العبقرية الأميركية: وقف نار افتراضي

ناصر قنديل

– في خضمّ التصاعد الذي شهدته المواجهات الدامية في فلسطين، وخصوصاً أثناء حرب غزة عام 2008 والفشل «الإسرائيلي» الذريع في كسر إرادة المقاومة وإعادة بناء قدرة الردع، وأمام الشعور بالحاجة إلى مسار سياسي يملأ الوقت قبل تبلور البدائل، ونضج القوى المعنية على الضفتين «الإسرائيلية» والفلسطينية لتفاهمات قابلة للتداول، وهو نضج لا تصنعه إلا الحاجة والضيق والشعور بالطريق المسدود، وبالتالي موازين القوى والشعور أمامها بالعجز، يومها ابتكر الأميركيون صيغة أسموها بالدولة الفلسطينية الافتراضية، أو الواقعية، داعين «إسرائيل» إلى قبول مبدئي بدولة بلا حدود، لها عاصمة مؤقتة، هي أريحا أو رام الله، ودعوا السلطة الفلسطينية إلى التطلع التفاوضي لتكون الحدود هي حدود العام 1967.

– تقوم فكرة الدولة الافتراضية أو الواقعية أو المؤقتة، على لعبة تمييع الخلافات الجوهرية وجعلها تفرض نفسها واقعياً للتكفل بجولة مواجهة تفرض حلولاً لها، فيكون القبول بصيغة واحدة من طرفين متقابلين مبنياً على تفسيرين مختلفين لها وارتضاء الرعاة لغموض التفسيرين وغموض النصّ الأصلي وبقائه بلا تفسير، حتى تقرّر موازين القوى تفسيراً تدريجياً للغموض، ليتمّ اعتماده، وما بقيت المراوحة بقي الغموض وبقي المطاط سيد المواقف.

– حالت العقائدية الصهيونية دون تسلل المشروع الأميركي المقترح، لكن مثيلاً له عاد للظهور مع الأزمة السورية عبر ما عُرف ببيان جنيف المشترك بين روسيا وأميركا، وكان مفهوماً لدى موسكو وواشنطن أنّ يتبنّيا تفسيرين مختلفين لغموض الدعوة إلى هيئة حكم انتقالي، وأن يربط كلّ من حلفاء الفريقين موافقته على البيان بتفسيره لمفهوم جنيف وأولوياته، وتكفلت موازين القوى وجولات المواجهة بحسم الغموض وإرساء تفسير، هو الذي أرادته موسكو وحلفاؤها، بالتسليم بكون الرئاسة السورية ومستقبلها أمراً يقرّره السوريون في صناديق الاقتراع، وأن الحكم يتم في الفترة التي تسبق الانتخابات وتسمّى بالانتقالية وفقاً للدستور السوري وفي ظلّ المؤسسات والمناصب السيادية المتحدّرة منه، فتصير الهيئة حكومة تشاركية مهمّتها قيادة الحرب على الإرهاب في ظلّ الرئاسة والدستور حتى تعديل الدستور وإجراء الانتخابات.

– مرة ثانية تتعقّد مسارات العملية السياسية، التي صارت عقيدة بالنسبة للأميركيين الذين يسلمون أنهم طالما تفادوا الخيارات العسكرية في ظروف أفضل فلن يتورّطوا بها في ظروف أشدّ سوءاً وتعقيداً، ومرة ثانية يستعمل الأميركيون عبقريتهم بالحلول الغامضة والقابلة للتأويل، فالكلّ يريد وقفاً للنار لإطلاق العملية السياسية، والكلّ يدرك أنّ المقصود من كلّ طرف مختلف لما يريده طرف آخر، فالدولة السورية تريد وقفاً للنار مع الذين يريدون الانخراط في العملية السياسية والحرب على الإرهاب، يستثني الجماعات الإرهابية ويمنعها من التقاط أنفاسها، بينما يريده خصوم الدولة السورية لتحييد جماعاتهم المسلحة وهم يعلمون أنّ غالبهم ينتمي إلى جماعات إرهابية، من مخاطر حسم عسكري، فيتقدّم الأميركيون بمقترح وقف للنار بلا تحديد مَن يشمله ومَن لا يشمله من الجماعات المسلحة ويتركون تطبيقه للميدان، فيرضى حلفاؤهم بالإنجاز، ويطبّق الجيش السوري وحلفاؤه ما يتناسب مع روزنامتهم منه، ووفقاً لتصنيفاتهم، وينتظر الأميركيون ظهور مناطق يطبّق فيها وقف النار، حيث تلتزم به جماعات مسلحة لا تريد مواصلة القتال ضدّ الدولة السورية، ولا تراها الدولة السورية تنظيمات إرهابية، لتتحدّث عن تعميم نموذج اسمه الرستن مثلاً، أو المعضمية، أو أيّ موقع تظهر فيه تجربة تسويات ميدانية تفتح باب التهدئة العسكرية، ويقولون وقفاً للنار تحدّد النار مداه ومساحته.

– جولة جديدة تبدو ضرورية ليكتسب الحديث عن وقف النار معانيه وحدوده وأبعاده، كما اكتسبت الهيئة التي تدير الحكم معناها وحدودها وأبعادها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى