«طعن تركي في الظهر»تقابله «ضربات روسية على الرأس»

علي عوباني

مسار الردّ الروسي على إسقاط القاذفة «سو24» فوق الأجواء السورية انطلق، ويبدو أنّه سيكون، تدريجياً، وتصاعدياً، في اتجاهين متوازيين الأول بوجه حلف شمال الأطلسي «الناتو»، لمسارعته في الوقوف خلف أنقرة، التي استظلّت بعباءته، وهو ما ظهر من التصريحات الروسية التي أبدت عدم تعويلها على مواقف «الناتو» «غير الموضوعية» في حادثة إسقاط الطائرة، والتي تزامنت مع خطوات تنفيذية يمكن وضعها في خانة طلائع الردّ الروسي، تمثّلت إحداها بإيقاف موسكو تصدير الغاز إلى أوكرانيا، مع ما يحمله هذا الردّ من تلميح غير مباشر إلى إمكانية اتّخاذ خطوة مماثلة تجاه تركيا.

أمّا الاتجاه الثاني للردّ الروسي، فمصوّب نحو الجهة الفاعلة، تركيا، بعدما أكّدت كل التصريحات الروسية على عدم تمرير «طعنتها» بالظهر، رغم كل المحاولات الأردوغانية الجارية لاختلاق الأعذار والأسباب التخفيفية، والتبريرية، لتبرئة نفسها، و»شرعنة» طريقة تعاملها مع الطائرة الروسية، بالاستناد إلى القوانين الدولية، اختراق الأجواء التركية، السيادة التركية، إنذار الطائرة لمدة خمس دقائق، عدم معرفة هوية الطائرة.. ، أو المحاولات الدولية الجارية لاحتواء الموقف، ومنع توجّهه نحو التصعيد.

فرغم كل ذلك، بدا أنّ القرار الروسي القاضي بوضع خطة للتعامل مع أحداث مشابهة لحادثة إسقاط الطائرة يحمل في طياته قراراً حازماً باستكمال العمليات العسكرية في سورية بمواجهة الإرهاب، وبردّ «الطعنة» التركية في الظهر بضربات مباشرة على الرأس، ومن ثمّ على بقيّة الجسد التركي في أكثر من اتجاه، عسكري، ودبلوماسي، وسياسي، واقتصادي.

طلائع الردّ العسكري بدأت فور حادثة إسقاط الطائرة مباشرة، وتُرجمت باستدعاء الملحق العسكري التركي لدى موسكو، ومن ثمّ إعلان هيئة الأركان الروسية عن قطع كافة الاتصالات العسكرية مع تركيا خطوة وإن بدت رمزية باعتبار أنّ الانفتاح التركي العسكري على واشنطن أكبر منه على روسيا، إلّا أنّها تحمل في طيّاتها رسائل حازمة، لا يمكن تجاهلها. فالخطوة برمزيّتها لا يمكن قياسها هنا بحجم التعاون العسكري المحدود بين البلدين، وإنّما يمكن قراءتها في سياق الردّ المتدحرج الآتي خلال الأيام القادمة، وفي هذا الإطار يأتي الإعلان الروسي عن إجراءات دفاعية، واحترازية، تُرجمت مباشرة بالإعلان عن تأمين الطلعات المستقبلية للطائرات الروسية بغطاء من المقاتلات الاعتراضية، وبتمركز الطراد «موسكو» المزود بصواريخ «فورت» المضادّة للجو والمشابهة لمنظومة «إس 300» قُبالة السواحل السورية، تلا ذلك نشر منظومة «اس 400» الدفاعية في قاعدة حميميم في ريف اللاذقية بعد يوم واحد من مصادقة بوتين على نشرها، ما يحمل معه دلالات هامة لا سيّما وأنّ هذه المنظومة الاستراتيجية تغيّر موازين القوى، وتمكّن روسيا من السيطرة الكلية على أجواء المتوسط، وجعل سورية منطقة حظر جوي.

الإجراءات الروسية عقب إسقاط الطائرة، وإن بدت بوجهها احترازية، إلّا أنّها بوجهها الآخر تمهيدية للردّ المنتظر، والذي يمكن أن يُترجم في الجو من خلال إسقاط طائرات تركية مقاتلة، وعلى الأرض من خلال تكثيف العمليات العسكرية بمواجهة «داعش»، وكذلك في مناطق الاشتباك مع الأتراك، عبر تسريع الحسم العسكري في جبهة ريف اللاذقية، وإجهاض حلم أردوغان بالمنطقة العازلة، تمهيداً لدفعه إلى الرضوخ للتسوية السياسية المنتظرة. ومن هذا المنطلق يمكن فهم مسارعة روسيا لتلقّف الدعوات الفرنسية لإقفال الحدود السورية التركية، والإعلان عن دعم هكذا خطوات.

أحد أوجه الردّ الروسي، السريع وغير المتسرّع أيضاً، كان على الجبهة الدبلوماسية، وتمثّل بتقديم موسكو احتجاجاً شديد اللهجة للسفير التركي لديها، طلبت بموجبه توضيحات بشأن إسقاط مقاتلتها «السوخوي 24»، تلا ذلك إلغاء رأس الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف، زيارة مقرّرة مسبقاً إلى أنقرة، موقف مرجّح أن يتطور إلى سحب السفير الروسي من أنقرة إذا لم تسارع تركيا إلى تقديم اعتذارها، بدل التلهّي بعنتريات أردوغانية.

أمّا على الجبهة الاقتصادية، فثمّة مصالح مشتركة تقدّر بحوالي 45 مليار دولار أميركي باتت مهدّدة، حيث يتوقّع أن يتراوح الردّ الروسي بين إيقاف الرحلات السياحية بين البلدين 4.38 مليون سائح روسي أدخلوا حوالي 36 مليار دولاراً أميركياً إلى تركيا العام 2014 ، وتقليص حجم الاستثمارات والتبادل التجاري، وصولاً إلى إيقاف مشاريع مشتركة، وعلى رأسها مشروعان رئيسيان، مشروع محطة «أك كويو» النووية في تركيا، والذي يتضمّن بناء 4 مفاعلات بقدرة 1200 ميغاوات، ومشروع «السيل التركي» لنقل الغاز الروسي إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، الذي يُتوقّع أن تبلغ قدرته التمريرية نحو 63 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، وهو ما من شأنه أن يقوّض مساعي تركيا في التحوّل إلى مركز إقليمي لتوزيع الطاقة.

لكن الردّ الأقسى الذي تتّجه نحوه روسيا، يركّز سياسياً على إفشال أهداف التشويش الجاري على عملياتها العسكرية في سورية، والذي لا يمكن فصل إسقاط المقاتلة «سو 24» في الأجواء السورية، وكذلك الطائرة الروسية في أجواء سيناء عنه، من أجل إحراج بوتين، من خلال تسديد ضربات متتالية لقواته، بهدف خلق رأي عام مناهض ومعارض لتدخّله في سورية.

انطلاقاً من ذلك، كانت لافتةً مسارعة روسيا بعد الحادثة إلى تأكيد موقفها لجهة مواصلة عملياتها العسكرية في سورية، بل وتعزيزها، ومدّها بالمزيد من الأسلحة الحديثة، هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية تصنيف تركيا في خانة «داعمي الإرهابيين»، تصنيف سيكون له تداعياته الحتمية على العلاقات الثنائية كونه يضع أنقرة في خانة الأعداء الذين تحاربهم روسيا في سورية. وبهذا يكون بوتين قد رفع سقف المواجهة مع تركيا إلى الحد الأعلى، بعدما تجاوزت أنقرة حدود اللعبة، ومارست سياسة حافة الهاوية، جرّاء أدائها اللامسؤول والمتهور، والذي وضع منطقة واقعة بالأساس على خط براكين مشتعلة، على شفير الهاوية.

في المحصّلة، كشف حادث إسقاط الطائرة الروسية مجدّداً عن تقاطع مصالح أميركية تركية، فمن جهة يسعى أردوغان، بعنجهتيه المعهودة إلى استعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية التي لا تزال تدغدغ أحلامه، ما جعله يعتقد لبرهة أنّ بمقدوره أن يواجه دولة عظمى كروسيا، ومن ثمّ يسارع إلى الاختباء خلف «الناتو»، هرباً من ردّ بوتين المتوقع. غير أنّ الرئيس التركي بدا في كل ما يجرى مجرّد «أراجوز» في اللعبة الدولية القائمة على خشبة المسرح السوري، يُدار من الكواليس بخيوط أميركية، في محاولة لكسر بوتين في سورية، وإفشال مهمّته بمحاربة الإرهاب، وإلّا هل من المصادفة استهداف روسيا في المجال الجوي الدولي مرّتين في غضون أقل من شهر في سيناء بدايةً، ثمّ قرب الحدود السورية التركية؟ ولماذا دائماً ما يرتبط الضغط الدولي الناتو ومن خلفه واشنطن ، على روسيا، بحوادث الطائرات؟ ألم يُستخدم ملف إسقاط الطائرة الماليزية في أجواء أوكرانيا منذ أسبوعين فقط، ويُزجّ به في إطار الحرب الإعلامية الدائرة ضدّ روسيا على خلفية عملياتها العسكرية في سورية؟!!.

كاتب وباحث لبناني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى