من يخمد الفتنة التي تشتعل بسبب التكفير الداعشي في بلادنا؟

د. رفعت سيّد أحمد

انّ الحديث عن تاريخ الإسلام وتجاربه الكبرى، ومآثره، ليس هروباً من مشكلات الواقع، بل هو ولوج إليها، ما امتلكنا منهجاً واعياً للتعامل، منهجاً يقوم على تعظيم القيم الإيجابية التي قامت عليها تلك الامبراطوريات والدول، ومحاصرة وإنهاء القيم السلبية التي لا تفيد الأمة، في هذا السياق من الفهم يأتي حديثنا عن الدولة دولة النبي وتجارب خلفائه الكرام وتأسيسهم لدولة تدعو في دستورها الى الحرية من غير قتل، والى المساواة والعدالة، والى قيم التسامح المذهبي، والقدرة العملية على درء الفتن، وتقديم فقه سياسي وحضاري متجاوز للعصبيات، هذا الحديث إذا ما تمّت قراءته بعقلانية ووعي في اللحظة الراهنة وتحدّياتها، سوف يصبح سلاحاً فعّالاً في مواجهة التحدّيات الجديدة، وسيصبح ولوجاً فعلياً الى أدقّ مشكلات واقعنا العربي وأكثرها سخونة وعلى رأسها مشكلة الفتنة المذهبية التي تكتوي العديد من بلادنا العربية بها، خاصة مع ابتلائها بـ»داعش» وأخواتها من تنظيمات الغلوّ والتطرف.

تجارب وتقارب في هذا السياق من الفهم، علينا ان ننتبّه الى ما يقوم به أعداء التقارب المذهبي بين أبناء الأمة، وخاصة خلطهم المتعمّد بين الدين والسياسة بمعناهما السطحي، وكيف أنّ ذلك هو الذي يؤدّي الى الفتنة، فوفقاً لما يرى علماء الإسلام فإنّ ثمة خطورة من تلك الفتنة التي بعثت اليوم من بطون التاريخ، ونقصد بها تكفير فقهاء السلفية الوهابية التي هي المرجعية الرئيسية لـ»داعش» و»القاعدة» وأخواتهما، انّ استدعاء الفتنة اليوم جاء من عبث السياسة الخليجية والتركية التي تموّل «داعش» بالمال والفتاوى التكفيرية وبخاصة بالدين، لن يستفيد منه سواء العدو الأميركي و»الاسرائيلي»، ومن يرى غير ذلك فهو إما جاهل وإما مغرض.

الأمر الآخر الذي نشير إليه هنا، وفي أجواء فتنة «داعش» وأخواتها هو غياب «ثقافة الاختلاف»، وهنا نذكّر بما تعلّمناه من أئمتنا تلك الجملة الرائعة «اختلافهم رحمة»، أيّ أنّ الإسلام له من السعة في قبول الآراء المتعددة، ما يجعل العقول المتفاوتة والأزمان المتفاوتة والأماكن المبتاعدة، يتوفر لها أكثر من فهم للنص الواحد. وكلنا نعلم القصة الشهيرة حين قال النبي لأصحابه وقد عزم على الخروج لقتال بني قريظة: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في قريظة»، فخرج المسلمون وحين اقترب موعد المغرب، انقسم المسلمون فريقين: فريق تأوّلَ كلام النبي وقال: إنما قصد النبي تعجيلنا للخروج، والأفضل أداء الصلاة في الطريق حتى لا يخرج وقتها، وفريق آخر فهم الأمر على حرفيته، فصلى العصر حين وصل قريظة بعد غروب الشمس، وهنا لم يردّ النبي فعل أيّ من الفريقين.

تفتيت الأمة بسبب الصراع المذهبي وسهولة التكفير

لقد أكد العديد من المفكرين والعلماء أنّ ثمة مؤامرة لتفتيت الصفّ الإسلامي من الداخل، وهذا أمر لا ريبة فيه، ولم يعد مجرد خطط مستترة، بل أصبحت المسائل معلنة، تقال في المعاهد العلمية والجامعات الكبرى، ولا أدلّ على ذلك من كتاب صمويل هنتغتون القديم والخطير المعنون بـ»صدام الحضارات»، وهنتنغتون ليس شخصية هامشية، بل هو مدير معهد «جون أولن» للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفارد، أيّ شخصية مهمة في الفكر والسياسة الأميركية، ومع ذلك فهو ينظر إلى صدام بين الحضارة الغربية والإسلام انّ مسألة التكفير مسألة خطيرة، وذات جذور فكرية، ولا باس أن نعرّج على هذه الجذور الفكرية سريعاً، لننتقل إلى اللحظة الحاضرة.

يرتبط التكفير بفرقة الخوارج، وأكثر البحوث التي تناولت قضية التكفير، ظهرت حول فرقة الخوارج، لأنهم يمثلون نوعاً من فساد الفكرة، لا فساد الضمير، ومعنى هذا أنه ينبغي أن نحذر من أن نؤذي من فساد الفكر، بمعنى أنّ مسلماً لو وقع في أيدي الخوارج، ولم يبايع أميرهم كانوا يقطعون رأسه، فإذا قال لهم أنا مشرك، مستجير أخلوا سبيله، بموجب قوله تعالى «وإن أحداً من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه»، فانظر معي إلى فساد الفكر الذي يضطر معه عالم كبير لادّعاء الشرك حتى يأمن القتل! لقد وضع لنا النبي قواعد عامة لا ينبغي العدول عنها…

أولاً: صحّ في الحديث أنّ أحد المشركين في إحدى الغزوات قال لا إله إلا الله، فقتله أسامة بن زيد، فلامه النبي في ذلك وقال لأسامة: أقتلته وقد نطق الشهادتين؟ قال له: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من السيف؟! أيّ خوفاً من القتل وليس اقتناعاً أو إيماناً فقال له النبي الكلمة المشهورة: هلا شققت عن قلبه؟! وفي رواية: ما تصنع بـ لا إله إلا الله؟! إذن مسألة التكفير مسألة خطيرة!

قال النبي: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإنْ قالوها فقد عصموا دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم علي الله»، والقضية أنّ حكم التكفير تترتب عليه مجموعة أحكام لاحقة، فإذا حكم بكفر إنسان ما، كان معنى ذلك خروجه عن الملة، والتفريق بينه وبين زوجه، وألا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأن تعلن الأمة البراءة منه، في منظومة شديدة الخطورة تترتب على حكم التكفير، حتى أنّ ابن تيمية في رسالة من رسائله حلّل هذه المسألة، فقال لو أنّ إنساناً ندت عنه مقولة كفرية تمثل خروجاً عن الملة، لا يحكم بكفره حتى تتمّ مناقشته وإزالة الشبه من ذهنه، وإقامة الحجة عليه، فيما يعرف في التكييف الفقهي بفكرة «الاستتابة» إذن لا ينبغي أن تكون المسألة يسيرة فنبادر إلى التكفير ونغلو فيه، فمسألة التكفير مسألة خطيرة، حتى إنّ بعض الناس قد ياتون ذنوباً يراها غيرهم موجبة للخروج من الملة، وسأضرب مثلاً من واقع التاريخ الاسلامي:

حاطب ابن أبي بلتعة، ثبت ـ وهو صحابي جليل ـ أنه سرّب نبأ خروج المسلمين لفتح مكة تسريب أسرار عسكرية يمثل جريمة خيانة عظمى ومع ذلك لم يصدر عن النبي شيء يفهم منه مطلقاً أنه نقل حاطب أبن أبي بلتعة إلى مسمّى «الكفر».

نعود إلى مسألة وحدة الأمة التي هي ضرورة اليوم، ونسجل هنا تعجّب العديد من العلماء الذين تساءلوا لماذا ينقسم المسلمون مع أنّ الأصل واحد، والقبلة واحدة، والصوم واحد، وهناك قواسم تجمعنا بأكثر مما تفرّقنا، وهنا أستدعي مقولة هامة أوردها الإمام القرطبي في تفسيره، وأراها تصلح أساساً لما أسمّيه «فقه الائتلاف»، وبعضهم يسمّيه «فقه الاختلاف»، قال: «ما زال أصحاب النبي يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون»، فما دام الخلاف في الفروع والتفاصيل فلا مشكلة على الإطلاق، وتأمّلوا معي طبائع أصحاب النبي، كان فيهم المترخص كابن عباس، وكان فيهم من يأخذ بالعزائم كابن عمر، ولكن كان النبي يمثل «خيمة موحدة تجمع بين الاتجاهين»، لأنّ هناك أصولاً عامة تجمع المترخص والأخذ بالعزيمة، هذا الفقه نحتاج إلى تعلّمه وتعلم آداب الحوار، وهنا أذكر مقولة رائعة للإمام الشافعي عقب إحدى مناظراته، حين أخذ بيد مناظره في ودّ وحبّ، متسائلاً: «ألا يستقيم أن نكون إخوة ولو اختلفنا في المسألة؟

إلى أين تأخذنا الفتنة؟

نريد أن نعرف إلى أين تأخذنا فتنة السنة والشيعة؟ بل بين السنة والسنة كما نرى في نموذج «داعش» الذي لا يكفّر الشيعة فقط بل وكلّ فرق السنة ممّن ليسوا على مذهبه الوهابي! اننا وبدقة شديدة أمام ثغرة يحاول أعداؤنا النفاذ إلينا منها، ونذكر هنا عبارة أوردها الدكتور محمد عمارة – عندما كان باحثاً مستقلاً وغير إخواني او وهابي كما هو حاله اليوم بعد ثورة 30/6/2013 وسقوط حلفائه من الإخوان – في كتاب له بعنوان «الطريق إلى اليقظة الاسلامية»: «كان السني يناظر الشيعي والشيعي يناظر السني في المسألة، ولا يمنعهما هذا أن يشتركا في محلّ تجاري واحد»، كان ذلك في عصور تثمّن فيها الأمة الاختلاف وتستطيع أن تجعله ضمانة لقوة الأمة، لأنّ الاختلاف ثراء فكر، ولكننا اليوم عاجزون عن الوصول إلى نقطة المؤالفة بين المختلفين كما فعلت دولة النبي في المدينة.

يبقى أن نسأل في ختام هذه الدراسة عن علاقة التكفير بالمذهب الوهابي، وعلاقة المذهب الوهابي بالأسرة السعودية الحاكمة، وكلّ من الاستعمار البريطاني قديماً والاميركي الإسرائيلي حديثاً، واعتبار الإسلام هو «العدو الأخضر»، بعد القضاء على «العدو الأحمر» والذي يقصد به السوفيات، رغم أنّ القضاء علي المعسكر الاشتراكي لم يكن ليتمّ دون استغلال المذهب الوهابي واستخدامه في حشد الشباب لقتال الروس، كما يقال استراتيجياً «في بطنهم الرخو» في أفغانستان وما حولها، وذلك باسم الإسلام؟!

ثم نسأل أيضاً ومعنا العديد من العلماء والمفكرين: العرب الذين آلمهم الموقف السلبي من قبل بعض الساسة والفقهاء، الى متى صمت المؤسسات الدينية الوسطية، مثل الأزهر، عن فكر «داعش» وأخواتها الذي يشيّعه بيننا بعض السلفيين دون اعتذار ومراجعة رغم الثورات التي حدثت في مصرنا / وتحديداً ثورة يناير/ كانون الثاني و30 يونيو/ حزيران؟ أين الأزهر… سؤال رغم كلّ الضجيج لا يزال يبحث عن إجابة حاسمة…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى