استهداف المدرّبَيْن الأميركيَّين في حادثة الموقر

إبراهيم علوش

لم يكد النقيب أنور أبو زيد يستهدف مدربين أميركيين، و»متعاقداً» أي مرتزقٍ جنوب أفريقياً، في مدينة الملك عبدالله للعمليات الخاصة في الموقر، قرب عمان، ظهيرة يوم الاثنين 9 تشرين الثاني 2015، حتى طفقت وسائل الإعلام الأردنية والغربية تحاول امتصاص الضربة وتوجيهها في كل اتجاه بعيداً عن الشأن الوطني أو السياسي.

موقع الـCNN بدأ تقريره حول الحادثة هكذا: «قام ضابط شرطة أردني تمّ صرفه من الخدمة بقتل خمسة أشخاص في مرفق تدريبي يقع قرب عاصمة البلاد، من بينهم متعاقدون أميركيون، كما قال رسميون»! وكالة رويترز قالت إن الحادثة التي وقعت في مرفق تدريبي قرب عمان «تموّله الولايات المتحدة» ليست معروفة الدوافع بعد، لكنها نقلت عن مسؤول أردني كبير لم تسمّه أن «الحادثة للأسف لا تأتي كمفاجأة بالنظر إلى أن تهديد الإرهاب الإسلامي ازداد خلال السنوات الأخيرة…»، مما يوحي أن الدوافع تكفيرية طبعاً. تلفزيون الـBBC بالعربية أورد تقريراً ربطها فوراً بما جرى في اليوم نفسه قبل عشر سنوات من تفجيرات لـ «القاعدة» في فنادق عمان، في أحد تقارير «الاهتمام الإنساني» المملّة والموجّهة سياسياً التي بات تلفزيون الـBBC يكثر منها حتى الغثيان، يتاجر بمعاناة الزوجين الكريمين اللذين تمّ تفجير عرسهما وقتها، والعبرة طبعاً أن استهداف المدرّبين الأجانب في الموقر دوافعه تكفيرية.

موقع صحيفة USA Today الأميركية الواسعة الانتشار ألمح إلى أن الهجوم أتى كردة فعل على اشتراك الأردن بالحرب ضد «داعش» في سورية والعراق. ونحت صحيفة «نيويورك تايمز» المنحى نفسه بربط الهجوم بالحملة الجوية التي يشارك فيها الأردن ضد «داعش»، مكرّرةً، نقلاً عن مسؤول أميركي، أن النقيب أبو زيد كان قد تمّ فصله من الخدمة. كذلك ربطت صحيفة «واشنطن بوست» الحادثة بتفجيرات عمان قبلها بعشر سنوات، وبمشاركة الأردن بالتحالف الدولي ضد «داعش» الذي تقوده الولايات المتحدة، وكانت من الوسائل الإعلامية الغربية الذي نقلت عن جون كيربي الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية أن المدربَيْن الأميركيين المقتولين يعملان مع شركة DynCorp International، وهي شركة مقاولات عسكرية وأمنية أميركية خاصة.

بعض وسائل الإعلام الأردنية تعاملت مع الحادثة على طريقة مسرح العبث، وقد لمعت من بينها محطة إذاعية أردنية خاصة معروفة بتلقيها تمويلاً أجنبياً، وبوضع القائم عليها على قائمة المطبِّعين، إذ قامت بقطع بث برامجها المعتادة في ساعة مغادرة الموظفين لأماكن عملهم خلال أزمة السير الرهيبة التي ضربت عمان بعد هطول بضع زخات من المطر يوم الحادثة، لتأتي بـ»خبير نفسي» راح يتناول استهداف المدربين الأجانب في الموقر ضمن سياق «تصاعد ظاهرة العنف غير المفهوم الدوافع في المجتمع الأردني»: أختان تُلقيان بنفسيهما من على مبنى مرتفع، رجل يطلق النار على ابنه في بطن زوجته الحامل، مواطن يحرق نفسه مع عائلته في السيارة، إلخ… ليُفتح باب الاتصالات للمستمعين للمشاركة في تحليل «ظاهرة العنف الاجتماعي غير المفهوم في الأردن»، ومنه حادثة الموقر، كأن المرتزقة الأجانب «أولاد بلد» تعرّضوا لحادث عنف أعمى بلا مبرر!

تمحورت التغطية الإعلامية الأردنية والغربية لاستهداف المدربين الأجانب إذن حول ربطها: أ ـــ إما بدوافع شخصية تتعلّق بمزاعم الفصل من العمل أو اختلال التوازن النفسي، حيث زعمت وسائل الإعلام الأردنية في البداية أن النقيب أبو زيد أطلق النار على نفسه منتحراً بعد استهداف المدربين الأجانب، وهو ما تمّ نفيه لاحقاً، أو ب ـــ بالإرهاب التكفيري والحملة ضد «داعش» والذكرى العاشرة لتفجيرات فنادق عمان. في الحالتين، كان الهدف هو إبعاد الأذهان عن أي ملمح من ملامح الاحتجاج في صفوف مراتب الأجهزة الأمنية على سياسة خصخصة العمل الأمني وتحويل الأردن إلى وكيل إقليمي ودولي للخدمات الأمنية تدريباً وتعهّداً من هايتي إلى أفغانستان، ومن العراق للسلطة الفلسطينية إلى «المعارضة السورية»، حيث تقول وسائل الإعلام الغربية أن «المتقاعدين» الأميركيين المقتولين كانا يقومان بتدريب عناصر الشرطة الفلسطينية في المركز الذي تخرّج منه آلاف العراقيين والفلسطينيين وغيرهم، فيما يبدو أنه تعهّد أمني رسمي أردني لحساب السلطات التي يؤسسها الأميركيون أو يسعون لتأسيسها في الدول المجاورة أو غير المجاورة للأردن.

لا يسرّنا أبداً أن يتعرّض أي أردني أو عربي قيل إن لبنانياً من بين المصابين لحادثة من هذا النوع في قاعدة أمنية أردنية مخصخصة، لكن رواية الاختلال النفسي أو العقلي، كما رواية انتماء المرحوم أنور أبو زيد، النقيب في الأمن الوقائي، لصفوف «داعش» أو «القاعدة»، لا تصمدان أمام أي تدقيق جدّي.

فالصحف الأردنية الرئيسية، «الغد» مثلاً في 10 تشرين الثاني 2015، قالت إن أبا زيد تقدّم مرتين بطلب تسريح من الخدمة من قبلُ من دون أن يُقبل طلبه، فهو إذن ليس موظفاً ممتعِضاً مفصولاً من الخدمة كما أن عائلته، التي تعرفه جيداً بالطبع، أكدت أنه رجل مؤمن ملتزم بالصلاة، لكنه أبعد ما يكون عن الفكر التكفيري والسلفي. أنور أبو زيد ابن عشيرة أردنية معروفة ورجل عائلة وأبٌ لطفلين، ومن المؤكد أنه لم يكن ليصل على مدى عشر سنوات من الخدمة لمرتبة نقيب، ناهيك عن التشكيك في ولائه وانتمائه من خلال العلاقة المزعومة مع التكفيريين، لو لم يكن إنساناً متوازناً وعاقلاً وناجحاً في عمله. ولم تصدِر أي جهة تكفيرية بياناً يعلن المسؤولية عن العملية أو يشيد بها، كما في الحوادث المماثلة في الولايات المتحدة نفسها أو أفغانستان، فالأرجح أن النقيب أبا زيد تصرّف من تلقاء نفسه، وأن شيئاً ما استفزّه، قد يكون استهتاراً من المدربين الأميركيين المعروفين بعنجهيتهم واحتقارهم للعادات المحلية منذ كوريا وفيتنام، وهو ما يُعيد فتح كل ملف التعاون الأمني والعسكري الرسمي الأردني مع حكومة الولايات المتحدة ومع العدو الصهيوني.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى