ويلسون وبرنستون وبلفور والعنصرية

د. جورج جبور

لعب الرئيس الأميركي وودرو ويلسون دوراً عالمياً محورياً في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأولى وفي قيام عصبة الامم، رغم أنه لم يستطع إقناع الكونغرس الأميركي بالانضمام إليها. انه والد مبدأ عظيم الشأن في القانون الدولي، هو مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. وبتدخله العسكري عام 1917 في الحرب العالمية الأولى كان الحسم ضدّ المانيا. ويعتبر كثيرون انه في ذلك العام كانت ولادة ما يوصف بانه «القرن الأميركي».

وفي امر مصير بلاد الشام بعد الانحسار – او بالاحرى: الانكسار العثماني عام 1918، كانت له مواقف معلنة تسجل له. فقد رفض الاتفاقيات السرية، وعنوانها الكبير اتفاق سايكس ـ بيكو. ومن اجل تطبيق مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، أوفد الى دمشق بعثة من شخصين هي بعثة كينغ كرين، وصلت دمشق في حزيران عام 1919. وللتباحث مع البعثة تشكل المؤتمر السوري العام الذي نعتبره في سورية مجلسنا التشريعي الأول.

هكذا بدا الرئيس ويلسون للسوريين منقذاً ومخلصاً من آثام الاستعمار. وقد نظر اليه بهذه الصفة كثيرون منهم مفكر وسياسي وطني مرموق هو الدكتور عبد الرحمن الشهبندر. وضمن هذه الأجواء لم يكن غريباً ان تصفه جريدة حلب، التي أسّسها الحكم الفيصلي عام 1918، بأنه «ابو البشر الثالث». ومن المفيد هنا اقتطاف فقرة مطوّلة من افتتاحية العدد 22 من جريدة حلب الصادر في 20 شباط 1920:

«بحث كثير من الناس عن الأسباب التي تؤدّي الى دوام السلام وارتفاع الخصام، الا انّ الطريقة التي وضع أساسها ويلسون الكبير لتكون دستوراً عاماً في ما يستقبل من الأيام وهي ان تستقلّ كلّ امة بالنظر في شؤون نفسها وان لا يبقى من سلطان غير سلطان العدالة والاخاء العام هي الكفيلة بإبطال الحروب وتخليص الإنسانية من ويلاتها. واذا صحّ ان يسمّى نوح أبا البشر الثاني لأنه خلصهم من الطوفان، فويلسون أبوهم الثالث لأنه خلصهم من طوفان الاستعمار الجائر الذي قضى على راحة الحكام وسعادة المحكومين» التشديد مضاف من الكاتب .

لم تكن غبية جريدة الحكم اذ قالت ما سبق في وقت كانت فيه بلاد الشام تنتظر البعثة الأميركية. لا تبرير للتزلف الكبير الذي أظهرته، وهو يتضمن اعتبار ويلسون متفوّقاً في ابوته للبشر على أنبياء الله الذين باسمهم اقترنت الديانات السماوية، الا انّ «استرضاء» الرئيس الأميركي، كما توهّم كاتب الافتتاحية، كان باباً لبلوغ الاهداف الوطنية. علق السوريون على البعثة آمالهم في التحرّر والوحدة. وكان أهمّ ما طالبوا به البعثة إلغاء وعد بلفور. ما كانوا يجهلونه هو انّ الرئيس الأميركي وافق على وعد بلفور قبل إصداره مبدأه بحق الشعوب في تقرير مصيرها.

هنا يثور بالطبع سؤال خطير: متى عرف السوريون خاصة، والعرب والمسلمون عامة، بدور الرئيس ويلسون في عملية إصدار بريطانيا وعد بلفور؟ يتفرّع هذا السؤال من سؤال آخر: متى عرف عالمياً دور ويلسون في عملية الإصدار؟ تلك نقطة هامة لم أبحث فيها، وهي بالتأكيد تستحق البحث. الا انّ ما هو ثابت الآن انّ بريطانيا ما كانت لتصدر الوعد في التاريخ الذي أصدرته به لولا تلقيها موافقة مسبقة عليه من الرئيس الأميركي.

ثم انّ من الواضح الآن انّ تقرير البعثة الأميركية ما كان له أيّ حظ في ان يأخذه ويلسون بعين الاعتبار، نظراً إلى ارتباطه المسبق بالموافقة على وعد بلفور. ولما كان من المرجّح انّ ويلسون لم يكن، قبل إيفاده البعثة، على جهل تامّ بمشاعر السوريين إزاء الوعد، فمن الممكن جداً انّ البعثة انما كانت كلها محاولة خداع، هدفها تقديم ويلسون الى السوريين على نحو جميل. وقد نجحت المحاولة كما أظهر المقتطف السابق. بل وقد استمرّ نجاح المحاولة حتى الخمسينات على الأقلّ. ففي ما درسته في المرحلة قبل الجامعية في كتب التاريخ السورية المقرّرة كان مديح ويلسون سافراً، تقابله إدانة سافرة لبلفور، علماً انه لولا ويلسون لما كان بلفور، او على الأقل لما كان في التاريخ الذي به صدر. بل واذهب الى مدى أبعد فأزعم انّ صورة ويلسون ما تزال ناصعة في مجمل ما نعرفه عنه، وانّ من النادر ان نرى مؤلفين عرباً يتوقفون في بحثهم حق تقرير المصير عند موقف ويلسون المزري أخلاقياً من حق السوريين في تقرير مصيرهم. ويبقى من الضروري القول بأنّ ما ذهبت اليه يتطلب توثيقاً أدقّ من قبل دارسي التاريخ السوري وتاريخ ويلسون السياسي والشخصي.

وكلّ ما سبق تاريخ قديم لا مبرّر لي بالعودة اليه الآن في جريدة يومية لولا ما قرأته قبل أيام في عدد الثلاثاء 24 تشرين الثاني 2015 من جريدة «انترناشنال نيويورك تايمز».

في الصفحة السابعة من تلك الجريدة مقال مطوّل عن اتهامات بالعنصرية موجهة الى ويلسون بسبب أقوال فاه بها وأعمال قام بها إزاء مواطنيه الأميركيين من أصول افريقية. فمن أقواله انه يتطلع الى «كو كلوكس كلان كبير يخلص البيض من العبء الثقيل الذي تتحمّله الحكومات جراء أصوات السود الجهلة». ومن أفعاله انه طهّر الحكومة الفدرالية من السود، وتراجع عما حققه السود من تقدّم في طريق التمتع بالحقوق التي بلغوها نتيجة الحرب الأهلية. ثم انّ الرئيس ويلسون اشتهر برئاسته جامعة برنستون. قبل رئاسته لها لم يكن قد دخلها ايّ طالب أسود. واستمرّ الحال كذلك أثناء رئاسته الطويلة لها، رغم انّ جامعات اخرى توسّعت آنذاك في قبول الطلاب السود.

قالت الجريدة انّ «حلف العدالة الأسود» وقد شكله الطلاب السود في جامعة برنستون قبل عام، يتابع إيضاح حقيقة المواقف العنصرية للرئيس ويلسون، ويقدّم مطالب للجامعة هدفها تقليل التقديس الذي تظهره الجامعة لرئيسها الأسبق. وهكذا فستكون هناك أسئلة توجه الى الطلاب حول آرائهم في إزالة بعض نصب او صور ويلسون من أمكنة بارزة في الجامعة.

أكتفي بهذا التلخيص لمقال غنيّ بالمعلومات عن الرئيس الأمريكي الذي لولاه لما صدر وعد بلفور في التوقيت الذي صدر به، والذي كنا، نحن سكان بلاد الشام، ضحية حملة مخادعة نظمها الرئيس ومؤيدوه فأعلنّاه أبا ثالثاً للبشر.

وأختم بما يهمّنا اليوم ومئوية وعد بلفور تقترب. العنصريون ملة واحدة. لا يمكن لأميركي يمارس العنصرية إزاء مواطنيه من أصل افريقي إلا أن يكون عنصرياً إزاء السوريين، والفلسطينيون منهم. وما يهمّنا اليوم ان يجنّد طلبة همّهم العدالة من أجل فلسطين، وفي الطليعة طبعاً الطلبة الفلسطينيون، ان يجنّدوا أنفسهم للتواصل مع الحلف الطلابي البرنستوني، فيكون في إلقاء الضوء على موقف ويلسون المؤيد لوعد بلفور ما يفيد في وضع لمسات الكمال على وصمه بالعنصرية. ولنتذكر انّ رسالة هرتزل الى رودس في عام 1902 كان لها أثرها في إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3379 عام 1975 وبموجبه تقرّر انّ الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.

رئيس الرابطة السورية للأمم المتحدة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى