أدلّة كثيرة على أن «داعش» يخسر في العراق وسورية ويُجبَر على التراجع ويتحلّل باضطراد

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

ما أن لاحت في الأفق علائم هزيمة تنظيم «داعش» بفعل التقدّم الميداني الذي يقّقه كل من الجيش العربي السوري بمساعدة القوّات الجوّية الروسية والمقاومة اللبنانية، والجيش العراقي المدعوم بـ«قوات الحشد الشعبي»، حتى انبرى الكتّاب الأميركيون ليعزوا هذه الإخفاقات التي يُمنى بها تنظيم «داعش»، إلى الضربات التي يشنّها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

هذا الأسبوع، اخترنا تقريراً نشره موقع «Real Clear World» الأميركي تحت عنوان «مستقبل داعش: القاعدة 2.0؟»، والذي يمعن في تحريف الوقائع، وإن مرّ خجلاً على نجاح الضربات الجوّية الروسية في دكّ حصون «داعش».

ولكن التحريف لم نَعنِ به أنّ التنظيم الإرهابي في أحسن أحواله والتقرير يريد إظهار العكس، إنما كمن التحريف فقط في نَسب الهزائم التي يمنى بها «داعش» إلى ضربات التحالف الأميركي.

وإذ نضع التقرير بين أيدي القرّاء الأعزّاء، فإننا نترك لهم التحليل، والعودة بالزمن لسنوات قليلة مضت، وعليهم أن يحكموا هم.

«مستقبل داعش: القاعدة 2.0؟»

تناول الرئيس الأميركي باراك أوباما في خطابه الأخير حالة الأمة الأميركية، وخصّص بعض الوقت لمناقشة التهديد الإرهابي الذي تتعرض له الولايات المتحدة الأميركية. وقد شعر في أعقاب هجوم سان برناردو، بأنه ملزم بالإعلان عن التالي: بينما تستطيع مجموعة «داعش» إلحاق الكثير من الضرر بالمدنيين والممتلكات في الولايات المتحدة، فإنهم في الواقع، لا يهدّدون وجودنا القومي. لكن من المؤكد أن الهجمات الإرهابية الجديدة سوف تُفضي إلى تعطيل الحياة الأميركية.

لكن، ما مدى قوة «داعش» الحقيقية؟ وهل لا تزال آخذةً في التوسّع؟ هل تدوم خلافتها المزعومة في سورية والعراق؟ وهل ستصبح مناطق حكمها حقيقة واقعة على مستوى الحياة الجيوسياسية الدولية؟ هل ما تزال إيديولوجيتها الجهادية قوية ومقنعة كما كانت ذات مرة؟ هاكم تقييماً واقعياً للوضع.

إن «داعش» هو في الحقيقة – مزيجٌ من ظاهرتين. وللتوضيح، سنقوم باستخدام مصطلح «داعش» للإشارة إلى الحركة الجهادية في المجمل، كما إلى المناطق التي تُسمّى «الخلافة»، والتي تسيطر عليها المجموعة في سورية والعراق.

تؤكد الأدلّة في العراق وسورية أن «داعش» يخسر، ويُجبر على التراجع، ويتحلّل باطّراد. لكن، يبدو أن مشروع هزيمته عملية بطيئة وشاقة، وحتمية أيضاً بشكلٍ لا لبس فيه. ومن جهة أخرى، وفي ما وراء سورية والعراق، فإن «داعش» يبقى تهديداً إرهابياً خطيراً، من المحتمل أن يتضاعف تأثيره يوماً بعد يوم.

فقد «داعش» من الناحية الجغرافية الكثير من المناطق التي كان قد احتلّها سابقاً -منها 40 في المئة في العراق، وحوالى النصف في سورية. وسوف تتقلّص أكثر بالتأكيد في الأشهر القليلة المقبلة، خصوصاً بعد تدمير موارده المهمة العسكرية والمالية والبشرية. وقد تكون الإثارة المبكرة التي ارتبطت بإيديولوجية «الخلافة» ومصداقيتها في طور التلاشي عند كثيرين من مقاتلي «داعش» ومجنّديه المحتملين ـ حتى لو بقي ذلك صعب القياس. وربما توحي الهجمات التي تُشنّ بِاسم المجموعة في الخارج بأن الحماسة لا تزال قويةً. ومع ذلك، يبدو منطقياً في حالة «داعش»، مثل أيّ حركة قائمة على الحماسة المتعصبة، أنه كلّما طال أمد إحباطها كلّما ارتكبت مزيداً من العنف الذي لا معنى له، تقلّص حجم الإقناع الذي ينطوي عليه زعمها بأنها طليعيّة في مواجهتها للعالم الجديد. وربما يكون قد انخفض عدد المقاتلين الإرهابيين المتطوعين في سورية، بينما يأخذ عددهم في الفروع الأجنبية للمجموعة بازدياد.

ثمة منظمات جهادية من نحو 20 بلداً أعلنت ولاءها لتنظيم «داعش» وزعيمه أبي بكر البغدادي. لكن هذا الامتداد الظاهري الجغرافي لـ«داعش» ليس كما يبدو في الواقع إذ ليس حقيقياً وثابتاً عسكرياً، أو مدعّماً استراتيجياً، ولا هو يتكوّن من أراضٍ متجاورة متصلة. ويبدو أن الهجمات الإرهابية زادت عبر «الشرق الأوسط الكبير» وفي داخل أوروبا، إضافة إلى الهجوم في سان برناردو في الولايات المتحدة. لكن معدّل تكرار الهجمات وكثافتها وما إذا كان «داعش» هو الذي ينظمها فعلاً ما تزال بعيدة عما توقعه الناس ذات مرة. لا حرب يمكن أن تُنال بالإرهاب وحده، وسيكون التهديد الذي يشكله «داعش» مختلفاً، خصوصاً مع اعتبار «داعش» في الأساس، شبكةً إرهابية فضفاضة.

مستقبل «داعش»

تتراكم أدلّة متعدّدة الآن، على أن تنظيم «داعش» في سورية والعراق يتجه نحو الانقراض. فهو يتعرّض للضرب والتفكيك ـ تدريجياً إنما بعناد ـ على الرغم من بعض التقدّم الذي يحرزه هنا وهناك. وحالما يتراجع وضعه كجيش جيوسياسي عاكف على التوسع الإقليمي والشمولية الدينية، سيتحول «داعش» إلى نوع من «القاعدة 2.0»، بمعنى أنه سيغدو شبكة إرهابيةً عابرةً للحدود، وقد يكون أكثر اتساعاً، وشمولاً وخطورة من تنظيم «القاعدة» باستثناء هجمات 11 أيلول ، لكنه لن يكون قوة ـ شبه دولة ـ تهدّد بزعزعة استقرار الشرق الأوسط كاملاً.

ربما يؤسّس «داعش»، مثلما فعلت «القاعدة 2.0»، كيانات إقليمية محلية جديدة في المناطق النائية ونضرب مثالاً على ذلك، الجهود المبذولة لإقامة متجر محليّ للتنظيم في ليبيا. لكن أيّ مؤسسة من هذا القبيل ستكون عرضةً للهجوم المتواصل، ومن غير المرجح أن تنجو مع مرور الوقت. فقد رأت القوى الخارجية الكبرى أن الدول الفاشلة والمناطق غير المحكومة في الشرق الأوسط الكبير، باتت تشكّل خطراً كبيراً على مصالحها الحيوية الأساسية. وبالتالي، تتحرّك هذه القوى في اتجاه تجميد الحروب الأهلية وفرض النظام على المناطق… وسورية هي المرحلة الأولى.

وفي ما يلي بعض المؤشرات الأخرى على اندثار «داعش». فقد قتلت ضربات الطائرات من دون طيار عدداً لا يُستهان به من كبار قادة «داعش» العسكريين فضلاً عن آلاف المقاتلين. وربما بلغ مجموع المقاتلين الأجانب الذين يسافرون إلى سورية والعراق للانضمام إلى «داعش» على المدى السنوات القليلة الماضية نحو 36.000. ومع ذلك، وبالنظر إلى الآلاف الذين قتلوا أو أصيبوا أو انشقوا، فإن أعداد عناصر «داعش» اليوم قد لا تزيد على 20 إلى 30 ألفاً من المقاتلين الذين يشكّلون نواته الأساسية. وبالنظر إلى غياب أي نشاط عسكري يُذكر في الأشهر الأخيرة، فقد يتضاءل عدد مقاتلي «داعش» إلى حدّ كبير.

إضافة إلى ذلك، فقد طُرد «داعش» مؤخراً من عدد من المدن والبلدات الكبيرة التي كان قد استولى عليها مثل تكريت، وسنجار، وبيجي، والرمادي . كما استُعيدت أو دُمّرت مواقع استخراج البترول وتكريره وشحنه، خصوصاً في مجمّع بيجي النفطي الرئيس. ودُمّرت أيضاً المنشآت الرئيسة لتجهيز وبناء الشاحنات المفخخة والانتحارية قبل بضعة أشهر وأُوقفت صواريخ «ميلان» الموجّهة المضادّة للدبابات التي قدّمتها ألمانيا لقوات البشمركة التركية في وقتٍ سابق . وجرى نسْف مخابئ كبيرة للأسلحة ومستودعات الذخيرة. إضافة إلى تقليص تمويلها الدولي بعدد من الطرق. تشير التقارير إلى قصف وتفجير مستودع يحتوي على ملايين الدولارات النقدية في الأسابيع الأخيرة . ودمّرت الغارات الجوية لقوات التحالف على الرقة والمدن المحيطة الأنفاق الأرضية والمستودعات. وهذا كلّه يشير الى أن المعلومات الاستخبارية الفعّالة آخذة في ازدياد.

من المفترض أن تكون المناطق الحضرية المتبقية التي يسيطر عليها «داعش»، مثل الفلوجة، مليئة بالعبوات الناسفة المتفجرة والمباني المفخّخة، والأسلحة الأخرى، تماماً كما حصل في الرمادي. وستشكل مدينة الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية بعد بغداد، ميدان معركة أكثر تعقيداً حتى من الرمادي نفسها. لكن «داعش» يضع نفسه في جميع المناطق في موقع الدفاع، وليس الهجوم. ولو لم تكن قوات التحالف، سواء من خلال الضربات الجوية أو عمليات القوات العراقية والكردية والإيرانية البرية، مهتمة كثيراً بالتقليل من حجم الخسائر المدنية، فسيكون من الممكن تدمير «داعش» في غضون بضعة أشهر.

يعدّ افتقار «داعش» إلى الشواغل الإنسانية، هو الذي يجعل المضي قدُماً في هزيمته أبطأ وأكثر وعورة.

هناك نقطة تحوّل كبيرة لناحية اتجاهات المعركة الكبيرة. فأثناء فقدان سنجار والرمادي على مدى الشهرين الماضيين، لم يكلّف قادة «داعش» أنفسهم حتى مجرّد تعزيز مقاتليهم المقاومين هناك، بل قاموا بالتخلي عنهم تماماً، تاركين خلفهم رسائل عاطفية حماسية تذكّرهم بالرمز الجهادي: «إما النصر أو الشهادة»، أي الموت في ساحة المعركة. وفي الحقيقة، أنه عندما تجاهل مقاتلو المجموعة هذا الرسائل وقفلوا عائدين إلى الموصل ظنّاً منهم أنهم قد يبلغونها بسلام، جمعهم «داعش» في ساحة عامة وأعدمهم حرقاً.

وبينما كان يفقد السيطرة على الرمادي، وبدلاً من محاولة تعزيز قواته فيها، حاول «داعش» شنّ هجوم مفاجئ ضد قوات التحالف التي تحاصر الموصل، آملاً في كسر الحصار الكردي/ العراقي من نواحٍ ثلاثة في المدينة، التي شكّلت غزوة «داعش» الرئيسة في العراق. وكان أن خاض هذا الأخير هجوماً غير معتاد وغير مُجدِ بالمرّة، بالمركبات المفخّخة والهجمات المتعاقبة، حيث تمكّنت قوات البشمركة الكردية من ردّه على أعقابه في غضون يوم واحد فقط.

لم يحقّق «داعش» بشكل عام، أيّ انتصارات عسكرية تُذكر على مدى الأشهر الستة الماضية. فقبل مضيّ وقت قصير، قام بشنّ هجوم وحشيّ نمطيّ على مدينة ومحافظة دير الزور في سورية لاستكمال احتلالهما. هجومٌ عنيف راح ضحيته نحو 200 إلى 300 من جنود الحكومة، ورجال الميليشيات والمدنيين، فضلاً عن اختطاف المئات من الرهائن المدنيين. ونحن ما زلنا مترقبين نتائج هذا «الانتصار»، الذي من غير المرجّح أنه سيغيّر شيئاً في اتجاهات المعركة بشكل عام. لكن، ثمة تطوّراً هناك غير متوقع، وهو أن معركة دير الزور هذه، أثارت انتباه العالم الخارجي بنسبة لا تكاد تُذكر فقد ركّز الإعلام جلّ اهتمامه على الاتفاق النووي الإيراني والإفراج عن الرهائن الأميركيين، ما يعني أن وحشية «داعش» لم تعد الآن صادمة وبربريّة كما كانت من قبل.

الطريق إلى قهر «الخلافة»

مع ذلك، تشير حادثة دير الزور إلى اتجاه آخر من اتجاهات المعركة: الفرق بين سورية والعراق. ففي العراق، اتّضح مسار وطبيعة ميدان المعركة. لم تعُد القوات العسكرية المتنافسة تعيش حالة الفوضى والانشقاق، بل تكتّلت جميعها ـ وبشكل مطّرد ضد «داعش». ويجري الآن كتم الأحقاد والطموحات الطائفية، والتغاضي عنها من أجل سحق «داعش». وتشير تقارير الأخبار إلى أن الآلاف من مقاتلي العشائر السنّية، وبدعم من حكومة بغداد التي يقودها الشيعة، أخذوا يندمجون أخيراً مع «قوات الحشد الشعبي» التي يقودها الشيعة.

وعلى النقيض من ذلك، لا تزال سورية ميدان معركة فوضوياً يضمّ الكثير من القوى المتنافسة والمتصارعة في ما بينها: قوات نظام الأسد ميليشيات «الثوّار» بمن فيهم «جبهة النصرة» المرتبطة بتنظيم «القاعدة» ، والتي تقاتل بعضها بعضاً كما تقاتل الأسد الأكراد الذين يقاتلون تركيا، ويقاتلون أيضاً «داعش»، و«داعش» نفسه. وتشير غارات التحالف الجوّية المنسقة، التي تشنّها الطائرات الأميركية والروسية والفرنسية والبريطانية، إلى اتفاق القوى الخارجية على ضرورة وأهمية إيقاف الحرب السورية. وفي الوقت عينه، يعجز أيّ طرف أن يكسب عسكرياً. لا بل أنّ تدمير «داعش» قد يساهم في حلّ عقدة الأطراف الأخرى المتناحرة إذ طالما أنه باقٍ في تلك المنطقة، فسيكون أيّ وقف لإطلاق النار في سورية مرهوناً بقراراته وممارساته الوحشية.

يبيِّن الفرق بين سورية والعراق الطريقة لهزيمة «داعش» وتفكيكه. فاستراتيجية «داعش»، التي تُدعى «إدارة التوحّش»، تهدف إلى خلق الفوضى، ثمّ استغلالها لخدمة مصالحه الخاصة. سيجري ترويع «القوات العسكرية المعارِضة»، وكذلك المدنيين بأساليب القتال الوحشية. وستُنزع الشرعية عن الحكومات لعدم تمكّنها من حماية مواطنيها. ويصبح «داعش» هو الحامي الرئيس للسكان المحليين بعد ترويعهم ومعاملتهم بوحشية وبلا رحمة. ويتجلّى هذا كلّه ـ في واقع الأمر ـ في المناطق التي يحتلّها التنظيم. علماً أنّ «داعش» يتعرّض للاقتلاع من هناك الآن، ولو أن آثار ذلك تظهر بوضوح في العراق أكثر منها في سورية.

الحاجة إلى تقييم واقعي

على وسائل الإعلام الأميركية تقديم صورة أكثر واقعية ممّا تعرضه الآن من أخبار مليئة بالإثارة، والتي تضخّم نجاحات «داعش» وتُضعف ـ في الوقت عينه ـ من معنويات الشعب الأميركي. لا شكّ أنّ قادة «داعش» هم أكثر تشاؤماً من الأميركيين في شأن آفاق تنظيمهم، وبقدر أكبر ممّا يعرضه التلفزيون الأميركي. وعلى سبيل المثال، بينما كانت الرمادي تسقط، أرسل البغدادي رسالة صوتية يحثّ فيها مقاتليه على إكمال رحلتهم الجهادية، ذكر فيها: «إن دولتكم تبلي حسناً، على الرغم من فقدانها عدداً من المناطق التي غزتها». وأضاف: «إن الله يختبر المؤمنين الذين عليهم أن يُعانوا المزيد من الهزائم قبل النصر النهائي». وتلك قصة قديمة لطالما روتها القيادات التي تكون مؤسساتها في طور الانهيار.

ولكن، ماذا عن «داعش» في الخارج؟ وماذا عن الإعلانات الغريبة عن ولاء المنظمات الإرهابية الأجنبية له؟ ماذا عن معقل ليبيا القوي الذي يحاول إقامته؟ ألا يبيّن ذلك أن «داعش» يتجه نحو العالمية بخطى ثابتة، مهدّداً بإشاعة الفوضى حتى في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية؟

لا شكّ في أن الهجمات التي تشنّ بِاسم التنظيم مدهشة للغاية، إلا أنها لا تشكّل إشارات على أن «داعش» يهدّد بالاستيلاء على السلطة في تلك الدول الرئيسة. إنها مجرّد مضايقات وحشية للشعوب والحكومات، بقدر ما هي وسائل مساعدة لبناء الروح المعنوية للتشدّد الإسلاموي الكوني. لكن، وباستثناء بعض الاحتلالات المحلية داخل الدول الفاشلة، فلن يكون «داعش» قادراً على إعادة إنتاج ما غنمه من مكاسب في سورية والعراق.

كما أنه من غير المرجّح أيضاً وجود ذلك القدر من التماسك العسكري والصلات السياسية بين «داعش» وأيّ من المنظّمات الأخرى التابعة له في الخارج. كما لا يمكن بأيّ حال من الأحوال، إطلاق العنان لمخيلتنا كي تتصوّر أنّ «داعش» هو الآن بمثابة شبكة إرهابية كونية منظّمة واحدة مفردة، وذلك على النحو الذي تتضمّنه تفسيرات وسائل الإعلام التي تقول إن «داعش» قام إما بـ«تنظيم، أو إلهام» المتشدّدين في الخارج. ويشكل هجوم سان برناردينو، الذي روّع الأميركيين وقلب ـ على نحو مثير للدهشة ـ الحملة الرئاسية رأساً على عقب في البلد الأكثر قوّة على هذا الكوكب، المثال الأوضح على ذلك. فقد شمل الهجوم شخصين، زوجين شابين، وبالتالي خلية نائمة صغيرة، ثنائيّ قرّر بنفسه طبيعة الهدف، والتوقيت، والأساليب. وتبقى الإصابات في هذا الهجوم متواضعة ـ على الرغم من فظاعتها ـ قياساً على ميزان المجازر الإرهابية في المنطقة.

أما في ما يخصّ ليبيا، فهي لا تجسّد آمال «داعش» بتأسيس قاعدة جديدة له أكثر توسعاً في سِرت، إنما انسحاباً وتراجعاً للتنظيم من مقرّاته في الرقة، والتي ترى القيادة أنها قد تفقدها قريباً. وإذا كان الوضع غير المحكوم في ليبيا يسمح لـ«داعش» بالنجاح ويحتمل كثيراً ألا يسمح له بذلك ، فإن النتيجة ستكون نوعاً من «حكومة في المنفى»، والتي لم يعد «بلدها الأصلي» موجوداً من الأساس.

إذاً، وبالنظر إلى المسألة من منظور واسع، فإن لمجموعة «داعش» مصيراً، وليس قدراً. أي أن مصيرها هو أن تلحق بمسار كل الحركات الشمولية السابقة، فتصبح طيّ النسيان، كمثل حال الرايخ الثالث النازي، الذي كانت الحرب الشاملة تشكل بالنسبة إليه جوهر الوجود. إذ ليس من المرجّح أن يتمكّن «داعش» من إحداث ثورة في تاريخ العالم. والفارق الرئيس بينه وبين الرايخ حتمية إيقافه باكراً جدّاً، بل أبكر ممّا قد يتصوّر.

سوف يُستتبع زوال «داعش»، سواء بالضجيج أو الحفيف، بالهزيمة الكاملة أو التفكيك من الداخل، بعد فترة من الاحتواء. وفي كلتا الحالتين، قد تكون هزيمته ـ في نهاية المطاف ـ ذاتيّة، حيث يسعى قادته إما إلى «الشهادة» فيقتل بعضهم بعضاً، أو إلى الهرولة بعيداً، بحثاً عن مخرج.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى