصامتة، بين الولايات المتحدة الأميركية، وبين الاتحاد الروسي، والتي أعادت حقبة الحرب الباردة من جديد.

الحرب الباردة لم تنته

والواقع، أنّ سقوط الاتحاد السوفياتي وخلافاً لما هو مسلّم به، لم يسقط الحرب الباردة من القاموس الغربي. فالولايات المتحدة واصلت الحرب على روسيا لتفكيكها من الداخل، منعاً لقيام اتحاد سوفياتي آخر في المستقبل، وعلى نظرية «تفكيك الدول الأكبر من حجمها».

وهي حاولت دمج روسيا في الاقتصاد العالمي، وعقدت معها اتفاقيات لخفض الأسلحة النووية، وحاولت ضبطها، بعدم اعتراضها على تمدّد الأطلسي إلى جورجيا وأوكرانيا، وبعدم اعتراضها على سياستها في الشرق الأوسط، أيّ أنّ الولايات المتحدة الأميركية، حاولت جعل روسيا جمهورية من جمهوريات دول البلطيق، بعد أن كانت الدولة العالمية العظمى.

إنّ التدخل العسكري الروسي في سورية، هو بداية تشكل نظام دولي جديد، سوف يضمّ إليه العديد من الدول والقوى الدولية الفاعلة، في حركة صراع مع الرأسمالية العالمية، على مناطق النفوذ الجيوسياسية، في عالم متعدّد الأقطاب.

إنّ التبدّل الاستراتيجي لتوازن القوى الدولية، من أحادية قطبية، إلى تعدّدية قطبية، لم تسقط القوى الفاعلة الغربية، لكنها أسقطت أحاديتها الدولية، وشكلت إدارة عالمية جديدة، ستظهر نتائجها ليس في فرض حلّ سياسي في سورية فقط، إنما في فرض شراكة لقوى أخرى، تساهم في معالجات معظم الصراعات الدولية المقبلة، بعد أن كانت قد استبعدت من المسرح الدولي، لهيمنة قوى أخرى عليها.

إنّ التدخل العسكري الروسي في سورية، هو أبعد من التدخل العسكري من أجل سورية، هو دفاع عن مصالح روسيا في سورية وما بعدها، ورسالة اعتراضية للتمادي الغربي في قهر الاتحاد الروسي، رسالة أسقطت منذ اللحظة الأولى، كلّ الخطوط الحمر الأطلسية في سورية، رسالة مفتوحة عنوانها: في الحرب على «القاعدة» في أفغانستان، كرّست الولايات المتحدة أحاديتها القطبية على العالم. واليوم ومن دمشق، وبنفس العنوان، تسقط روسيا الأحادية القطبية القائمة، وتكرّس تعدّدية قطبية جديدة.

إنّ تشكل نظام عالمي جديد، يعيد التوازن الدولي المفقود، ضمن احترام حق الشعوب، واحترام النظم القانونية الدولية، يمثل إسهاماً في تطبيق روحية ونصوص ميثاق الأمم المتحدة، في حفظ السلام والأمن الدوليين.

وكما شعّ الحرف من سورية نوراً إلى العالم، سوف يشعّ منها فجر جديد، ولو أنّ الليل طويل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى