لماذا تزداد الظاهرة التكفيرية تجذّراً وانتشاراً؟

إبراهيم علوش

سارعت فرنسا وبريطانيا وألمانيا بالانضمام لحملة قصف داعش جوياً في العراق وسورية، فيما صعّدت الولايات المتحدة من قصفها للتنظيم معلنةً عن البدء بإرسال قوات خاصة أميركية إلى العراق ومنطقة الجزيرة شمال شرق سورية، بأعداد محدودة مبدئياً مرشحة للتزايد، بينما يؤكد البيت الأبيض أن الولايات المتحدة لن تتورط في معركة برية ضد داعش على غرار العراق وأفغانستان! ولا يحتاج المتابع للكثير من الخيال ليدرك أن الاندفاع الناتوي المتجدّد باتجاه العراق وسورية، بعد أكثر من عام على بدء التحالف الدولي حملته الجوية الفاشلة لاحتواء التنظيم الإرهابي، لا تتعلق بداعش بمقدار ما تتعلق بالتمدّد الروسي شمال غرب سورية ومظلة الدفاع الجوي هناك التي تحرسها صواريخ الـ»أس 400» وغيرها من الأسلحة المتقدمة، مما يمثل حركة روسية إلى الأمام على رقعة الشطرنج الكبرى تتطلب احتواءً من قبل حلف الناتو من جهة شمال شرق سورية والعراق، بغض النظر عن ذريعة داعش، من خلال تعزيز قدرات الناتو الجوية والصاروخية في الهلال الخصيب أسوة بشرق أوروبا.

تمكَّن داعش، في الآن عينه، من نقل إرهابه بسهولة نسبية، بالنظر إلى كل الاحتياطات الأمنية المتخذة دولياً ضده، إلى قلب باريس وكاليفورنيا ولندن والطائرة المدنية الروسية في صحراء سيناء، كما عزّز تواجده في ليبيا في سرت ومحيط درنة وفي اليمن في محافظتي أبين وعدن خصوصاً ، كما عزز مواقعه في أفريقيا من خلال مبايعة «حركة الشباب» الصومالية وجماعة «بوكو حرام» النيجيرية، ناهيك عن تمدّد نفوذه شمال مالي، ودارفور في السودان، وبلدان المغرب العربي، وعن التحذيرات الروسية المتكررة من تمدد داعش لدول آسيا الوسطى، وانضمام آلاف القوقازيين للتنظيم، وعن التقارير التي تحدّثت منذ الصيف الفائت عن تمدد داعش في منطقة جنوب شرق آسيا، من دون أن نتطرق لتنظيم «القاعدة» وانتشاره، والتنظيمات التكفيرية الأخرى التي لا تتبع لداعش أو القاعدة!

التصعيد الإرهابي لداعش خلف خطوط «العدو البعيد» في العواصم الغربية والبلدان البعيدة، بعد المجابهة المباشرة لـ»العدو القريب» في سورية والعراق ومصر، كما درج على تصنيفهما في أدبيات منظّريه، يمكن تناوله من منظور عسكري بحت كمحاولة لتأليب الرأي العام في تلك الدول ضد تصعيد الحملة عليه من قبلها، وكإشغالٍ لها، على نمط «حرب العصابات» المدينية، بنسختها التكفيرية المتوحشة، عن تصعيد حملتها ضده. لكن مثل هذا الانتقال السهل إلى استهداف «العدو البعيد»، الذي تمّت تسميته هكذا للتقليل سياسياً من أولوية استهدافه، مقارنة بالجيوش والدول العربية، يهدف أيضاً لاستعراض عضلات تنظيم داعش الاستراتيجية في القدرة على الوصول للبطن الرخوة للدول الغربية وغيرها. وهو ما يزيد من جاذبيته وسحره لحواضنه الشعبية، فضلاً عن فائدته الإرهابية. وقد اعتمدت هذه القدرة الاستراتيجية لا على نقل قوات خاصة أو عناصر استخبارية من «دولة الخلافة» في الرقة والموصل إلى البلدان المستهدفة، كما هي الحال عادةً، بل على قدرة داعش وأخواته على اجتذاب عناصر محلية من البيئة نفسها سبق لها، أو لم يسبق، أن تطوّعت في صفوف داعش أو القاعدة، بتأثير إعلامي ما بعد حداثي وسائل التواصل الاجتماعي والفيديوهات الوثائقية القصيرة ، أو بتأثير عقائدي تكفيري، أو الاثنين معاً.

ما دام مثل هذا التأثير الإعلامي الجماهيري والعقائدي مستمراً، فإن انتشار داعش وأخواته يظل مرشحاً للازدياد، ولن تزيده حملات القصف الجوي والإجراءات الأمنية إلا تفاقماً مع توسع قاعدة المتضررين منها في صفوف الحاضنة الشعبية نفسها التي يستهدفها داعش وأخواته. لدينا نارٌ تكفيرية مشتعلة الآن، وقودها الناس والحجارة، والعالم برمّته يبحث عما يقيه منها، فيما تزداد توسعاً ولظىً. وهي نارٌ باتت تأكل من أشعلوها ممن ظنوا أن بإمكانهم هندستها وتشكيلها لتصيب أعداءهم فحسب، ومن المفيد هنا أن نتذكر أن هذا الغول التكفيري هو من صنْع الإمبريالية الغربية أساساً وأدواتها الرجعية العربية منذ أيام الحرب الباردة. ولنضع بعض النقاط على الحروف هنا:

– أولاً، السبب المباشر لتمكّن داعش من إقامة قاعدة لها في الرقة هو الدعم الناتوي والرجعي العربي للعناصر التكفيرية في مواجهة الدولة السورية، كما أشار مايكل فلين، رئيس وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية السابق، بعد الكشف الصيف الفائت عن وثائق للوكالة تعود للعام 2012 بموجب قانون حرية المعلومات، حذر الإدارة الأميركية فيها من أن «الثورة السورية» المزعومة تحركها عناصر تكفيرية وسلفية وإخوانية وقاعدية مدعومة من الغرب وتركيا وبعض الدول الخليجية، ومن الخطر إقامة إمارة سلفية شرق سورية، من دون أن يؤدي ذلك لتخفيف الدعم الأميركي لتلك العناصر!

– ثانياً، لم تبدأ الدول الغربية بالتفكير بالتدخل ضد داعش إلا بعدما تجاوز سورية وسيطر على الموصل، واستمرت الدول الراعية للإرهاب بتقديم كل أنواع الدعم بعدها لهذيان ما أسمته «المعارضة المعتدلة»، التي سُميت كذلك لأنها نسبة تركيز الأسيد التكفيري في شرايينها تقل ببضع نقاط مئوية عنه مما عند داعش!

– ثالثاً، الحاضنة الاجتماعية والمالية والعقائدية للنهج التكفيري لا يمكن فصلها عن: أ النسخة الوهابية من التديّن الإسلاموي في مملكة آل سعود، ب الاحتياطيات المالية الضخمة التي وفّرها البترودولار لاستخدام التديّن الوهابي الإسلاموي ضد حركات التحرّر الوطني والقومي والمنظومة الاشتراكية منذ الحرب الباردة، فالمشكلة ليست في الصحراء التي تنتشر عبر كل الوطن العربي، بل في البترودولار الوهابي.

– رابعاً، لا يمكن فصل انتشار موجة التديّن المتطرف عالمياً عن تعثر مشروع الحداثة وتراجع الإيديولوجيات المرتبطة به، ولا يمكن فصلها عربياً عن تراجع المشروع القومي النهضوي، فالغرب وأدواته يدفعان ثمن الإصرار التاريخي على إبقاء المنطقة العربية أسيرة ما قبل التاريخ، والتكفيريون هم أعداء الحداثة، بكل نسخها، وليسوا طلاب ديموقراطية أو حرية أو نتاج التهميش السياسي والاقتصادي، كما يتوهم البعض.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى