همزة وصل الهوية وثلاثية الانعزال والتنوير والحداثة


نظام مارديني
في زمن التحوّلات و”الثورات” المستوردة التي كادت أن تغيّر وجه المنطقة، وفي زمن اللجوء بحثاً عن “هويات” مذهبية وإثنية بديلة، وبين ثنايا هذه المحطات، تتولّد حكايات حول الأوطان المتروكة المهدورة في تشتت فهمها هويتها، ولكن هل تستطيع هذه “الهويات” التي نبتت كالفطر السام أن تتلمس رؤية تمكنها من مواجهة انعزالها؟
سؤال يطرح نفسه بقوة اليوم، وغداً، ويتجدد دائماً بصيغ متعددة باعتباره الملمح الأبرز الذي يعبر عن توق الجماعات للخروج من “شرنقة” الهوية القومية الواحدة إلى انعزالية “الهويات” المتواجهة، ولكن العلم يشدد على أن مواجهة الانعزال تحتاج دائماً إلى ثورة معرفية بعدما أصبح العقل السوري (سورية الطبيعية) نفسه في خطر.
ففي ضوء التحوّلات التاريخية والمفصلية والمعرفية، التي يشهدها مجتمع الهلال السوري الخصيب فأصابت هويته في مقتل، كان يجب أن يبرز دور المثقف كمؤسس للوعي والمعرفة، إذ كان عليه أن يعمل على منع تحوّل الجماعات إلى الانعزال ووقف انهيارها الذي سيكون له ترددات في الواقع المجتمعي.
إن أكثر ما تواجهه الثقافة في مجتمعنا المختلف والمتنوع هو “الثقافة الانعزالية” التي تأخذ الفكر إلى درك الجهل بدلاً من أن تأخذه إلى منارة الوعي، وقد شهدنا الكثير من مراحل هذا التحول السلبي والانهيار الثقافي، ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق وسطوته على منطقتنا، حيث تجلّى هذا الشكل المفزع في “ثقافة” غريبة كلياً تسود في مجتمعنا السوري، خصوصاً أن المثقف السوري يعاني أزمات متعدّدة، وهو مقيد بفكرة التقليد وتقديس الماضي، فلو دخل حيّز المستقبل يدخله بذهنية الانعزال، وهذا جعله عاجزاً عن إنتاج فعل ثقافي مغاير، يتميز بالقوة والصلابة التي تمكنه من مواجهة أي فكر انعزالي ومتطرف، خصوصاً أن الفعل الثقافي الانعزالي مكوّن من مفاهيم الأفراد الذين يجمعون الشظايا من حولهم ويعيدون جمعها كما ترتئيها أعرافهم.
إن المسألة هنا ليست مشكلة “جينالوجيا” (مصطلح معرفي أطلقه ميشيل فوكو ويعني “علم الأنساب”) أو هوية بين ثقافتين مختلفتين بحيث يمكن حلها باعتبارها قضية نسبية، بل هي قضية هوية المجتمع لا الجماعات، والمجتمع هنا كالنبع لا يكتمل من دون الجداول ـ الجماعات.
ولكن كيف تُستدرج عقول الجماعات الغضة إلى مهاوي الانعزال؟ أو تحويل أفراد طبيعيين متمدنين إلى انعزاليين؟
يمكن اختصار الإجابة بكلمة واحدة هي، الجهل الذي يدفع للاستمالة. والاستمالة تتضمّن التوصل بدقة إلى الكيفية التي يمكن بها إقناع أدمغة الأفراد بأن تطيع (مطواعة).
وفقاً لبحث تمّت مراجعته من جهات عديدة يتضح أن انزلاق الجماعات الإثنية والمذهبية إلى الانعزال يتهيّأ لها أنها تتحدث اللغة التي لا تريدها، ولا تمتلكها، ولا تنتمي لها، ولا هي شكل من المكان أو رائحة الزمن. ومن هنا فإنها تتحوّل مظهراً من مظاهر الاغتراب الداخلي، وهنا تنشأ إشكالية الهوية.
ما تشهده الجماعات السورية من تراجع يعود بالأساس إلى “الاستنامة”؛ إلى الأفكار التقليدية وهيمنتها على أي عمل تنويري، لذا فهي تقتل أي فكرة تنويرية من المنبع، لأن التنوير يحتاج إلى مساحة واسعة ينطلق فيها العقل، بعيداً عن محدودية الرؤية التي يعاني منها الخطاب الانعزالي الحالي. فالعقل السوري بحاجة إلى حالة من التنوير خاصة في تلك اللحظة الملتبسة التي تتطلب سبراً معرفياً جامعاً، وهذا يحتاج إلى جهد مجتمعي لا “جماعاتي”، بحيث تعمل مراكز الثقافة المتعددة والمنتشرة في الوطن السوري، على تعميق فكرة الهوية والخصوصية السورية، ولكن ليس بالانعزال عن العالم العربي بل من خلال القيام بدور فعّال في نهضته.
هناك حلّ وحيد، وهو تأكيد الدولة المدنية وأفكارها المنفتحة على الآخر، والعمل بمبدأ المواطنة، على أن يهيئ المثقف الراهن “جماعته” في هذه الفترة، بأن يكون مؤمناً بالمفهوم العصري للدولة، وهذا لن يتم من دون إيمان هذه “الجماعة” أو “الجماعات” بالهوية الواحدة في المجتمع السوري الواحد.
من دون شك، تمرّ الجماعات في سورية الطبيعية بانتكاسة عقلية، الخصومات بينها تتصاعد والحروب الطائفية والعرقية تأكل الأخضر واليابس داخل أي مدينة تمتاز بالتنوع المذهبي أو الديني أو الإثني؛ ولعل مدينتي كركوك والقامشلي نموذجيتان في هذا المضمار. لا توجد لغة للتفاهم والحوار، وكل طائفة أو إثنية منغلقة ومنعزلة على ذاتها، وهي تعتقد بأنها تمسك بجمرة الحقيقة، أما الآخر فيمسك برماد الضلال.
الجماعات، إن بقيت على هذا الحال، فإن مصيرها الانهيار والموت والتشظي ولا سبيل إلى إصلاحها إلا بدفعها دفعاً قوياً باللجوء إلى البحث عن الحقيقة النسبية والتخلي عن العقل الانعزالي الذي يتماهى كل حين مع العقل المذهبي والإثني.
إن “دروس الهوية لم تهيئنا إلا إلى ثأر أخلاقي من كل أنواع الآخر، ربما هو الأساس العميق لأي رغبة عدمية في قتله”، كما يقول الباحث العراقي سعد محمد رحيم في بحثه “مفهوم الهوية ومعضلتها: الذات والآخر ـ 2015/12/09 ـ جريدة المدى”. وغالباً ما كانت الهوية تُصمَّم كصناعة، أو يُوحَى بها مؤسسياً سلطوياً.. والسلطة هنا لا تعني سلطة الحكم السياسي، وإنما كل سلطة جماعاتية؛ دينية وطائفية وعشيرية لها هيمنة على تابعيها.
في كتابه “الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة”؛ يُرجع فتحي المسكيني فكرة اختراع الهوية إلى الحداثة التي اخترعت كذلك مقولات السيادة والوطن والعَلَم. ولأن حداثتنا مستعارة ومشوّهة ومهترئة باتت الهوية معضلة وإشكالية، بدأت مع السلطة التي كرّست مفهوماً عروبياً عنصرياً على حساب العروبة الواقعية العاقلة.
ستبقى “هوية” الجماعات في التباسات وعينا مصدر إعاقة أكثر من كونها دافعاً خلاقاً للفعل في المجتمع القومي السوري، ولطالما كانت الهوية “أحد الشروط الحقوقية للانتماء، كما ضبطتها فكرة الدولة (الحديثة)، وليس شكلاً وجودياً”.
لقد اتخذت حركة التنوير “شكل ثورة على التزمتّ، والتركيز الإيجابي على استخدام العقل والأساليب التجريبية في الكشف عن الحقيقة وتأمين السعادة وإعادة تشكيل المؤسسات على نحوٍ يكون أشد قدرة على توفير التقدم الاجتماعي” (راجع كتاب “الموسوعة السياسية”، لعبد الوهاب الكيالي وآخرين.. الجزء الثاني ص. 226 ـ 227). وكان الفيلسوف عمانوئيل كانط قد عرّف التنوير بأنه: “خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر”.
في ضوء هذا الواقع، انطوى تاريخ الفكر على مفارقات عديدة، والانفراط، إذا ما استخدمنا عبارات عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين الذي حدث بين شذرات عصر التنوير والحداثة، حيث الحداثة امتداد لذلك العصر ووجهه الآخر، أدى إلى دفع أثمان غالية من رصيد البشر وبيئتهم ومستقبلهم.. وتورين يلخّص تلك المفارقة في نهاية كتابه (نقد الحداثة)، واجداً لها الحل، بقوله: “إن الدعوة إلى الذات يمكن أن تتحوّل إلى العداء للعقلنة وتتراجع إلى هوس بالهوية أو انغلاق في جماعة”.
في سياقنا “السوراقي” تبقى إعادة بناء الدولة/ الأمة العصرية على مبادئ القانون والمواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية والتسامح وخلق المجتمع المدني المنتج هي الرهان الأكبر في تقويض ثقافة العنف والإرهاب، وإنهاء صراع “الهويات المتواجهة”.
نطمح لأن تنتشر ثقافة التنوير بشكل جماعي، فالتعريف العلمي للمثقف هو الطليعة الروحية لشعبه، وهذا مفتقَد عندنا، بينما في الدول الغربية نجد المثقف أن له دوراً فاعلاً، إذ عندنا كثير من الروائيين الشعراء والأدباء ولكننا لا زلنا نفتقد كثيراً للمثقف الحقيقي المجدِّد.

زر الذهاب إلى الأعلى