تكامل مار مخايل ثبُت… ووظائفه الإصلاحية لم تحِن بعد

هتاف دهام

تجاوز تفاهم كنيسة مار مخايل الذي جمع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ورئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون في 6 شباط عام 2006 سلسلة من المحطات الصعبة والمتنوّعة، من حيث طبيعة التحدّي، ومن حيث معمودية النار التي جعلت التفاهم يعبرها بسياقات زمنية على مدى السنوات العشر، وأن يصمد رغم الاهتزازات الكبيرة التي مرّت على هذا الوطن، والعواصف الكبرى التي اجتاحت المنطقة ودول الإقليم، والتحدّي الهائل الذي واجه المسيحيين وجودياً في المنطقة خلال هذا العقد، مع دخول العامل التكفيري الإرهابي كشريك أساسي في صناعة الأحداث والوقائع، وعودة المنطقة إلى زمن الذميّة والجزية في التعاطي مع هذا المكوّن، وصولاً إلى عمليات الاجتثات و«الترانسفير» في جغرافيا واسعة من العالم العربي، حيث مسحت مكونات من أرضها، بعمليات القتل والخطف والتهجيرك التي تعرّض لها الأيزيديون في سنجار، وترانسفير مسيحيّي العراق وسورية والتعرّض لمقدّساتهم ومؤسساتهم الدينية في الرقة، معلولا، صدد، جسر الشغور، قرى أرياف إدلب واللاذقية وحماة، وادي النصارى، والموصل ومناطق سهل نينوى، وتصفية وجودهم في فلسطين، وعمليات «التهجير القسري» للأقباط في مصر. ورغم التحدّيات والمخاطر وما يتعرّض له المسيحيون في المنطقة، بقي الوجود المسيحي في لبنان في الموقع الأكثر أمناً وأماناً، وإنْ بمعايير نسبية، وبرز الحديث في ظلّ السنوات العشر من التفاهم على المشرقية المسيحية، خاصة في ظلّ الخذلان التاريخي الذي مارسه الغرب على مسيحيّي المنطقة، والذي وصل إلى حدّ التآمر على وجودهم لمصلحة أموال البترودولار الخليجي أو الاستثمار غير المباشر على الإرهاب التكفيري وأحياناً المباشر. فكان المسيحيون مع بقية الأقليات هم العنوان والضحية.

عاد منطق استهداف الأقليات ومشروعه في هذا العقد ليطلّ برأسه. في قلب هذه العناوين كلّها كانت لرئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون قراءة مبكرة في مقال في صحيفة «الحياة» في عام 1993 يتحدّث فيه عن خطر التكفير المقبل على المنطقة وتهديده لكياناتها وأوطانها، وفي صلب رؤيته المشرقية يقول: إنّ مسيحيّي هذه الأرض هم أبناؤها الحقيقيون، وهم مكوّن أساسي في قلب الشخصية الحضارية لهذه المنطقة، وهم جزء من صناعة تاريخها، وإنّ الغرب المسيحي هو عنصر طارئ وخطير على الوجود المسيحي المشرقي في المنطقة.

لقد كان لوثيقة مار مخايل التي يحتفل «الأصفر» و«البرتقالي» بيوبيلها العاشر، وجهها اللبناني، لكونها أول حالة عابرة للتماس المسيحي الإسلامي وكاسرة لهذا الخط الذي أحدثته الحرب الأهلية، إضافة إلى كونها تفاهماً عبر من لحظية التحالفات المؤقتة الآنية المصلحية إلى عقد من الزمن، ومفتوح ليثبت عقوداً أخرى، وأثبت أنه تجاوز أيّ تحالف آخر في التاريخ السياسي الحديث للبنان منذ الاستقلال وقبله، ولم يتأثر بالتحديات الأميركية و«الإسرائيلية» والخليجية والتكفيرية، التي خاضها السيد والجنرال، والمترافقة مع استخدام كلّ تناقضات الواقع اللبناني من الطائفي، إلى المذهبي، إلى المصلحي، إلى الشخصي فإلى السياسي، وابتداع عناصر تفجير من خارج المألوف بعشرات الوسائل، فشلت أمام صمود ما جمعته كنيسة الشياح.

لقد كانت السنة الماضية حبلى بأحداث وامتحانات أثبتت أن العلاقة بين حزب الله والتيار الوطني الحر صلبة، التي تجلّت في الرؤيتين، اللتين جسدهما القائدان «سماحة السيد» و«سيادة العماد»، كما ينادي الرجلان بعضهما بعضاً، إلى درجة أنها حطمت أخطر المبتكرات والمبتدعات للنفاذ عبر الهيكل إلى أسس العلاقة ومحاولة مسّها من الداخل، فالتحالف الذي مرّ بحقبات بالغة الصعوبة ومفصلية أثبت أنه لم يكن عرضياً، بل كان استراتيجياً ومبنياً على مبادئ وأسس تتسم بالديمومة والتجدّد مع قابلية التكيّف وفقاً للمتغيّرات، والأهمّ مما أظهرته المتغيّرات من طبيعة علاقة الرابية حارة حريك، أنه لم يكن تحالفاً ضدّ الآخرين بل كان وعاء واسعاً لاستيعاب الآخرين وضمّهم إليه. وبهذا البعد يمكن وصف ما جمع الأمين العام لحزب الله والرئيس المؤسس للتيار الوطني الحر بتحالف وطني يقتضي مصلحة وطنية جامعة لكلّ الفرقاء السياسيين، ولم يكن يوماً عدوانياً ضدّ الآخر يعتمد نهج الاستئثار والمكابرة، وهذا ما يظهر التناقض الكلي بين ذهنية الرايتين الصفراء والبرتقالية من جهة وذهنية التيار الأزرق من جهة أخرى.

لقد اختبر الطرفان في موضوع رئاسة الجمهورية فلم يتأخر رئيس تيار المستقبل سعد الحريري بعقد تفاهم مع رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية، مع ما سبّبه ذلك من شرخ في صفوف 14 آذار في مقابل عدم تخلي السيد نصرالله عن دعم رئيس تكتل التغيير والإصلاح، برغم أنّ المرشح المنافس لجنرال الرابية هو «بيك بنشعي»، الحليف التاريخي للمقاومة وتجمعه بحزب الله علاقة تعود في طبيعتها وعمقها إلى أضعاف أضعاف ما أوجدت المتغيّرات من علاقة مع التيار العوني.

وبخلاف اعتقاد البعض أنّ مشهدية معراب أحرجت حزب الله، فإنّ السيد نصرالله انطلاقاً من ثقته بالعماد عون لا يخشى من سلوكياته، فالعلاقة بينهما قائمة على الصداقة والصدق والثقة والأساسيات، كما يؤكد السيد الذي يقبل ما يقوله له الجنرال. فعندما حصل اللقاء كان حزب الله على اطلاع مسبق على خلفيته ومضمونه وأهدافه، بدءاً من تواصل إلى إعلان نيات وصولاً إلى دعم الترشيح، ولم يجد أيّ تناقض مع التفاهم، وما يؤكد ذلك إعلان معاون الأمين العام لحزب الله الحاج حسين خليل يوم السبت الماضي، بعد لقائه الجنرال عون على رأس وفد بمناسبة مرور 10 سنوات على تفاهم مار مخايل «أنّ ما جرى في معراب هو خطوة صحيحة في مسار طويل، ونأمل أن تعمّم ليس فقط في الوسط المسيحي بل أيضاً إلى كلّ الوطن».

لقد شكّلت وثيقة مار مخايل قفزة كبرى في البعد الاستراتيجي للتحالف، على اللحظة السياسية الحالية، خاصة في ظلّ الحديث الأخير للأمين العام لحزب الله في شأن حصرية الرئاسة الأولى، وبدأه بقول للإمام زين العابدين بن علي «خير مفاتيح الأمور الصدق وخير خواتيمها الوفاء» قاصداً بذلك تأكيد الوفاء والالتزام مع «العماد» الذي يمثل قيمة تتجاوز أيّ اعتبار سياسي بالنسبة إليه شخصياً ولحزبه، وتشديده على أنّ عون سيبقى مرشح الحزب للرئاسة إلا إذا سحب هو ترشيحه، وعاد خليل وأكد من الرابية أنّ لدينا مرشحاً طبيعياً ودائماً اسمه العماد عون، وعندما تتوفر الظروف الملائمة لانتخابه رئيساً للجمهورية، سنكون أول الوافدين إلى المجلس النيابي. واليوم هناك عمل كثير، ويجب أن نعمل على النقطة المركزية، ليس فقط مع فريق 8 آذار بل مع الأفرقاء كلهم في البلد».

حفل العام الماضي بالأحداث التي أكدت رسوخ التحالف بين الرابية والضاحية الجنوبية، ومن هذه التطورات، الانتخابات الرئاسية الداخلية التي خاضها التيار الوطني الحر لأول مرة في تاريخه وتوّجت بتزكية وزير الخارجية جبران باسيل رئيساً للتيار البرتقالي وانسحاب منافسه النائب ألان عون. وعلى عكس كلّ التكهّنات بقي سياق التفاهم مع حزب الله على ما هو عليه. فباسيل هو مَن تولى مهمة التفاوض على الوثيقة التي وقعها الجنرال مع حزب الله، وتربطه علاقات جيدة ووطيدة بمسؤولي الحزب بغضّ النظر عن بعض المآخذ عليه في التفاصيل الداخلية التي تذوب أمام المواقف الاستراتيجية، لا سيما الأخيرة منها في الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي، كما يقول مصدر مطلع في 8 آذار لـ»البناء».

في السنة التاسعة من الاتفاق التاريخي، أعلن الجنرال عون تطوّر العلاقة مع حزب الله من التحالف إلى التكامل الوجودي، وعشية اليوبيل العاشر أكد الجنرال أنه والسيد نصرالله واحد. وعليه فإنّ العلاقة التي تعمّدت في كنيسة مار مخايل قبل عدوان تموز 2006 كانت إيذاناً بمعمودية جديدة من التلاحم والرسوخ، فهي تدرّجت من لقاء فتفاهم فتحالف استراتيجي فتكامل وجودي ازداد رسوخاً هذا العام، حتى بات استحقاق الرئاسة الأولى على أهميته صغيراً أمام ما تمثله هذه الثنائية بين هذين المكونين من معنى استراتيجي يبقى هو الأساس والمدماك للبنان المستقبل.

واجهت العلاقة بين الرابية وحارة حريك تحديات كبرى من حرب تموز 2006 إلى اعتصامات وسط بيروت، مروراً بـ7 أيار وتشكيل حكومات الرؤساء فؤاد السنيورة وسعد الحريري ونجيب ميقاتي وتمام سلام. وإذا كان حزب الله يتجاوز الكثير من القناعات لمصلحة العلاقة المشتركة ويعتبر أنّ العلاقة مع التيار بوصفها ملفاً يتقدّم على أيّ ملف داخلي آخر، وهذا ما يفسّر تكييف حزب الله للكثير من الملفات لمصلحة تمتين العلاقة مع الوطني الحر، فإنّ الجنرال عون أظهر ثباتاً في علاقته مع المقاومة ووفر غطاء مسيحياً لها، سواء في العدوان الإسرائيلي منذ عشر سنوات أو في محاربة التكفيريين في سورية، وثبُت وصمد رغم الكثير من الضغوط الدولية والإقليمية، رغم ما عُرض عليه من تسويات لتغيير موقفه من المقاومة فتلبّى مطالبه، إلا أنه لم يستجب لها بل ضرب بها عُرض الحائط.

لم تنته بعد وظائف التكامل الوجودي بين «الأصفر» و«البرتقالي»، وما ينتظر مستقبل العلاقة بينهما هو التطوير الإصلاحي لبنية الدولة، بخاصة أنّ البند الرابع من الوثيقة يتعلّق ببناء الدولة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى