السلام المرصوف على فوهات البنادق

د. سلوى الخليل الأمين

أشعل سقوط الطائرة الروسية من قبل تركيا النار التي كانت تحت الرماد في الأجندة الروسية، فمنذ الحرب على ليبيا والخديعة التي تعرّض لها الروس، وغطس فيها الفرنسيون بتوريط أميركي واضح، ما زال الروس الذين يتقنون الحسابات الدقيقة حين تشتدّ المعارك صعداً، يتصرّفون بأعصاب باردة مستمدّة من صقيع ثلوجهم التي أعاقت كلّ الغزاة والطامعين باحتلال بلادهم، بحيث أنّ تمكنهم من الاقتصاص من الخصم، يحكمه أسلوب متأن ومدروس بإتقان، معياره النجاح المثبت حكماً في أجنداتهم الاستراتيجية.

لقد أخطأ الديكتاتور العثماني أردوغان الحساب، حين أمر سلاح الجو لديه بإسقاط الطائرة الروسية متغاضياً عن قتل طيّارها بعد وصوله بواسطة مظلته سالماً إلى الأرض من قبل عناصر ربيبته، العصابات الداعشية الإرهابية. لم يكن حسن الظنّ لدى أردوغان من حسن الفطن لديه، بل من أشدّها سوءاً وعاقبة، إذ أنّ من يلاعب النار عليه أن يتحمّل لسعات حريقها الذي سيصيب أصابعه… في المدى القريب.

فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليس الرئيس الذي من الممكن أن يتمّ التعاطي معه بهذه الخفة والخداع الواضح، الذي إنْ دلّ على شيء فإنما يدلّ على جهل بالعواقب السيئة، التي قد تنتج من جراء هذا الفعل الغبي، الذي أقدم عليه الحاكم التركي بدعم أميركي مبيّت ومدروس، هو استكمال لفصول المؤامرة الصهيونية الأميركية على سورية، من أجل إخضاعها الذي ظنّوه مسألة سهلة، لن تتجاوز الأشهر المعدودة في حساباتهم الضيقة، التي أفشلتها سورية بصمودها قيادة وجيشاً وشعباً، بالإضافة إلى حسن تنسيقها مع حلفاء أقوياء كإيران وروسيا والمقاومة.

لقد عانى الجميع في المنطقة من شرور هذه الحرب الكونية، التي أراد الأميركيون من خلالها، تنفيذ الخارطة الجديدة للشرق الأوسط الجديد، الذي يريدونه أرضاً محروقة، باستطاعتهم إداراته بوسائلهم الخاصة، التي تبيح لـ»إسرائيل» السيطرة المطلقة على الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى تمكنهم من السيطرة على منافذ البحار، وثروات الغاز والنفط العربي الذي ما زال يصبّ في خزاناتهم بأبخس الأسعار عبر تواقيع حكام ورؤساء أخضعوهم لسيطرتهم المطلقة، التي ما زالت تتحكم بمصائر عروشهم وسلطاتهم الرئاسية لتاريخه، والدليل الواضح ما حدث في قطر من تبديل وتغيير في أركان السلطة الحاكمة من الخليفة الأمير حتى رئيس الوزراء حتى أصغر موظف في القصر الأميري.

هذا الفعل المؤامراتي ما زال ساري المفعول في أجندة السلطة الأميركية، بالرغم من فشل مخططها في سورية والعراق، القائم على الأكاذيب والتلفيقات المزوّرة، التي تخرج من خلية صهيونية أنشئت لهذه الغاية، بهدف تدمير العالم العربي وتفتيته وتقسيمه دولاً متناحرة، وذلك عبر استخدامها وسائل الإعلام التي تمّ تحديد الأهداف لها منذ بداية تشغليها، وأهمّها: استثارة الشعوب والمعارضين للحكام والأنظمة، وإطلاق فبركات إعلامية متقنة تشمل الأمور السياسية والاقتصادية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والوظيفية الخ… يتمّ من خلالها تحطيم كلّ الإنجازات وتبيان السلبيات التي تدفع الشعوب إلى الثورة بغباء لا يحكمه العقل الواعي المدرك.

لهذا كانت مسألة إسقاط الطائرة الروسية من ضمن هذا المخطط الاحتيالي الجهنّمي، المستاء من الانتصارات التي يسجلها الجيش السوري في الميدان بالتنسيق والتعاون مع الطيران الحربي الروسي، هذا المخطط الجهنّمي الذي ترسمه دوائر الصهيونية العالمية، ويتمّ تمريره بأساليب خفية وناعمة، تستفزّ عنجهية الحاكم المستبدّ الحاضر دائماً لتنفيذ أوامر القوة الكونية العظمى، وهذا ما حدث لأردوغان الحالم بسلطنة عثمانية جديدة، دون أيّ حساب للمخاطر التي قد ترشقه بها روسيا، التي تسعى بكلّ قواها إلى اجتثاث الإرهاب الداعشي التكفيري من بلاد الشام.

لكن أحابيلهم الواهية لم تؤت ثمارها مع القيصر الروسي فلاديمير بوتين، الذي استطاع برؤاه السياسية المعمّقة من كسر الأحادية الأميركية، والقفز إلى حالة الندّية القائمة حالياً بقوة، بين القطبين الأميركي والروسي، لهذا كانت النتائج الفورية التي تمّ اعتمادها، وبسرعة من القيادة الروسية، هو الدخول مع الحليف السوري في مرحلة استراتيجية غير مسبوقة، أنتجت تغطية روسية عسكرية شاملة بأسلحة متطوّرة جداً، غطت مساحات الحدود الشمالية السورية، بحيث أصبح إعلان الحرب على الإرهاب مسألة ثابتة لا رجوع عنها لدى القيادة الروسية، تسعى بجدية تامة لإسقاط كلّ المراهنات والصفقات والمناورات الآيلة إلى إدخالها في حرب مباشرة مع تركيا، أو إلى حالة انكفاء عن محاربة الإرهاب.

لهذا لم يكن مخطط إسقاط الطائرة الروسية الهادفة إلى استفزاز الروس، بالبساطة المتوخاة، خصوصاً أنّ حالات المراوغة والكذب التي تمارسها السياسة الأميركية أصبحت مكشوفة، ليس فقط في الدوائر السياسية العالمية والعربية، وإنما أيضاً عند الشعوب التي بدأت تمارس الضغط على حكامها خصوصاً في أوروبا لمحاربة الإرهاب، والتعاون مع روسيا والجيش السوري، كما صرح مؤخراً رئيس وزراء بريطانيا وغيره من المسؤولين الفرنسيين والاسبان.

لقد باتت الشعوب الأوروبية وأيضاً الأميركية والعربية والعالمية، على بيّنة من عمليات التضليل التي ارتسمت خطوطها على عقولهم ومسارات حياتهم، حين أصبح الإرهاب داخل حاراتهم وبيوتهم، وباتوا على علم بأنّ الإرهاب هو صورة واضحة لما تبغيه القوة العالمية الكونية من سيطرة على شعوب القارات جميعها، من منطلق التمسك بالأحادية القطبية التي حملتها لسنين عديدة، متمكّنة من احتكار رجال السياسة في العديد من الدول، كما العديد من المنظمات الدولية والمؤسّسات التي تتوسّع أنشطتها الميدانية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنقابية والفنية وما شابه، بحيث يصبح المسؤول فيها مسيّراً لا مخيّراً، بل تابعاً لمن يدير اللعبة من الخلف، عبر الدعم المادي والمعنوي الذي يطلق بالسرعة القصوى وترتب له كلّ مقوّمات التفاعل مع شرائح المجتمع المختلفة.

لهذا بات الإرهاب اليوم المغطى بالهوية الإسلامية التكفيرية، هو جزء مكمّل لهذه المشاريع، بل هو جزء من عملية كبرى تقطع الطريق على كلّ دولة عربية، أكانت أفريقية أم آسيوية أم في أميركا اللاتينينة وأوروبا، تحاول ممارسة سيادتها بحرية مطلقة على أرضها، مع ما تحمل طاقاتها البشرية من الفكر والمعرفة، مما يخوّلها بناء دولتها على أسس سليمة وقوية، بعيدة كلّ البعد عن التطرف الديني او العنصري أو مصادرة حرية القول والتعبير، وهذا لا يتوافق مع بروتوكولات حكماء صهيون، الذين يتحكّمون بمصير العالم كله، انطلاقاً من دوائر القرار الأميركي المسيطرين عليه، توصلاً إلى نشر الإرهاب الممنهج، أضف إلى كلّ ذلك تلاعبهم بأسعار النفط وتشكيل وكالة الطاقة الدولية في العام 1973 المشرفة على توزيع النفط وتخزينه، ونهب ثروات العرب النفطية والغازية، والتحكم أيضاً بالنظام المصرفي العالمي الجديد القائم على مراقبة التحويلات بحجة عدم تمويل الإرهاب وتبييض الأموال، وهذا الفعل يعدّ من الأمور الخطيرة، التي هي من أهمّ أنواع السيطرة على العالم كله.

الأسئلة المثيرة للاستغراب كثيرة في هذه الحالة ومنها:

ـ أليس ما أثارهم من تدخل الطيران الروسي هو قصف ناقلات النفط الذي يسرقه الدواعش من الآبار السورية ويبيعونه للأتراك بأسعار بخسة، تحت نظر ومراقبة طيران التحالف الذي ترعاه وتتغاضى عنه الولايات المتحدة الأميركية؟

ـ ثم لماذا يبتلى الشرق الأوسط دون غيره من دول العالم بالحروب المتنقلة العنيفة والمدمّرة التي تقضي على البشر والحجر وتهجر الإنسان من أرضه مستفيدة من طاقاته الإبداعية المنتجة، وحاجتهم إلى اليد العاملة الرخيصة؟

ـ ثم لماذا تركوا دول الخليج تنمو عمرانياً وتنافس نيويورك بناطحات السحاب، وتضعف فيها حضارة الفكر والمعرفة القائمة على استقطاب رجال العلم والمعرفة والأدب والشعر والفنّ الراقي الأصيل، من أجل بناء حضارة معرفية متمكنة تضاهي الحضارة التي انطلقت من بيت الحكمة في عصر الخليفة العباسي المأمون الذي استقطب الفلاسفة والمفكرين والعلماء من بلاد العرب قاطبة ومن الهند واليونان وبلاد فارس، مطلقاً حضارة معرفية تزاوجت في ما بينها، مشبعة بشتى أنواع الفلسفة والنظريات الطبية والعلمية والأدبية وغيرها؟

اليوم نحن كعرب على مفترق الدروب، إما أن تنطلق الحرب الثالثة من بلاد الشام عطفاً على ما جرى من حادثة الطائرة، وما خطط له بإتقان العقل الصهيوني الأميركي المتفوّق بقدرته على خربطة كلّ مشاريع السلام بين بني البشر قاطبة، أو يرتفع أهل المنطقة إلى مستوى التفكير العقلاني، الذي باستطاعته وضع الحدّ للمطامع البشرية الطافحة بالشرّ وبإلغاء الآخرين، من خلال محورية حوارية خصوصية تعطي الحق لأصحابه، أيّ للشعب بتقرير مصيره ومن يرئسه، وليس لطغاة العالم الذين يمتلكون القوة ومقوّماتها العسكرية المتمكنة بواسطتها من خراب العالم. خصوصاً ونحن نشهد حالياً، بعد الأحداث الإرهابية في كلّ من فرنسا ومالي، أنّ المعادلات والتحالفات بدأت بالتراجع عن مساراتها الخاضعة للقوة الكونية العظمى وإرهابها المنظم الذي لا يعرف مكاناً ولا زماناً، وأنّ أصوات الشعوب أيضاً في كلّ من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا بدأت بالارتفاع من أجل دعم روسيا في موقفها المجابه للإرهاب الداعشي، ومن أجل التعاون مع الجيش السوري الذي لا بدّ من التنسيق معه، وإنْ قيلت بخجل، إلا أنّ المستقبل يحمل إشارات واضحة لجهة انحياز الأوروبيين إلى التعاون مع الروس والدولة السورية في الحرب ضدّ «داعش».

فكما لعب أردوغان العثماني لعبته الغبية، كذلك في لبنان اليوم مظاهر للعبة سياسية غبية لن تلقى الترحيب ولا التوافق لأنّ مضمونها كالذي سبق، اجترار مواقف لإثبات ذات البين، حين الجعب أصبحت خاوية، والبطون جائعة، والأفواه تنتظر لقمة العيش النظيفة، المطعّمة بالصدق والوفاء لمن هم أهل للوفاء بالعهد والوعد. حيث السلام الآمن لن يحلّ في لبنان وظهيره سورية في حالة حرب على الإرهاب الداعشي الذي له أنصاره ومؤيدوه على الساحة اللبنانية، وحين السلام اللبناني، شاء من شاء وأبى من أبى، سيبقى مرصوفاً إلى الأبد على فوهات البنادق.

رئيسة ديوان أهل القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى