إسقاط «سوخوي ـ 24» نقطة تحوّل روسية لصياغة معادلات جديدة

احتلت حادثة إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية داخل الأجواء السورية محلّ الصدارة ضمن اهتمامات وإصدارات مراكز الفكر والأبحاث الأميركية، والوسائل الإعلامية على السواء.

ورغم إعداد الأطقم البحثية والسياسية للاحتفال «بعيد الشكر» منتصف الأسبوع، أحد أيام العطل الرسمية الكبرى، إلا انّ الحادثة استحوذت على طبيعة وحجم الدراسات والأوراق الصادرة عن تلك المراكز بمجموعها.

إسقاط القاذفة الروسية في سورية

أعرب معهد كاتو عن قلقه من تداعيات إسقاط تركيا للطائرة المقاتلة الروسية عاقداً مقارنة تفضيل الغرب «لرؤية دخوله حروباً لمقاتلة إرهابيين وحروباً أخرى تشنّ ضدّ دول قائمة… مما قد يفسّر الحماس البادي لإنشاء منطقة حظر للطيران فوق سورية». ومضى في خشيته لما تجلى من «إمكانية إسقاط مقاتلات روسية، ومصرع طياريها الروس، واللذين استبعدا كمسألة افتراضية، لم تعد مسألة افتراضية بعد الآن».

شدّد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية على روايته بأنّ «ألعاب الحرب الروسية الخطرة تنتهك الأعراف الدولية، وتعرّض حياة المدنيين للخطر وتصعّد التوترات الدولية». اضاف انّ الردّ الأميركي اقتصر على «تصعيد دوريات المراقبة الجوية لحلف الناتو فوق بحر البلطيق، وفي تركيا» بإرسالها المزيد من أطقم المقاتلات من طراز «أف-15 أس». وأردف انه على الرغم من تلك التعزيزات البيّنة فإنّ «سلوك روسيا لم تظهر عليه ايّ علامات ردع».

تناول معهد كارنيغي تصعيد الصراع والاشتباك في سورية من منظار رؤيته بأنّ «التدخل الروسي في سورية مرتبط بمصالح استراتيجية، للحفاظ على هيمنتها على سوق الغاز الاوروبية». وأوضح لمن غابت عن ذهنه حقائق الصراع انّ سورية تعتبر حيوية بالنسبة إلى روسيا لثلاثة اسباب: «مدّ خط أنابيب من قطر مروراً بالسعودية والأردن وصولاً الى تركيا، ومن هناك إلى أوروبا، والذي مُني بالفشل ثانياً، مدّ خط أنابيب من إيران مروراً بالعراق وصولاً إلى سورية ومن هناك إلى بلدان أخرى الثالث مرتبط باكتشاف حقول نفطية في المياه الإقليمية السورية في البحر المتوسط، وتطويرها». محذراً من قول البعض بأنّ «الأطماع الإيرانية في مجال تصدير الغاز عامل مهمّ في الأزمة السورية، فهو الأشدّ عبثيةً، بل الزعم بأنّ التدخل الروسي في سورية يتأثّر بالمصالح في قطاع الغاز الطبيعي، مجافٍ للحقيقة».

ناشد معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى صنّاع القرار في واشنطن «الإبقاء على مرابطة حاملة الطائرات الأميركية يو اس اس ترومان في شرقي مياه البحر المتوسط عوضاً عن مضيّها في الإبحار باتجاه بحر العرب»، معللاً انّ تلك الخطوة ضرورية «لإرسال رسالة مختلفة لروسيا ونظام الأسد، ومقاومة جهود استهداف المعارضة السورية عوضاً عن الدولة الإسلامية ـ داعش». كما حذر من عدم الردّ على قدرات روسيا العسكرية لا سيما «سفنها الحربية وقاذفاتها الاستراتيجية التي تشنّ غارات داخل الأراضي السورية من على بعد بضعة الآف ميل، وشنّ القوات الروسية مناورات حربية بالقرب من السواحل اللبنانية» للغرض عينه. ومضى في تبسيط الرسالة لمن فاته الأمر من ان «التصعيد الروسي التدريجي لقوتها العسكرية يشكل رسالة استراتيجية واضحة مفادها بأنّ الرئيس فلاديمير بوتين يرمي الى التأثير على التطورات الاقليمية».

هجمات باريس

استعرض معهد الدراسات الحربية طبيعة الردود المحلية والدولية على هجمات باريس الأخيرة، مناشداً صنّاع القرار «نزع القفازات ضدّ تنظيم الدولة الاسلامية ـ داعش في العراق وسورية، وتعديل قوانين الاشتباك بما يسمح لقبول وقوع أضرار جانبية ضحايا مدنيين كما أوضح ، وتسجيل اكبر قدر من الأضرار عبر القصف الجوي السريع». واوضح انّ «ذلك ينبغي ان يشكل حقيقة ردّنا الفوري».

اوروبا مسرحاً للإرهاب السعودي

في سياق متصل، اوضح تقرير مفصل لصحيفة «الغارديان» البريطانية، 23 تشرين الثاني الحالي، ما اعتبره جذر الهجمات الإرهابية الأخيرة بأنه يعود إلى «اتفاق عُقد عام 1967 بين العاهل البلجيكي بولدوين ونظيره السعودي آنذاك الملك فيصل، الذي سمح بموجبه بإقامة دعاة سلفيّين سعوديّين في بلاده منذ عقد الستينيات» من القرن المنصرم. واوضح التقرير بناء على نصّ الاتفاق انّ عاهل بلجيكا «قدّم عرضاً للملك السعودي الزائر بأنّ بلاده على أتمّ الاستعداد لإنشاء مسجد في مركز العاصمة بروكسل ، وتسليم إدارته إلى دعاة مدرّبين في السعودية»، ونجم عنه أيضاً «تشجيع بلجيكا استقدام عمالة رخيصة من المغرب وتركيا، تحصر محور نشاطاتها الدينية في المسجد» المذكور. كما وفر العاهل البلجيكي إغراءات أخرى لنظيره السعودي بمنح «المجمع الديني إعفاء تاماً من الإيجار الشهري لمدة تصل إلى 99 عاماً، والذي افتتح أبوابه عام 1978 تحت مسمّى مسجد بروكسل الكبير، ضيف اليه موقع لنشاطات المركز الثقافي الإسلامي في بلجيكا».

أعرب معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى عن اعتقاده بانه يتعيّن على الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند «حث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إعادة تصويب محور اهداف الغارات الجوية في سورية على داعش»، مستدركاً انه «من المرجح ان تسعى موسكو الى تعزيز هجماتها على قوى المعارضة الاخرى»، واضاف في ندوة عقدها بالتزامن مع إسقاط تركيا لمقاتلة روسية انّ «الكرملين يدرك أهمية الرئيس بشار الأسد كآخر حليف عربي له والاستثمار في العلاقة الثنائية يسهم في تأمين قواعد عسكرية روسية على سواحل البحر المتوسط». ووجه ضيوف الندوة نقداً لاذعاً للدول الأوروبية «لتقاعس حكوماتها عن تعديل سياساتها علناً، وتفضيلهم دعم الجهود الروسية بما يخدم أهدافها في تعزيز وضع نظام الأسد».

تحديات «داعش»

استعرض معهد «هدسون» جملة من الخيارات المتوفرة لإلحاق الهزيمة بتنظيم داعش «على الرغم من إقلاع الحلفاء الاقليميين عن دعم جدّي» لتلك الجهود «نظراً لاعتقادهم انّ ادارة أوباما لن تبذل جهداً لصيانة المصالح الحيوية لأميركا، ويعتبرون انّ الولايات المتحدة وافقت على ممارسة دور محدود ليس إلا، وتسعى لتحقيق أهداف غامضة». ومضى بعيداً في اتهام الإدارة الأميركية نظراً إلى «الحرب الزائفة التي يشنّها الرئيس أوباما والتي توفر الأرضية الضرورية لإيران للمضيّ في تحقيق هيمنتها الاقليمية في المنطقة».

الحركة السلفية في تونس ومصر

ناقش معهد كارنيغي مستقبل «الحركات السلفية في تونس ومصر، على ضوء فشل النخب السياسية العربية توفير النموذج البديل للتغيّرات السياسية السلمية، وخروج عدد من الشباب الغاضب الى الشوارع مطالبين بإصلاحات سلمية والذين ربما سيواجهون نفاذ الخيارات المؤدّية إلى تحقيق رغباتهم». واوضح انّ النموذج «الجهادي برز كبديل لتغيير مراكز القوة في الدول العربية، مما يستدعي كلّ من النخب السياسية العربية والحركات السياسية الإسلامية بشكل خاص إعادة النظر بمواقفها السياسية مجتمعة، وكسب ثقة القسم الأكبر من الشعب الذاهب قدماً نحو تبني مفهوم الجهادية».

تركيا تقود مواجهة بغطاء أميركي

تراجع سريعاً تبرير تركيا عالمياً بالزعم انّ إسقاط القاذفة الروسية جاء عقب اختراقها الأجواء والسيادة التركية، على الرغم من اختراق الطائرات الحربية التركية المتكرّر لأجواء اليونان والعراق وسورية وأرمينيا. وأثار موجة تداعيات وردود فعل متباينة، أبرزها توفير الرئيس أوباما غطاء سياسياً لأردوغان وما سمّاه «حقه في الدفاع عن سيادة اراضيه وأجوائها»، واعتباره العمليات العسكرية الروسية «تسهم في تفاقم الأزمة، لا سيما باستهدافها قوى من المعارضة السورية تدعمها تركيا».

وقطع الرئيس الروسي بوتين الشك باليقين، صبيحة الجمعة 27 تشرين الثاني الحالي، بإعلانه انّ قيادة بلاده أبلغت الولايات المتحدة مسبقاً بمهمة طائرتها قاذفة القنابل التي اسقطها سلاح الجو التركي، واستطراداً انّ تركيا بحكم موقعها في حلف الناتو تلقت علماً بهوية الطائرة ومنطقة عماياتها.

وقال الرئيس الروسي في مؤتمر صحافي إنّ »الولايات المتحدة قائدة التحالف الذي تشارك فيه تركيا، تعرف مكان وتوقيت مرور طائراتنا، وتمّ ضربنا في المكان والتوقيت المحدّد بالضبط»، مؤكداً أنّ زعم تركيا الجهل بطائرة السوخوي-24 «عذر عبثي»، محذراً أردوغان من اللعب بالنار.

في نظر القانون الدولي الصرف، فإنّ المقاتلة الروسية «لم تقم بمهمّة عدائية تجاه تركيا»، وبالتالي فإنّ تركيا عرَّضت نفسها للمساءلة بارتكابها «جريمة حرب». ومن أبرز تداعيات القرار التركي أنه ضاعف من احتمالات مساءلة القيادة التركية وتكبيدها أثماناً باهظة في مقدمتها تعزيز الموقف الروسي وانخراطه الفعلي في سورية، جسّده الكرملين بإرسال أحدث منظومة في دفاعاته الجوية، أس400، إلى الأراضي السورية وبالقرب من الحدود التركية، وخشية تل أبيب من إمكانية تهديدها لأي طائرة تُقلع أو تهبط في مطار «اللد»، أو أي طائرة «إسرائيلية» في سماء لبنان.

كما أرسلت موسكو أحد أحدث طراداتها العسكرية، «موسكوفا»، قبالة سواحل اللاذقية والذي يعتبره حلف «ناتو» «قاتل حاملات الطائرات»، لمميزاته التسليحية المتطورة منها منظومة دفاع صاروخية من طراز «فورت»، مشابهة لمنظومة أس ـ 300، وتتميز بقدرة مناورة عالية.

تركيا حافظت، من جانبها، على لهجة التصعيد والتحدي، ولا سيما بعد إعلان روسيا تخاذ إجراءات مقاطعة اقتصادية بديهية ضدّها، للتمويه على قرارها «بتعليق» طلعات مقاتلاتها بالقرب من الحدود السورية، رافقتها موسكو بتصعيد عملياتي، من جانبها، وتحديداً في الشريط الممتد من جرابلس السورية إلى سواحل البحر المتوسط، وهي المنطقة التي صرَّح أردوغان بأنه سيعلن عن إنشاء منطقة «آمنة»، أو حظر جوي فيها.

تراجع تركيا ميدانياً، دللت عليه موسكو باستهداف حقيقي مدروس لقوافل حاملات النفط السوري المهرب باتجاه الأراضي التركية، بل نيتها الاستمرار والتدرج في ذلك لحرمان تركيا من التنعم بالمسروقات السورية. التراجع أيضاً، دليل بيّن على هوية صاحب القرار في التصعيد والتهدئة، ومؤشر أيضاً على أنّ أردوغان وطموحاته بعد فوز حزبه بأغلبية المقاعد البرلمانية مؤخراً، يبدو أبعد ما يكون عن تحقيق أي من أهدافه المعلنة بتقسيم سورية وبسط نفوذه عليها وعلى العراق في آن.

الدول المُلحقة بالتحالف مع تركيا، ولا سيما في الخليج العربي، أعربت عن ارتياحها الفوري لإسقاط الطائرة الروسية باعتباره «قراراً سياسياً وتصعيداً محسوباً» من تركيا، كما أوضح الصحافي السعودي جمال الخاشقجي، مبشِّراً بأنّ «ما قبل الحادث لن يكون كما بعده». واعتبر رئيس مركز «بيلغي إسلام» البحثي في أنقرة، أتيلا صانديكلي، قرار بلاده تهوراً سياسياً، وجاءت «هذه الحادثة لتزيد الطين بلة».

«ناتو» يحفظ خط التراجع

استجاب حلف «ناتو» لدعوة تركيا بالانعقاد الطارىء في مقره في بروكسل، متخذاً قراره بدعم أنقرة من دون التكامل مع مطلبها بتدخل الحلف عسكرياً إلى جانب أحد أعضائه، بل طالب بعض مندوبيه الرئيسيين أنقرة بـ«التحلي بالهدوء وعدم التصعيد»، والإدلاء بصريح العبارة بأنّ تركيا «لم تقم بمرافقة المقاتلة الروسية خارج مجالها الجوي»، مناشدين أنقرة عدم الاقتراب من «حافة الهاوية».

منذ دخول روسيا المباشر في القتال في سورية، استمزجت قيادتها العسكرية ردود فعل حلف الأطلسي عبر اختراق طائراتها الأجواء التركية على مدى يومين متتاليين، ما دفع قيادة الحلف إلى «التنديد بانتهاك سيادة الأجواء التركية، وانتهاكها مسرح عمليات قوات الحلف».

في هذا السياق أيضاً، حلّ الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ضيفاً على البيت الأبيض، في إطار زيارة كانت مقرَّرة مُسبقاً، فور وقوع إسقاط القاذفة الروسية، بهدف حثّ واشنطن على الانضمام الفعلي إلى جهود موسكو وتصديهما المشترك لـ«داعش»، الأمر الذي لم يلقَ تعاطفاً جاداً من قبل الرئيس أوباما. وتوجه عقب ذلك للقاء الرئيس الروسي بوتين في موسكو بغرض التنسيق العملياتي المذكور. اللافت أنها المرة الأولى التي يعرب فيها الجانب الفرنسي عن حشد الجهود جنباً إلى جنب مع الجيش العربي السوري وروسيا، لمقاتلة «داعش»، الذي يشكل «العدو الأوحد لفرنسا». حركة هولاند أدت بأردوغان إلى التغريد وحيداً خارج السرب على يد أقرب حلفائه الأوروبيين.

لعلّ الأبرز في التصريحات الفرنسية منذ جولة هولاند ولقاءاته مع أوباما وميركل وبوتين «إحجامه» عن المطالبة برحيل الرئيس الأسد، كما درجت السياسة الفرنسية عليه منذ بدء هجمات المجموعات المسلحة على الدولة السورية. هولاند تسلم «تصدُّر» الملف السوري ليس للهجمات الإرهابية الأخيرة في بلاده، بل أيضاً بحكم انشغال ألمانيا ومستشارتها ميركل بالأزمة الاقتصادية مع اليونان وتداعياتها على لحمة الاتحاد الأوروبي برمته. وعليه، نستطيع القول إنّ فرنسا ـ هولاند أضحت في المقعد الأمامي الأوروبي والغربي معاً في التعامل مع الأزمة السورية.

علاوة على ما تقدم في الساحة السورية، لوحظ تراجع أوروبي واضح، ألمانياً وفرنسياً بالذات، من تصعيد الموقف مع روسيا في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، ما يؤشر إلى أنّ المبادرة الفرنسية نضجت، بمباركة أميركية، لتجاوز مرحلة سياسية عادت على الدول الأوروبية بالضرر الاقتصادي واستشراء الإرهاب في أراضيها. حركة هولاند «المفاجئة» وتصريحاته الإيجابية نحو الجيش العربي السوري ربما أتت تتويجاً واقتداء بسلفه شارل ديغول القائل «رجال الدولة يتراجعون أمام المحن».

آفاق المرحلة المرئية

إنّ الاستناد إلى لغة التصريحات الرسمية حصراً، لا يعدو كونه أحد العوامل التي تؤخذ في الحسبان لاستقراء التحركات السياسية للقيادات المنخرطة والفاعلة في الصراع: بوتين، أوباما، هولاند، وإلى درجة أقلّ بكثير يأتي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. التصريحات التصعيدية الصادرة عن كلّ من روسيا وتركيا تؤشر إلى نضوج أزمة يحرص الطرف الأضعف على عدم الذهاب بعيداً فيها إلى نقطة التفجير.

إنّ مفصل الافتراق الروسي ـ الأميركي ليس في الموقف من شخص وموقع الرئيس السوري بشار الأسد، بل لطبيعة تعريف القوى والمجموعات الإرهابية. موسكو ودمشق تعتبران أنّ كلّ من يحمل السلاح ضدّ الدولة السورية ويرتبط بأجندة وتمويل خارجي تنطبق عليه صفة الإرهابي ينبغي اجتثاثه. واشنطن وحلفاؤها الإقليميون يوفرون الدعم التسليحي والتمويلي والغطاء السياسي لمروحة واسعة من مسميات واستنساخات التنظيمات الإرهابية، ويحرصون على إقصاء روسيا من التعرف على مواقع «المعارضات المعتدلة» واستهدافها.

بيد أنّ الأغراض المرجوة من استيلاد تلك المجموعات ومشتقاتها لم تؤتِ أكلها في إطار الاستراتيجية الإقليمية والكونية للقوتين العظميين، وتراجعت أهميتها الميدانية بالنسبة إلى مشغليها باضطراد مع بدء الدعم الجوي الروسي لقوات الجيش السوري. وأضحت عبئاً على مشغليها ينبغي إدارته وتحجيمه إلى مستوى بقائها تحت السيطرة وعند الطلب، ولا سيما بعد إعلان قادة من «لواء التركمان» مسؤوليتهم عن اغتيال الطيار الروسي أثناء هبوطه بمظلته في قرية يمادي السورية.

فرضت تفجيرات باريس الأخيرة واقعاً جديدا ومستجداً على بعض الدول الأوروبية، وتحول بعض مواقفها بالابتعاد عن دعم الإرهابيين وتسهيل دخولهم الأراضي السورية عبر تركيا. وجاءت تحركات فرنسا هولاند والتقرب من روسيا تجسيداً للتحولات الجارية في المواقف الأوروبية، وأثمرت أيضاً انحراف ألمانيا بالاتجاه نفسه، إذ صرحت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، في 27 تشرين الثاني، بأنّ بلادها قرّرت الانضمام ومشاركة فرنسا الحرب على الإرهاب «بناء على طلبها».

هذه قاعدة «ربما ضارة نافعة»، يستعيد الرئيس الروسي بوتين مركزيته في تصدر التحركات السياسية على امتداد الساحة الدولية، أسوة بما حققه من نجاح في الدورة الأخيرة للجمعية العمومية للأمم المتحدة ، بإعلانه انخراط بلاده مباشرة في الأزمة السورية.

حافظ الرئيس بوتين على «تجاهل» استقبال مكالمات الرئيس أردوغان للتحدث معه هاتفياً عقب إسقاط المقاتلة الروسية. وجاء في آخر تصريحات أردوغان أنه وجه طلباً رسمياً للقاء الرئيس الروسي خلال انعقاد مؤتمر المناخ في باريس، وتقديم الاعتذار العلني رسمياً، كما يعتقد. سبق طلب أردوغان الأخير تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو يعلن فيها استعداد بلاده «لتهدئة الأوضاع مع روسيا، والاستعداد للتعاون معها بشأن داعش».

الرئيس بوتين لم يعلن جوابه بعد، بيد أنّ الأجواء السياسية الراهنة تطغى عليها نتائج زيارة الرئيس الفرنسي لموسكو وإعلان الجانبين تبادل المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالمجموعات الإرهابية في سورية.

في هذا السياق، نعود إلى «رؤية» المحلل السعودي جمال الخاشقجي بأنّ ما سبق عملية إسقاط المقاتلة الروسية ليس كما بعدها. أردوغان وحلفاؤه كانوا يعدّون لمرحلة يوفرون فيها الدعم المطلوب «لمجموعات التركمان» للسيطرة على الشريط الجغرافي الفاصل بين الحدود المشتركة مع تركيا والأرياف السورية الشمالية، ولا سيما محافظة اللاذقية. وتعالت المراهنات على «حشر» روسيا في المستنقع السوري والفتك به.

غيرت روسيا قبل إسقاط قاذفتها «سوخوي» قواعد الاشتباك والعاملين في الساحة السورية، كما دلت عليها التحركات الأميركية المباشرة وعبر والوكلاء. تداعيات الطائرة وفرت لها ذخيرة إضافية، سياسياً وعسكرياً، لتعزيز حضورها وفرض شروطها على الوكلاء والأصلاء المعادين للدولة السورية، واستطاعت تحييد حاملة الطائرات الفرنسية من مهمّاتها السابقة بالاستعداد لقصف نفوذ الدولة السورية إلى الانضمام لجهودها في شنّ غارات جوية على مواقع «داعش».

نجم الرئيس الروسي يلمع مجدداً على الساحة الدولية وقد أصبح محور التحركات الدولية التي تطلب ودّه وتتوسل إليه، وخصوصاً في مؤتمر باريس.

ميدانياً، تضاعفت إنجازات الجيش العربي السوري والقوات الرديفة، مدعومة بالتغطية الجوية الروسية، واستعاد عدداً كبيراً من الممرات والمراكز الاستراتيجية التي خضعت لسيطرة المجموعات المسلحة لفترة قريبة. انهيار المسلحين في جملة من المواقع الحساسة بلغت حداً لم يستطع الإعلام الغربي وحليفه الخليجي تحديداً التغاضي عنه، وإنْ على مضض، وعزّزت التصريحات الغربية المطالبة بضرورة العمل الجادّ مع روسيا في محاربة «داعش».

من بين أبرز إنجازات الغارات الروسية إسقاطها نظرية أردوغان وداعميه من دول الخليج العربي، لإنشاء «منطقة آمنة، أو منطقة حظر جوي» داخل الأراضي السورية، وقلبت روسيا المعادلة لتحرم تركيا من حلمها ببسط سيطرتها الإمبراطورية وتفتيت سورية وتقاسم غنائمها مع الممولين العرب والذين يكنون العداء لسورية.

الأبعاد الاقتصادية لإسقاط القاذفة

سواء أخذ أردوغان وداعميه في الحسبان التأثيرات الاقتصادية أم لا، فإنها صبّت في المحصلة برفد الخزينة الروسية بمزيد من أموال النفط عقب ارتفاع أسعار النفط الخام في الأسواق الدولية، كما شهدت أسعار الذهب ارتفاعاً بنسبة 7 دولارات للأوقية في الأسواق العالمية.

أوروبا زادت نسبة قلقها من تدهور الأوضاع العالمية نتيجة تصرف حكومة أردوغان نظراً لدخول فصل الشتاء واعتمادها بنسبة كبيرة على توريد الغاز الروسي، ولا سيما أنّ تركيا ذاتها تعتمد عليه بنسبة 57 في المئة من احتياجاتها، علاوة على ما تحصده من واردات لمرور أنابيب الغاز الروسي المتجهة إلى أوروبا عبر أراضيها.

تصريح وزير الدفاع الروسي ألكسندر شويغو حول المقاتلة، باعتباره حادثة إسقاطها «عملاً عدائياً، يستدعي اتخاذ جملة من التدابير للردّ عليه»، تجسدت على الفور بمقاطعة السياحة لتركيا التي تعدّ المحطة الأولى للسياح الروس. كما لم يغفل الخبراء السياسيون والاقتصاديون، على السواء، تداعيات إقدام روسيا على تخفيض أو قطع توريداتها من الغاز بالكامل عن تركيا، والتداعيات الأخرى على مشاريع بناء مفاعلات نووية روسية لتركيا العام المقبل، ومشروع خط الأنابيب «ترك ستريم» لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا واليونان لتفادي مروره في الأراضي الأوكرانية.

الاقتصاد التركي في تراجع، وكذلك قيمة العملة التركية في الأسواق الدولية، ما سيفاقم من خيارات الرئيس أردوغان واضطراره إلى إعادة النظر في سياساته التصعيدية مع موسكو، يضاف إلى ذلك الخلافات والتباينات السياسية بين دول الاتحاد الأوروبي، من ناحية، ومع الولايات المتحدة من ناحية أخرى، على ضوء المخاطر الناجمة عن فتح تركيا حدودها لتدفق اللاجئين، السوريين وغيرهم، إلى الدول الأوروبية.

قرار الإسقاط في يد مَنْ؟

السؤال الجوهري الذي يتردّد على ألسنة الخبراء العسكريين والسياسيين والمراقبين الإعلاميين، على السواء، من هو الطرف صاحب قرار إسقاط القاذفة الروسية «عن سبق اصرار وترصد»، كما تعتقد روسيا الرسمية والشعبية.

الولايات المتحدة، على الرغم من تصريحاتها السريعة بدعم تركيا وتفسيرها العملية بحصرها «بين روسيا وتركيا»، رامية بذلك إلى إبعاد الشبهة عن أي دور فاعل لواشنطن، جسدتها تصريحات قادة البنتاغون واتهام القادة الروس «بالمبالغة» لمدى إنجازاتهم في سورية.

في مؤتمر الدول الصناعية الأخير في أنطاليا التركية اتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعض الدول المشاركة في القمة بدعم الإرهاب والجماعات الإرهابية في سورية، وفُهم من سياق حديثه أنه كان يقصد تركيا والسعودية، بالدرجة الأولى. بل ذهب إلى أبعد من ذلك في رفضه أي كلام يحدِّد «مصير الرئيس السوري»، متسلحاً بالموقف والقانون الدولي الذي لا يجيز التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لأي بلد.

روسيا ماضية في تصويب بوصلة الإرهاب نحو تركيا «وجيران سورية» من الدول، بتأكيد وزير خارجيتها سيرغي لافروف في أحدث لقاء ضمه مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم في 27 تشرين الثاني، التزام بلاده «تقديم كلّ المساعدات الضرورية لقيادة الجمهورية العربية السورية في ملاحقة الإرهابيين والقضاء عليهم». واتهم تركيا وقيادتها بأنها «تغامر في وضع صعب جداً، في المنطقة بشكل عام».

أمام إصرار روسيا، وعلى أعلى المستويات، أرادت تركيا تقديم اعتذار رسمي على فعلتها، وتظاهرت بجهلها هوية الطائرة وأنّ جيشها «لم يتعمد إسقاط طائرة روسية». اللافت أنّ تصعيد لهجة الخطاب السياسي التركي جاء مواكباً لوصول قوات أميركية خاصة إلى مدينة عين العرب ـ كوباني بحجة «تدريب ودعم الأكراد».

الدعم الأميركي لتركيا، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وإيلاؤها التدخل في ملفات إقليمية حساسة في الصراع الاستراتيجي الدولي، وتوفيرها الغطاء السياسي الفوري، يؤشر إلى أنّ قرار إسقاط المقاتلة الروسية نجم عن «تخطيط» مسبق نميل إلى تعريفه بالمدروس بعناية، تعززه التصريحات المتناقضة لتركيا حول هوية الطائرة، من ناحية، والزعم بتوجيهها سلسلة تحذيرات متتالية دحض صدقيتها مساعد الطيار الروسي الناجي من الهجوم.

معالجة حادثة إسقاط المقاتلة ضمن موازين القوى الدولية وصراع الولايات المتحدة للهيمنة وإقصاء القوى الصاعدة، وعلى رأسها الصين وروسيا، يعزز الاعتقاد بأنّ صاحب القرار لا تنطبق عليه مواصفات دولة من الدرجة الثانية، كتركيا، والتي لا تقدر على تحمُّل نتائج فعلة لها انعكاسات إقليمية ودولية بمفردها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى