دعاة الحروب يحرّضون للردّ على النجاح الروسي في سورية

تصدّرت نتائج الانتخابات التمهيدية في ولاية ايوا معظم المساحات الاعلامية، رافقتها بعض الابحاث الخاصة بالتطورات الميدانية في سورية وشمالها بشكل خاص.

درجت الاوساط الأميركية على الاستخفاف بالقدرات العسكرية الروسية بعد نهاية الحرب الباردة، ومستوى الطمأنينة الذي اصابها نتيجة السياسات المدمّرة التي انتهجها الساسة الروس السابقون، خاصة في عهد بوريس يلتسين.

سيستعرض قسم التحليل الهيبة المتجدّدة للعسكرية الروسية، خاصة لفشل مساعي العديد التغاضي عنها في دعم الجيش العربي السوري والإنجازات الحاسمة التي تحققت على ايدي الطرفين.

الولايات المتحدة، من جانبها، لم توقف جهودها في تحديث ترسانتها العسكرية والإخلال ببعض الاتفاقيات الخاصة بالحدّ من معدل حيازتها للأسلحة النووية، واستدرجت بعض أهم اقطاب حلف الناتو لتحمّل بعض عبء الكلفة الاقتصادية وزيادة الإنفاق العسكري، لمحاصرة روسيا خلف حدودها، على الاقل.

تناقض الميزانية والدين العام الأميركي

افادت احدث الإحصائيات الرسمية الأميركية بارتفاع هائل لمعدل الدين العام على الخزينة الأميركية اذ بلغ 19 تريليون دولار 19.000 مليار مع انقضاء شهر كانون الثاني الماضي، متجاوزاً التوقعات السابقة برفع سقف الدين العام الى 18 تريليون دولار. من أبرز المؤشرات انّ مجموع الدين العام أضحى يعادل 105 من مجموع الإنتاج القومي الأميركي السنوي. وأصدر مكتب الميزانية التابع للكونغرس توقعاته بمعدّلات الدين انها ستبلغ 22,6 تريليون دولار عام 2020 و29,3 تريليون عام 2026. أهمية هذه المقدمة تكمن في الجدل الأميركي المتصاعد حول مخصصات الإنفاق العسكري مقابل مزيد من تقليص الإنفاق على برامج الرعاية الصحية والتعليمية.

وزير الدفاع آشتون كارتر صرح أمام النادي الاقتصادي في واشنطن، 2 شباط الحالي، انّ ميزانية الدفاع للعام 2017 المقترحة ستبلغ 582.7 مليار دولار، وتشمل زيادة 50 في معدّل بند الانفاق على «محاربة داعش»، البالغ 7.5 مليار دولار.

زعم معهد المشروع الأميركي انّ موازنة الدفاع السنوية «ستبقى ثابتة دون إضافات في المستقبل المنظور» اذا لم يتدخل الكونغرس لرفدها بمزيد من الأموال. وحث صناع القرار على رفد موارد ميزانية الدفاع للاستثمار في «مجالات التقنية المتطورة… رغم العجز المنظور لميزانية عام 2017 بمعدل 10 الى 15 مليار دولار». واضاف انّ قراءته لميزانية الدفاع لعام 2017 تشير الى «تضمّنها تخفيضات اساسية وهامة للبرامج والمخططات القائمة».

إرشادات للرئيس المقبل

قدم معهد أبحاث السياسة الخارجية جملة إرشادات للرئيس الأميركي المقبل تخصّ ملامح السياسة الخارجية، مناشداً «ايجاد معادلة توازن بين طاقم مجلس الأمن القومي والدوائر الرسمية الاخرى مثل وزارتي الخارجية والدفاع… وينبغي تقليص عدد أعضاء مجلس الأمن القومي من مستوياته الراهنة». واوضح انّ البيت الابيض في عهد الرئيس أوباما «قلد نزعة فرط الادارة المركزية التي اتبعها فريق الرئيس نيكسون وكيسنجر لشؤون السياسة الخارجية دون التحلي بالاستعدادات الجيو سياسية». وشدد على انّ تطبيق السياسات الرسمية «ينبغي ان يوكل للهيئات والدوائر ذات الاختصاص وتمتلك ادوات التنفيذ… ورفدها بمجموعة من النخب ذات الاختصاصات المختلفة باستطاعتها التعاطي مع عدد من القضايا في آن واحد». اما المراكز الرسمية الرفيعة «فينبغي ان تتوفر لأصحابها خبرة سياسية معتبرة في عالمنا المعاصر».

نموذج الديمقراطية الأميركية

أعرب معهد كارنيغي عن مشاعر الإحباط العامة لفشل نموذج الديمقراطية الأميركي داخل البلاد، بينما يمضي ساستها في نشدان تطبيقه على منطقة الشرق الاوسط. واوضح انّ «اوجه قصور الحكم الديمقراطي داخل الولايات المتحدة تضخمت عددا وكثافة، بدءاً من عجز الحزبين الرئيسيين العمل معا بإيجابية، الى استيلاء مجموعات من نخب جماعات الضغط على المسار التشريعي، وامتداداً الى العيوب الصارخة في النظام الجنائي». واضاف موضحاً للجمهور الأميركي انّ الصورة النمطية للولايات المتحدة «كمنارة عالمية للحكم الديمقراطي اضحت خارج التاريخ الى حدّ كبير.. ويتساءل مواطنو العالم لماذا يعتقد الأميركيون امتلاكهم اجوبة لعيوب التجارب الديمقراطية للآخرين». وزاد في تساؤلاته ان العالم بمجمله ينظر الى النموذج الأميركي بتجلياته الراهنة ابرزها «تفكك السلطة التشريعية التي تحظى سوى بقليل احترام وهيبة، تعصب للنظام السياسي، استقطاب حاد يشل الحركة، تمويل مقلق للحملات الانتخابية، مهاترات تسجيل الناخبين، تدني مستوى اقبال الناخبين، او انتهاك الحريات من قبل القوى الأمنية؟»

سورية

لفت مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الانظار الى «زحف تنامي الانخراط العسكري الأميركي» المباشر في سورية والعراق، موجها سهام انتقاداته للاستراتيجية الأميركية التي «لم تقدم على تحديد توجه شامل لحروبها في سورية والعراق، او الاجابة على كيفية تعاملها المقبل مع التوترات بين الاطراف العربية والكردية والتركية، او مواجهة النفوذ الإيراني، او التواجد الروسي.. وتداعيات موجات اللاجئين والمهجرين وضررها البالغ الذي لحق باقتصاد كل من العراق وسورية». وشدد على ان ساسة الولايات المتحدة «لم يتحلوا يوما بامتلاكهم استراتيجية موثوق بها لبسط الاستقرار في العراق او سورية.. بل ان الولايات المتحدة لا تزال تعاني من قصور استراتيجي شامل يحقق هدف الحاق الهزيمة بالقوى الاسلامية المتطرفة، حتى وان استطاعت الاطاحة بالدولة الاسلامية من دولتها النموذجية».

استعرض معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى السبل التي يتعين على الغرب النظر فيها والتي من شأنها «الحاق الهزيمة بالنموذج المغري للدولة الاسلامية»، مؤكدا ان جذر الأزمة هو اعلامي وكيفية التعاطي معه. واوضح انه «ينبغي على واشنطن تبني توسيع نطاق نظم التراسل غير الحكومية والمنظمات ايضا في الشرق الاوسط، بغية انشاء نظام تراسل مستدام ضد الجهاديين السلفيين». واوضح انه لا يجوز «التغاضي عن بحر استقطاب السلفيين.. وحفز الشركاء الاقليميين التصدي للخطاب السياسي والاجتماعي الذي يعد المسرح للعنف».

تناول مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الكلفة البشرية للحرب الدائرة «في الشرق الاوسط، وتداعياتها على اداء الحكم والاقتصاد». كما بحث في دراسته «مقارنة اعداد الضحايا، والمناطق الرئيسة المتضررة من القتال، وانعكاسات اضافية على الصراع، واستعراض فروقات التناول الاعلامي بين بلد وآخر».

الكرد

حذر معهد الدراسات الحربية صناع القرار من «فرط اعتمادهم على الاكراد» في سياق الحرب على الدولة الاسلامية «نظرا للمطبات الكامنة التي تشكل تحديا لاهداف الأمن القومي الأميركي الاوسع». وزعم المعهد ان الغارات الجوية الأميركية في سورية «توفر دعما لحزب العمال الكردستاني.. مما يهدد بابتعاد تركيا عن التعاون الاشمل مع جهود التحالف المناهض لداعش ويشكل مغامرة للولايات المتحدة بتأجيج الصراعات الاثنية طويلة الأمد في كل من العراق وسورية». وخلص بالقول ان مجمل تلك «المطبات قد تعزز عدم الاستقرار الاقليمي في المستقبل وتحرم الولايات المتحدة من تقويض وتدمير الدولة الاسلامية بفعالية».

تركيا

استعرض صندوق مارشال الالماني السياسة التركية حيال سورية قبل التئام مفاوضات جنيف، معتبرا انها تتسبّب بتصدّع علاقاتها مع الولايات المتحدة خاصة انّ «معدل خيبة الأمل من السياسة الأميركية في ارتفاع متسارع». واعتبر ان السياسة الأميركية مسكونة باحراز تقدم مهما كان «وينظر الى جهوزيتها لتقديم تنازلات لمحاولات روسيا فرض قراءتها المشوّهة لمسار فيينا وفصله عن اطار جنيف-1». واضاف انّ التدخل الروسي المباشر في سورية «شكل عامل تغيير اللعبة باتجاه سلبي بالنسبة لأنقرة.. واضحت واشنطن تعتمد على روسيا كعامل قوة ايجابي وحيد باستطاعته تحقيق حل سياسي بشكل ما».

بينما اعتبر معهد هدسون السياسة التركية في سورية «تسبّبت في اطلاق ازمة داخلية» لاعتبارات توفيرها المأوى للاجئين السوريين والذين اضحى «عدد منهم ينافسون الاتراك في فرص العمل..». واضاف ان الادارة الأميركية تردد باستمرار انه ينبغي على تركيا «اغلاق حدودها مع سورية لوقف تدفق داعش.. مما يعني تورط الاتراك كداعمين لداعش واحراجهم للاقدام على اتخاذ اجراءات ترغبها واشنطن حقا». وخلص بالقول انه دون توفر الدعم من تركيا فانّ «قوى المعارضة لن يكون بوسعها شنّ حرب ضدّ الاسد وحلفائه الإيرانيين والروس».

استعرض معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى المديات التي يمكن لتركيا الذهاب اليها لاغلاق حدودها المشتركة مع سورية «لحمايتها من تنظيم داعش». واوضح ان لتركيا عدة اولويات في تلك المنطقة من سورية «1- تعزيز الدعم المقدم لقوى المعارضة.. 2- حرمان «حزب الاتحاد الديموقراطي» من ربط جيب القرى في عفرين واعزاز بالمناطق الاخرى.. وإعاقة تشكيل منطقة كردية تقع تحت سيطرة حزبي الاتحاد الديموقراطي والعمال الكردستاني.. 3 القضاء على تنظيم «داعش» في سورية». وتعتبر انقرة انّ افضل السبل بالنسبة لها «تعبئة الجانب السوري بالقوات الصديقة لتركيا.. منها التركمان». ودعا المعهد تركيا الى تشديد اجراءاتها ضد داعش الذي اضحى «يشكل تهديدا للتقدم الاقتصادي والأمني في البلاد»، بعد تحميله مسؤولية التفجير في مدينة اسطنبول مؤخرا.

تعديل بوصلة الاعداء

انشغلت المؤسسات الأميركية، الرسمية والنخبوية والاعلامية، في تسليط الاضواء على «خطر الارهاب»، ورفعه الى صدارة قائمة الاولويات الاستراتيجية. تعريف الارهاب لم يتم حسمه للحظة، ليس لناحية قصور استيعاب العقل البشري، بل لما يترتب عليه من مخططات وتخصيص امكانيات وموارد، ونسج تحالفات اقليمية ودولية.

ووقع الاختيار مرحلياً على «خطر داعش»، بكلّ ما يمثله من «تهديد للقيم الغربية»، خاصة بعد بروزه الدموي على الساحة الاوروبية. وتمّ حشد القوى والامكانيات الاقليمية تحت يافطة فضفاضة وجهتها الحقيقية تقويض الدول المستقلة والكيانات القومية، واستحضار مخططات التقسيم والتفتيت بعناوين مموهة.

وسرعان ما استعادت المؤسسة الأميركية الحاكمة «توازنها» واستدارت نحو اعتبار روسيا مصدر الخطر الوجودي لبلادها بعد سلسلة من تصريحات سابقة مغايرة.

احدث تلك التعبيرات جاءت على لسان مدير وكالة الأمن القومي، جيمس كلابر، قائلاً دون مواربة انّ «روسيا» تشكل العدو الرئيس لأميركا «العدو الشرس والخطر المميت للولايات المتحدة ليس تنظيم الدولة الاسلامية، الذي باستطاعته الحاق الضرر وقتل مواطنينا». شبكة سي بي اس المحلية، 4 شباط الحالي .

واردف كلابر ان «تنظيم داعش لا يمتلك الامكانيات المدمرة التي تتوفر لروسيا»، منوّها الى الترسانة النووية الروسية والصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والقاذفات الاستراتيجية. واستدرك كلابر لطمأنة الجمهور الأميركي قائلا انّ الاجهزة الاستخبارية الأميركية «تستبعد توفر النية لدى روسيا استخدام ترسانتها النووية لالحاق الضرر بالاراضي الأميركية».

غرور يصطدم بمرارة الواقع

اطلق لواء الجيش المتقاعد، بوب سكيلز، تصريحات قاسية العام الماضي يصف فيها القوات العسكرية الروسية بانها «ضعيفة جدا خارج نطاق الترسانة النووية، بينما تمتلك الولايات المتحدة قوة عسكرية قوية ذات بأس». اللواء يعمل كمستشار ومحلل عسكري في قناة «فوكس نيوز». بالطبع لم يكن ينطق اللواء سكيلز عن هواه الشخصي بقدر ما كان يعكس نظرة متأصلة داخل المؤسسة العسكرية الأميركية.

سرعان ما اضطرت المؤسسة العسكرية الأميركية «تعديل» تقييمها للقوات الروسية التي كانت بمثابة مقياس للقوات الأميركية عينها خلال فترة الحرب الباردة، واضحت تشكل «تهديدا قويا» لمخططات حلف الناتو. الفضل يعود الى الاداء البارز والمميّز لروسيا في سورية، او بعضه على الاقل، منذ شهور اربعة.

اجرى معهد راند، وثيق الصلة بالمؤسسة العسكرية الأميركية، دراسة مقارنة بين قوات حلف الناتو والقوات الروسية، بين عامي 2014-2015، خلصت فيه الى القول بأن قوات الحلف «اضحت غير فعالة امام القوات الروسية.. بل ان جهدا مشتركا للقوات الأميركية ودول البلطيق يدعمه سلاح الطيران الأميركي سيجد نفسه عديم الفعالية لوقف اي تقدم روسي».

ومضت راند في استفزاز المؤسسة العسكرية الأميركية قائلة انه باستطاعة القوات الروسية «اكتساح مشارف عواصم دول البلطيق في غضون 36 الى 60 ساعة واحتلال قواتها المدرعة عاصمتي ايستونيا ولاتفيا.. خاصة ان قوات حلف الناتو البرية لا تشكل نداً للقوات المدرّعة الروسية».

في اعقاب اسقاط تركيا القاذفة الروسية سو-24 نهاية العام الماضي، اوضحت المجلة العلمية الرصينة «بوبيولار مكانيكس»، 25/11/2015، ان روسيا «تتوق لمعركة» مع حلف الناتو او احد اقطابه موضحة ان التقنية الروسية تتفوق على نظيراتها الأميركية في اربعة مجالات قد تصدم الغربيين: علم الصواريخ، تقنية الدفاعات الجوية، القتال الجوي، وتقنيات بالغة التطور في تطويع الطاقة الذرية.

واضافت المجلة الاسبوعية ان المؤسسة العسكرية الأميركية دأبت النظر بازدراء للقدرات العسكرية الروسية، ابرز اسبابها ان روسيا تنفق 12 مما تنفقه الولايات المتحدة على الشؤون العسكرية، مما يعزز اعتقاد القادة العسكريين بأن الصناعات الروسية «متخلفة» عن نظيرتها الأميركية، وانها لم تفلح في تخطي مرحلة التطور التقني لعقد السبعينيات من القرن الماضي.

وتدرجت النظرة الأميركية صعوداً لتجد افضل تجلياتها في الساحة السورية. وافردت يومية «واشنطن بوست»، 3 شباط الحالي، مساحة إقرار متأخر «للرئيس فلاديمير بوتين الذي استطاع تعديل أداء القوات السورية.. والتي اضحت في موقف الهجوم وسجلت الثلاثاء الفائت اهمّ انتصار لها باستعادة مدينة الشيخ مسكين من القوات المدعومة من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة».

بالمقارنة، بدأت تتضح معالم الاستراتيجية الأميركية وحلف الناتو والتحالف الدولي في الزعم بمحاربة داعش وتمدد الدولة الاسلامية التي لم تصمد امام انجازات التدخل الروسي، بقوات محدودة عدديا، وتطور اداء حلفائه السوريين والقوى الرديفة.

في هذا السياق يستطيع المرء تلمّس مصادر قلق الغرب، وحلف الناتو بالتحديد، كما جاء في دراسة معهد راند، التي ذكرت بعدم قدرة قوات الحلف على المواجهة او الصمود امام قرار روسي بالتحرك نحو دول البلطيق، ان تتطلب الأمر، دون ان يلقى مواجهة فعالة.

قلق غربي له ما يبرّره

وجاء في دراسة «راند» انّ الاستنتاجات والدروس أتت دون لبس او إبهام: في ظلّ الوضع الراهن فانّ حلف الناتو لن يقوى على الدفاع عن اراضي تتبع اعضائه المكشوفين جغرافياً ».

من بين الثغرات التي حدّدتها دراسة «راند» نقص العربات والقوة النارية المطلوبتين لمواجهة العسكرية الروسية «التي ابقت على ترسانتها من العربات المدرعة والدبابات.. اما قوات الناتو الارضية فتعاني ايضا من نقص في معدات المدفعية المضادة للطائرات في مسرح دول البلطيق».

كما لفتت «راند» الانظار الى انّ مسألة المعدات ليس هي الوحيدة التي يعاني منها حلف الناتو، بل ايضاً في طبيعة القوات المرابطة على تخوم الحدود الروسية التي لا تكفي للقيام بمهام قتالية طويلة، خاصة في مواجهة «جيوش روسية مؤللة».

في هذه الشأن، يمضي الجدل في المؤسسة العسكرية الأميركية حول افضل السبل لتنشيط المؤسسة وامدادها بافضل المعدات. واتسم عهد الرئيس أوباما ونظرته للمؤسسة العسكرية بالإقلاع بعض الشيء عن الاستثمار في المعدات الميكانيكية التقليدية واستبدالها بوحدات قتالية أصغر حجماً تتمتع بقدرة أوفر على الحركة ورفدها بوحدات من القوات الخاصة.

ايضا في ظلّ التواجد العسكري «غير المتناسق» في منطقة بحر البلطيق، يسود القلق داخل المؤسسة العسكرية الأميركية لتعزيز روسيا حضورها المسلح في جيب كاليننغراد على بحر البلطيق، المنطقة الواقعة بين بولندا وليتوانيا، كما لنوايا روسيا انشاء قاعدة جوية جديدة في روسيا البيضاء المجاورة، جنوبي حدود الجيب المذكور.

وعزز قلق الدوائر العسكرية بعضاً مما جاء في استنتاجات دراسة «راند»، وذكرت في احداها «على العموم، وجدت قوات مشاة حلف الناتو نفسها غير قادرة على اتمام عملية تراجع ناجحة وافتراضا سيجري تدميرها في مرابضها».

دراسة «راند» استندت الى فرضية توفر سبع كتائب عسكرية في المنطقة، منها ثلاث كتائب للمدرعات الثقيلة، تعززها قوة نارية من سلاح الجو والمدفعية كي تستطيع «منع احتلال سريع لدول البلطيق». اما القوات الاضافية المطلوبة تصل كلفتها الى نحو 2,7 مليار دولار سنويا.

على ضوء ما تقدّم، باستطاعة المرء قراءة تصريحات وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر بمنظار ادقّ، خاصة لنيته الاستثمار في الاسلحة الثقيلة والعربات المدرعة لاستبدال المخزون الحالي في دول اوروبا الشرقية، بغية التوصل لإعداد مجموعة من لواءين مسلحين بمعدات ثقيلة للحفاظ على الحدود الشرقية لحلف الناتو.

القوات الأميركية الراهنة المتواجدة في اوروبا تشمل كتيبتي مشاة للجيش الأميركي، احداهما في ايطاليا والاخرى في المانيا، لكن رقعة الانتشارهما متباعدة. بند الميزانية المخصص لتلك المهمة، كما اوضح كلّ من وزير الدفاع والبيت الابيض، مقداره 3,4 مليار دولار، من شأنه اضافة كتيبة اخرى للاعداد الراهنة، قوامها جنود أميركيون يتناوبون كل بضعة أشهر.

تجدر الاشارة الى ان تواجد كتيبة دائمة المناوبة تتقلص فعاليتها بالمقارنة مع كتيبة مماثلة مرابطة بشكل دائم، ولا تشكل الاولى بديلا ثابتا عن الاخرى في مواقع متقدمة فضلا عن ان المعدات الثقيلة الموكلة بالكتيبة المعنية المتوفرة، مثل المدرعات التي سبقتها لساحات القتال، ينبغي ان ترافق القوات المخصصة قبل نشوب ازمة للاستفادة القصوى من امكانياتها المتاحة.

لا يغفل عن العسكريين ان تلك المعدات المخصصة لاراضي اوروبا الشرقية ستكون عرضة لاول ضربة عسكرية روسية قبل ان يتمّ نشرها، مما يتطلب من الولايات المتحدة زيادة اعتمادها على جسر جوي للامداد العسكري يعوّض الخسارة، وبدرجة اقلّ الاعتماد على ما يمكن توفره في مخازن الناتو الاوروبية.

مهام اختراق اراضي اوروبا الشرقية قد توكل للفرقة 82، التي باستطاعتها انزال نحو 2.000 عنصر من قوات المظليين، وعربات مدرّعة، ومدافع الهاون من طراز 155 ملم، على شريط جغرافي يمتدّ ثلاثة أميال بهدف السيطرة وتوفير الحماية لمهبط جوي يمهد لاستقبال مزيد من التعزيزات، بما فيها وحدات «سترايكر» المدرعة المحمولة جوا، واتخاذ مواقعها القتالية على الفور.

التعديلات التي طرأت على الاستراتيجية الأميركية وحلف الناتو تدلّ بوضوح على مدى الاولوية التي يوليها البيت الابيض والبنتاغون لتهديد عسكري مصدره روسيا. اضافة لما تمّ الاعلان عنه من تحديث القوات المدرعة والثقيلة، اعاد البنتاغون الى الخدمة اسراب الطائرات المقاتلة المخصصة لقتال المدرعات من طراز A-10، والتي ستستمرّ في الخدمة الفعلية لعام 2022.

الوصفة التقليدية لسدّ الفجوات بضخ مزيد من الموارد المالية باتت لا تقنع أصحابها. وحذر عدد من الخبراء العسكريين «لسوء الحظ، فإنّ تخصيص مزيد من الاموال لن تكفي لردع الرئيس بوتين عن شن عدوان جديد. القوات العسكرية لحلف الناتو في اوروبا لا تكفي. وفي حين ان تخصيص مزيد من الانفاق قد يصلح الاوضاع، الا انه لن يكون حاسما».

ويسود اعتقاد جازم بين اوساط كبار المؤسسة العسكرية ان «تردد الرئيس أوباما»، في اتخاذ موقف اكثر تشددا حيال ازمة اوكرانيا والاسلحة الكيميائية السورية شكل عاملا «حافزا لعدوان بوتين.. الذي يدفعه في نهاية الأمر قناعته باستطاعته اعادة احياء موقع القوة العظمى لروسيا في اوروبا والشرق الاوسط».

وإمعاناً في طمأنة النفس، اضاف اولئك «في تلك الاوضاع، فانّ نشر الدبابات، وتخصيص مزيد من الاموال، والزجّ بمزيد من القوات لن يكون كافياً. يتعيّن على أوباما تحدّي بوتين بقسوة والتوضيح له انه عازم على تصعي التحدي وتعزيزه بنشر مزيد من الكتائب المدرعة في اوروبا الشرقية.. وإمداد دول اوروبا الشرقية بأسلحة حديثة». يشار الى انّ ايستونيا تلقت معدات وصواريخ مضادة للدروع من طراز «جافلين» لتعزيز قدراتها التصدّي لهجوم روسي مدرع.

ويواجه الرئيس أوباما ضغوطاً متصاعدة من قادته العسكريين الذين يطالبونه «بممارسة ضغوطه على دول حلف الناتو لزيادة معدلات الانفاق على الشؤون العسكرية خاصة في مجالات معدات ثقيلة ومؤللة للمشاة». الاحصائيات المتوفرة تفيد بأن حصة الولايات المتحدة من ميزانية حلف الناتو العسكرية تعادل 72 .

في اوج الحرب الباردة، نشر حلف الناتو نحو 20 فرقة عسكرية مؤللة بمعدات ثقيلة في اوروبا بمواجهة قوات الاتحاد السوفياتي، كان نصيب المانيا منها نحو 2.200 دبابة تم تخفيضها لنحو 250 دبابة بعد نهاية الحرب الباردة. في ذات السياق، تنوي بريطانيا سحب ما تبقى لها من لواء مدرع مخصص لحماية قيادة الحلف من القارة الاوروبية.

القادة العسكريون الأميركيون، والصقور منهم بوجه خاص، يحبّذون مراجعة بلادهم لاولويات الانفاقات العسكرية لحلف الناتو، لا سيما بعد انضمام ونية انضمام دول اوروبا الشرقية سابقا الى مظلة الحلف، وتخصيص موارد كافية لاقامة منشآت جديدة داخل حدود تلك البلدان على تخوم الحدود المشتركة مع روسيا، واغلاق بعض المنشآت القائمة في الشطر الغربي من القارة الاوروبية.

ويدعون ايضا الى ضرورة زيادة الولايات المتحدة من معدلات صادراتها النفطية ومصادر الطاقة الى القارة الاوروبية، من نفط خام والغاز الطبيعي، بغية تقليص اعتماد اقطارها على واردات الطاقة الروسية وتعزيز قدراتها على المواجهة والحسم.

وفق تقديرات تلك المجموعة من القادة العسكريين فإنّ رسم معالم استراتيجية فعالة لمواجهة «عدوانية روسيا» تتطلب رفدها بلواء عسكري اضافي في اوروبا، والاستثمار في معدات عسكرية مدرعة مرتفعة الكلفة ووحدات مؤللة، وتوفير معونات ملموسة لمعظم دول اوروبا الشرقية، ودعم توجهات استقلالية في مجال الطاقة لدول حلف الناتو.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى