رسالة حزب الله إلى الولايات المتحدة الأميركية

روزانا رمّال

النظرة العامة إلى المشهد العربي الديمغرافي تأخذ منحىً تقسيمياً وخلافياً من دون أن يكون ذلك قد تمّ عبر وسائل تقنية بما يوحي أنّ هناك قراراً بالالتزام بهوية طائفية أو عرقية أو مذهبية بالمعنى التفتيتي للكلمة، ما لعب دوراً كبيراً في حضّ مراكز الدراسات الأميركية على المزيد من الأبحاث عن قدرة تنفيذ مشاريع التقسيم في المنطقة التي تنعم بتعدّد مذهبي يسمح بالتعويل على تقسيمها، خصوصاً ما يندرج ضمن الديانة الإسلامية وأبرزها الطائفتان الشيعية والسنية.

البريطاني – الأميركي برنارد لويس، أحد أبرز الباحثين من أصول يهودية لدراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، شكّل بمفاهيمه الخاصة بالتعاطي مع الدول العربية وشعوبها حالة لطالما سعت اليها السياسة، وهو أحد أهمّ علماء الشرق الأوسط الغربيين. لويس قدّم للاستخبارات الأميركية دراسة مفصّلة عن أهمية تطبيق التقسيم في المنطقة العربية، وقد كشفتها وزارة الدفاع الأميركية بداية «الثورات العربية» عبر مجلة الوزارة مرفقة مع خرائط تشرح شكل التقسيم والدويلات تتراوح بين أربع دويلات وما فوق لكلّ دولة على أساس اثني وعرقي وديني، حسب طبيعة الدولة في العالم الإسلامي بالتحديد.

مهام لويس البحثية بدأت بدراسة عرب القرون الوسطى، لا سيما تاريخ السوريين وأبرز ما اعتبره بين مواقفه المثيرة للجدل كان أنّ مجزرة الأرمن ليست إلا أعمالاً مؤسفة بين العثمانيين والأرمن، ناكراً المجزرة، وهو عُرف بانحيازه الكبير للمشروع العثماني.

الصعود التركي في «ثورات الربيع العربي» الأخيرة يؤكد تأثر الأميركيين بأهمية ان تتربّع تركيا مجدداً على رأس العالم الإسلامي في إقرار غير مباشر بأنّ سلطات البلاد العربية يجب أن تندثر تدريجياً، من هنا فإنّ الغوص في أبحاث برنارد لويس تؤكد أنّ الفوضى لن تستثني السعودية في الأيام المقبلة، ولن تكون بمنأى عن الأحداث الإرهابية الكبرى وتحسم مسألة مراعاة الولايات المتحدة للحليف السعودي الخليجي الذي سحبت من تحته البساط من اليوم الأول لتوقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب، بالتالي فإنّ مسألة حسم الموقف السعودي في جنيف لن تكون العامل الأكبر في تغيير مسار الحلّ السياسي، بل إنّ الكلمة تركية أميركية بامتياز لدى المحور المقابل لسورية وحلفائها.

برنارد هنري ليفي، باحث آخر بميول «إسرائيلية» صهيونية، يتبنّى أبحاث برنارد لويس، وقد ظهر في أوائل «الربيع العربي» في ميادين عدة وما لبث أن اختفى بعد تقهقر المشروع التركي الإخواني بشكل خاص، والتقسيم أحد أبرز رؤاه من أجل «إسرائيل أكثر أمناً» في الشرق الأوسط.

ظهور تنظيم «داعش» تحديداً جاء متأخراً عن «ثورات الربيع» وتكشف فور وضوح انكسار المشروع التركي، وما كان ليظهر لو استطاعت تركيا فرض معادلتها الكبرى في المنطقة، وهو اليوم بديل عن انتصار سوري إيراني برّاق وتسليم المعادلة الشرق أوسطية إلى دول كبرى بديلة عن تركيا وحلفائها.

التنسيق التركي السعودي اليوم في سورية أحد أبرز أوجه إعلان فشل المشروع التركي الذي فرض خصومة بين الطرفين في مصر بداية، وفي سورية قبل أشكال التعاون ومخارج تشكيل تحالفات لـ«مكافحة الإرهاب»! وهي بشكل أدقّ ليست إلا تحالفات لإعادة لملمة أدوات المشروع المتصارعة للوصول إلى طاولة مفاوضات واحدة.

حزب الله في لبنان أحد أبرز وأخطر القوى على مشاريع من هذا النوع، وهو أيضاً أحد أبرز من تقع على عاتقهم مسؤولية الانجرار إليها والتعاطي معه على هذا الأساس كان استراتيجية كبرى عند واشنطن التي حاولت استدارج الداخل ضدّه وشحذ الهمم لبث الفرقة بين القوى السياسية المتناحرة، خصوصاً القوى السنية التي يمثلها بشكل أكبر تيار المستقبل، وكان اللعب على هذا الوتر جارياً منذ عام 2013 ودخول الحزب المعركة الميدانية الكبرى عسكرياً في سورية، فتمّ تقديمه في الداخل إعلامياً وسياسياً على أنه السبب الأساس وراء انتشار الإرهاب في لبنان والجماعات المسلحة، وبأنّ دخوله إلى سورية جلب الويلات الى لبنان وأشعل التفجيرات. وفي تلك المرحلة لعبت الاستخبارات الرئيسية في المنطقة دوراً هاماً في خلق مجموعات سنية متطرفة، برز منها الموقوف أحمد الأسير الذي تحدّث بعد إلقاء القبض عليه عن دعم من آل الحريري في بداية المعركة، وعن تنصّل منه بعد هروبه إثر معركة عبرا وفشل مخططه، وهنا تأكيد جديد على أهمية اللعب على وتر استدراج الحزب عبر قوى سنية متطرفة من جهة وقوى سياسية يتواجه معها يومياً في المحافل السياسية.

يرسل حزب الله اليوم إلى واشنطن بعد قدرته على تلقف المشهد الخطير في السنوات السابقة رسالة تفيد أنّ استدراجه إلى فتنة مع قوى الداخل السني أصبح شبه مستحيل اليوم وغداً ودائماً، وأنّ مشاريع من هذا النوع أصبحت مكشوفة ولا تشكل خطراً على لبنان، واليوم يقدّم الحزب رسالة جديدة يؤكد فيها على عدم نية الحزب في الاستفراد بالسلطة بعد الانتصارات التي حققها ولا يزال يحققها في سورية ميدانياً، وبعد انتصار حليفته إيران في المحافل الغربية نووياً، وهو يقدّم التزامه ووقوفه خلف موافقة تيار المستقبل على انتخاب حليفه العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية جواباً حاسماً وشافياً للأميركيين والمصطادين في المياه العكرة.

حزب الله يقطع أيّ طريق على الفتنة المتنقلة في الشرق الأوسط كان ممكناً أن يكون لبنان أبرز ملاعبها. وفي وقت دقيق كهذا يحافظ الحزب على جلسات الحوار مع تيار المستقبل بمساعدة الرئيس نبيه بري الذي تشير المعلومات إلى أنه ساهم أكثر من مرة في ترويض «المستقبل» وإنقاذ جلسات الحوار بين الفريقين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى