نقاط على الحروف

قنديل

 ناصر قنديل

عندما يصير محسوماً في العقل البارد لكلّ مراقب لمسار الحراك وشعاراته ورموزه، الدور المحوري لوسيلتي الإعلام المركزيتين في صناعته، ومنظومة الحسابات التي تحكم صنّاع القرار فيهما، لا يعود الأمر يحتاج كثيراً إلى التساؤل عما إذا كان ما يحدث مع الحراك يحدث عفواً، خصوصاً في تحديد أولويات الاستهداف السياسي وتنسيق شظاياه، لأنّ للقناتين المحوريتين علاقات وحسابات وليس سهلاً عليهما قرار التصادم أصلاً مع مرجعية بمكانة ودور رئيس مجلس النواب، ولأنّ الشعار الغوغائي «كلكن يعني كلكن» يتيح لهما الدعوة إلى قدر من توزيع النيران بين صانع السياسات الاقتصادية الذي يمثله الرئيس سعد الحريري كوارثٍ ومتابعٍ للسياسات ومسؤول عنها، وبين الرئيس بري كمسؤول ثانٍ بعده كعراب التغطية السياسية للنظام القائم على ثنائية الاقتصاد والأمن، ولأنّ امتناعهما عن ممارسة أيّ ضغط لضبط الشعارات وفقاً لسلّم أولويات يضع الحريري في الطليعة بين المستهدفين، وليس أطراف تياره من الرئيس السنيورة إلى الوزير المشنوق ولكليهما قصة خلاف وتصفية حساب معه أيضاً، يعني أنّ استبداله بهما تخديماً مزدوجاً لحسابه، ولأنّ الامتناع حتى عن المناصفة بين بري والحريري في تلقي النيران بدل الإنصاف لم يتمّ، فذلك يعني أنّ ثمة قراراً ما في مكان ما يمنع استهداف الحريري من جهة ويقضي من جهة مقابلة بجعل بري الهدف خلافاً لمنطق الحسابات وتوزع المسؤوليات، وخلافاً لحسابات المصلحة لحراك يريد القيام بـ»ثورة» ويسعى إلى تركيز نيرانه على صانع السياسات، ويجهد لتحييد الشركاء ولو موقتاً، أملاً بالفوز بالمعركة.

هنا لا يعود الأمر متصلاً بالعلاقات الشخصية سلباً أو إيجاباً بين الرئيس بري وصاحبي المحطتين، لأنّ الأرجح هو تغاضيهما أو تماشيهما مع القرار، وليس صناعتهما له، والأرجح أنّ الحماية الدولية والإقليمية للرئيس الحريري تمنع قيام المحطتين بتشعّب مصالحهما وتداخلها من التصويب عليه ولو أرادتا جعله هدفاً، فيصير البحث أولاً عن «جسم لبّيس» بديل، ولو كان المفضل أن يكون العماد ميشال عون هو الهدف، لكنه ليس لبيساً لحداثة دخوله جنة النظام من جهة، ولعدم تلبية استهدافه تحقيق الغايات المنشودة من جهة أخرى، لأنّ المطلوب ثانياً البحث عن هدف يمكن لإطلاق النار عليه والإصرار والمواظبة على استهدافه أن يسرّع الذهاب إلى الفوضى، التي لا ينتبه لها قادة الحراك إلا بصفتها التعبير عن إشعال الثورة، وبين الفتنة والثورة شبر فقط، هو الشبر الفاصل بين ساحة الشهداء وخندق الغميق، ومن يتذكر من جيل السبعينات الحماسة التي دخل بها شباب الحرب إلى الخنادق يستطيع أن يفهم سذاجة ورومانسية الاشتباك وأوهام التغيير، والحديث هنا عن مآل يصنعه المشاركون بلا شراكة في القرار، يصنعونه لأنهم يصدّقون ولأنهم مؤمنون، ولا يملكون جواباً على السؤال الصعب، إلى أين؟ وبعده على السؤال الأصعب، ماذا بعد؟ ولأنهم يبادرون السؤال بالسؤال الذي سمعوه مراراً، لماذا يغضب مؤيدو الرئيس بري؟ أليس مسؤولاً هو أيضاً عن حال البلاد؟ وفي الحصيلة الجسم اللبّيس بمعنى الشريك في إدارة دفة الدولة وعراب السياسة فيها، وما يملك من حجج تحمي منطقه عن النظام الطائفي العصيّ على التغيير، تصير مصدراً للاستهداف من دون نقاش للحجة ومقارعتها بالحجة، وبسهولة يقول الشباب نعم سنلغي الطائفية، والحديث عن تجذرها ومصادر قوتها مبالغة تهدف لحمايتها، وبمعزل عن هذا النقاش الذي يجب أن يدور، بدلاً من أن يدور النزاع في الشارع، لا بدّ من القول إنّ غياب التمييز السياسي في تحديد المسؤوليات لدى بعض من الحلفاء وخصوصاً شارع التيار الوطني الحر، وبعض الشارع اليساري الذي تربط قياداته بالرئيس بري علاقات ممتازة قد ساهم بتقديمه مسؤولاً أول عن النظام وشريكاً كاملاً في فساده، في سعي لاستسهال توصيف التمايز من جهة، ولكن من جهة مقابلة، تسبّب التقارب الذي يجمع الرئيس بري بالنائب وليد جنبلاط والرئيس سعد الحريري ضمن قراءة بري لمعادلة دوره السياسي في المعادلات الكبرى بتسهيل تمرير هذه الصورة وتسويقها، على رغم كونها من الوجهة العلمية مجافية للحقيقة ومن الوجهة العملية مخاطرة كبرى بالحراك وربما بالبلد، هذا عدا كون ما يمكن أن يسمّى شراكة لبري هو شراكة في المحاصصة أكثر مما هي شراكة في الفساد إذا أردنا عدم الدخول في مناقشات افتراضية حول أحوال الأفراد هنا أو هناك، فقد تجسّدت شراكة بري مشاريع نهضت بمناطق الجنوب والبقاع عموماً والجنوب خصوصاً، يحسد أهلها عليها أبناء كثير من المناطق، ومقابلها تمسك بمواقع في الدولة وفقاً لشعاره الشهير إذا أردتم إلغاء الطائفية فأنا داعيتها الأول وإنْ طبقتموها فلن أتسامح بحصتي أبداً، «وعلى السكين يا بطيخ».

يمثل الرئيس بري خاصرة حزب الله الشعبية والسياسية، فهو المفاوض المؤتمن في الملفات الكبرى كما تقول وقائع التجربة الأصعب في حرب تموز، وهو عراب التسويات عندما يحين أوانها، وهو صانع المعادلات النيابية والحكومية والتوليفات السياسية عندما تدق ساعتها، وشارع حركة أمل وحزب الله متداخل، مع فارق السيولة اللزجة لشارع أمل، وسهولة استفزازه واستدراجه، وصعوبة ضبطه، وإضعاف بري والنيل من مهابته إزالة لخط دفاع يمكّن من النيل من المقاومة وقائدها، واستدراج شارعه إلى الاشتباك في الساحات يجعل مهمة استدراج شارع المقاومة أسهل، وهذا هو المقصد النهائي، لكن فوق كلّ ذلك والأهمّ هو أنّ عراب الرئاسة هو الرئيس بري، وبعد الاستنزاف يحين أوان التفاوض، وهو المفاوض، وطالما أنّ الرهان على شطب العماد ميشال عون من لائحة المرشحين المتقدّمين هو الهدف التفاوضي الأول ويجب أن يتكفل به شعار «كلكن يعني كلكن» فيصير التفاوض على البديل التوافقي مطلوباً مع بري وهو ليس حكماً ولا شريكاً توافقياً في صناعة التوافق، بل طرف ومشكلة وجزء من معركة، لا يقبل منه من يرشحه ومن يزكيه، ليصير فرض البديل الذي يمكن أن يُقال إنه من خارج نادي «كلكن» سواء كان يعلم أصحاب الأسماء أم لا يعلمون، وحتى الآن في الكواليس اسمان فقط، قائد الجيش كخيار أخير، والوزير زياد بارود كخيار أول جرى التوافق عليه مع بكركي.

هل تبادر حركة أمل إلى حوار قادة أحزاب في الثامن من آذار يترأسه بري بالتوازي مع ترؤسه لحوار ساحة النجمة يضمّ المشاركين في الحراك والحوار والواقفين في منتصف الطريق؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى