كفّوا عن شهدائنا.. كيدَكم المنحور

اعتدال صادق شومان

ليس بالكثير أن تنتشي بيروت في كلّ عام على وقع البطولة مستعيدة مأثرة بطل “خالد” و”مختلف”. سيرته من سيرة مقاومين مسارهم غيّر مجرى التاريخ، و”أضاءه” بألوان الكرامة، على اعتبار بالكرامة وحدها تبنى وتشاد الأوطان. فاختاروا لسكناهم الأبدي الضمير الحي لأبناء وطنهم عبرة وإلهاماً. ولهم تغيّر الساحات والأسماء، ولهم نشيدهم «مقاومة لا مساومة». هم أبطالنا، هم فخرنا، وشغف كرامتنا، هم شهداؤنا، هم طليعة انتصاراتنا. هم قافلة “الخالدون”، هم «منّا وفينا». وكلّ الوطن مدينٌ لمداد تضحياتهم، كيفما أولينا وجوهنا.

ومن حيث هم كلّ هذا الوقار، تبقى ذكراهم، صورهم، وصاياهم، بسمات عيونهم، بصمات أقدامهم، جعبهم العسكرية، عبرة وإلهاماً وأمانة حيّة عصيّة على النسيان والمؤامرة.. وعصية أكثر وبإصرار أكبر على الاستفزاز الممنهج وغير المقبول في انتهاج بعض من “دولة لبنان” أسلوب التعاطي المائع إزاء الرمز والمعنى، والذي صار مرفوضاً جملة وتفصيلاً والسكوت عنه بات تواطؤاً، ففي لبنان مقاومة انتصرت ولن تقبل المضيّ بالتجاهل المتعمّد لرؤية نضالية فاضت لدى رجال ونساء وضعوا أنفسهم في حالة الحرب مع «إسرائيل» منذ لحظة قيامها المزعوم، وما لبثوا، لا يركنون إلى استسلام أو مهادنة بفعل تراكم بناء عقائدي فكري ثقافي، ومخاض نهضة آمنت بأنّ صون الحقوق والسيادة القومية لا يتحققان إلا بفعل سياق مواجهة تشمل المجتمع كلّه بأبعاده العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأنّ مقولة «إنّ أزمنة مليئة بالصعاب والمِحن تأتي على الأمم الحيّة فلا يكون لها إنقاذ منها إلا بالبطولة المؤيّدة بصحّة العقيدة»، ليست «كليشيه» او “يافطة” تقتضيها المناسبة، بقدر ما هي حقيقة ناصعة لا لبس فيها.

ومن هذا البعد، ومن هذا الإرث، وهذه المفاهيم، ومن هذه المدرسة، خرج المحتفى به اليوم، وكلّ يوم خالد علوان ذات صباح، تقوده خطواته الواثقة. ولم  يحتاج الكثير من الوقت ليحسم أمره ويُعيد صوغ الحكاية، ويُخرجها من سياق «العين لا تقاوم المخرز» إلى فعل «الأمر لي». فكانت الرصاصات الثلاث، وكان «البيان» من يمناه أفصح تبليغاً على أرض المواجهة، لا من خلف الأبواب المغلقة كما يحلو لـ “آخرين” مع الأسف الشديد أن يدّعوا، غير أنّ خالداً، خط أولى الطلقات على جدار التاريخ الواسع وليعلو الصراخ ذليلاً «لا تطلقوا النار إننا راحلون» و ليرتسم بين الحادي والعشرينَ من تموز من عام 1982 والرابع والعشرين من أيلول وما بينهما من العام نفسه مسارٌ جديدٌ، من ذاكرة وطن وشعب. وينهال فيض «العمليات النوعية» والبطولات وسيل الأسماء والشهداء.

وكأنه لا يكفي اليوم أن تمرّ ذكرى مرور 36 سنة لانطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ونحن في حيرة، وفي خجل السؤال، لغياب الدولة وتقصيرها في إقامة نصب تذكاريّ يرمز إلى تضحيات شهداء المقاومة في إحدى ساحات العاصمة بيروت، ضمن إطار المحافظة على الهوية الوطنية وتعزيز ترسيخها في الذاكرة الشعبية. كي لا تغيب بيروت وكلّ الوطن عن ذاكرة الأجيال الآتية كحاضنة لأبطالها الأحرار، أسوة بعواصم العالم ـ ولو “من باب الغيرة الوطنية” ـ التي تكرّم شهداءها وأبطالها من رجال التحرير، عبر إطلاق أسمائهم على أهمّ الشوارع والساحات، وتُفرد لهم أرقى الأماكن لرفع النصب واللوحات التذكارية
بخلافنا نحن في لبنان، فبالرغم من أننا ما زلنا في ظلّ عنجهية صهيونية تستبيح سيادتنا نهاراً جهاراً و”على عينك يا دولة”، يبقى التمادي سيد الموقف في تجاهل هذه الدولة للشهداء ولأهلهم والذي بات مفضوحاً حدّ الوقاحة السافرة.
فبأقلّ تقدير ـ بدل “مناكفة” شهدائنا وافتعال المعارك الوهمية معهم، وهم في عليائهم الجليل، على لوحة رفعت هنا حملت اسم شهيد خالد، وتسمية شارع هناك لشهيد “مصطفى”، أو تجاهل ضريح شهيد في حمأة توزيع “أكاليل الاستقلال”، فلتعامل الدولة اللبنانية شهداءنا الأبرار أسوة بـ “جنرالات الشوارع” من زمن الاحتلال الفرنسي. “وعذراً من شهدائنا على القياس والتشبيه” ومن هذه الشوارع نذكر: «كولمباني»، و«مونو»، «غورو»، «ويغان»، «ديغول»، «كليمنصو»، و«فوش». حتى أنّ هناك شارعاً بِاسم «فرنسا»، وبأسماء شخصيات أخرى من رموز الاستعمار، كـ«اللمبي»، و«سبيرز»!
وكيف لدولة حرة ذات “سيادة واستقلال” تملك بقية كرامة تجعل بيروت تنصاع وتسكت على دمغ أحد شوارعها باسم الخيانة السافرة! من غير أن نسمع صوتاً “لغياري الدين” واصحاب “الحساسية المذهبية”؟ يرفضون هذا العار لبيروت الذي أسقطتموه عليها، وهانت عندهم دماء شهداء صبرا وشاتيلا وأشلاؤهم الممزقة غلاً وحقداً، وخرست أصواتكم الزاعقة واليوم تستنكرون تسمية شارع باسم شهيد، وتتنكّروا للذين تسامت أرواحهم دفاعاً عن بيروت، فضاقت بهم ساحاتها وشوارعها كما أفقها في غفلة من الزمن. فغابت عنها أسماؤهم ووجوههم وتاريخ استشهادهم.

وأبلغ دليل على “كيد دولة” تلك اللوحة المتواضعة الصغيرة التي ترتفع متوارية خجولة، على زاوية المقهى الذي صار لاسمه تاريخ ومعنى، والتي تبدو أنها أُعدّت على عجل، وهي أُعدّت على عجل لتفرض أمراً واقعاً على “مرسوم بلدية” تعثر التوقيع عليه “لظرف” وطني فاقد الشرعية ولمصداقية مهزوزة، وتمسّها لا تمسّنا بتسمية “رصيف”، مجرد رصيف متواضع، على قارعة مقهى الويمبي وليس مرفأ عاماً فخماً، باسم الشهيد خالد علوان.. إلا أنّ الدولة على الشهداء بالكيد سواءٌ في بيروت وفي كلّ مكان. ولكن لا يسعنا إلا القول “يا لذلّ قومٍ لا يعرفون ما هو الشرف وما هو العار».

زر الذهاب إلى الأعلى