تجار البلدة القديمة في القدس… معاناة وهموم

راسم عبيدات

لا شك في أنّ تجار البلدة القديمة في القدس، من أكثر القطاعات والفئات الاقتصادية والتجارية معاناة وهموماً، فالبلدة القديمة تقع في دائرة الاستهداف الصهيوني المباشر، الذي يسعى إلى تغيير وتهويد كلّ معالمها وطابعها الحضاري والتراثي والتاريخي والديني الروحاني العربي الإسلامي. والاستهداف هنا ليس فقط للحجر والمكان، بل الإنسان مستهدف قبل المكان، فالاحتلال يمارس بحق سكان القدس عامة، وتجار البلدة القديمة خاصة، كلّ أشكال العقوبات والإجراءات والممارسات القمعية والإذلالية لحملهم على ترك البلدة القديمة هذا الاحتلال الذي يعيش أوهام أنّ القدس «العاصمة» الأبدية لدولته، وهي محجّ يهود العالم كلّهم وقلب الدولة الصهيونية، ويستخدم ويوظف الأساطير والخرافات التوراتية والتلمودية كلّها خدمة لهذا الهدف، ولذلك نشطت الجمعيات الاستيطانية من «العاد» و»عطروت كهونيم» وغيرها من الجمعيات الاستيطانية وبدعم وتشجيع من قمة الهرم السياسي من أجل السيطرة على أكبر عدد من البيوت والعقارات في البلدة القديمة، وتم ضخ من قبل تلك الجمعيات الاستيطانية ومن مستثمرين ورأسماليين صهاينة في الخارج المليارات من الدولارات لهذا الغرض، وقد نجحت تلك الجمعيات بشكل محدود في أن تضع يدها على العديد من العقارات في البلدة القديمة، من خلال عدد من عديمي القيم والأخلاق والانتماء والحسّ الوطني، ممّن ارتضوا بيع أنفسهم بثمن بخس، وكذلك استخدمت دولة الاحتلال بأجهزتها وأذرعها المختلفة بالتعاون مع تلك الجمعيات الاستيطانية، طرقاً ملتوية وتزويراً للوثائق والمستندات واستخدام قانون ما يُسمّى بحارس أملاك العدو، وحارس أملاك الغائبين من أجل السيطرة على عدد من العقارات، بيوتاً ومحال تجارية في البلدة القديمة من القدس.

الهجمة الصهيونية المسعورة على البلدة القديمة، تصاعدت مع وجود هذه الحكومة اليمينية المتطرفة، والهدف واضح… تطهير عرقي وتغيير في الواقع الديمغرافي لمصلحة المستوطنين، أيّ تقليل نسبة السكان العرب في المدينة وفق مخطط 2020 الهيكلي من 38 الآن إلى 12 عام 2020. والهجمة زادت سعاراً بعد بداية هذه الهبّة الجماهيرية، وللإنصاف من بعد عملية خطف وتعذيب وحرق الشهيد الفتى أبو خضير حياً في 2/7/2014.

شكلت عملية الشهيد مهنّد الحلبي في البلدة القديمة في 3/10/2015، علامة فارقة في الوضع المقدسي، ووضع البلدة القديمة على وجه التحديد، الاحتلال قام بحملة مسعورة ضدّ البلدة القديمة، وتحديداً ضدّ المحال الواقعة في منطقة الواد، مكان تنفيذ العملية، أغلق عدداً من المحال التجارية، ووضع حواجز عسكرية ثابتة تعيق وصول الناس والمتسوّقين والمتجوّلين وحتى المصلين في الأقصى إلى تلك المنطقة والمحال التجارية، وشلت الحركة التجارية بشكل شبه شامل، وفرضت غرامات ومخالفات على تجار المنطقة بآلاف الشواقل، والوجود العسكري والشرطي والأمني والتفتيشات المذلة للشبان والفتيات خلقت حالة من الخوف والرعب، ناهيك عن فرض القيود على حرية الحركة والتنقل.

وما تعرّض له شارع الواد تعرّضت له شوارع البلدة القديمة وأسواقها كافة، حيث ضرائب المسقفات «الأرنونا» والتي تفوق دخل التجار، صاحب المحلّ وضريبة الدخل والتأمين الوطني وكذلك فواتير الكهرباء والماء ومصاريف الحياة الباهظة. وزاد الطين بلة، قيام الاحتلال بوضع حواجز دائمة على مدخل البلدة القديمة، بوابة دمشق الشهيرة، حيث نصب عشرات الكاميرات وأجهزة الاتصال والمراقبة الأمنية والتجسّس فيها، وبما يجعل المواطن القادم إلى البلدة القديمة من ضواحي القدس أو من الداخل الفلسطيني – 48 – والضفة الغربية من حملة التصاريح، يفكر ويتردّد كثيراً قبل الدخول إلى البلدة القديمة من أجل التبضّع والتسوّق أو التجوّل في البلدة القديمة أو زيارة الأماكن المقدسة والتاريخية والتراثية فيها.

هذه الأوضاع لعبت دوراً كبيراً في شلّ الحركة التجارية في القدس، وبات عند قطاع لا بأس به من التجار وخصوصاً العاملين في السياحة والتحف تكاليف ومصاريف إغلاق المحال التجارية أقلّ كلفة ومصاريف من فتحها، ولذلك اضطروا إلى إغلاق محالهم التجارية لتراكم الديون عليهم، والبعض منهم لم يعد قادراً على تأمين قوته اليومي، ولتصل نسبة التجار الذين أغلقوا محالهم التجارية إلى ما لا يقلّ عن 35 . والمأساة هنا لا تتوقف على إغلاق المحلّ التجاري، بل جزء من هؤلاء التجار يُضطر إلى نقل تجارته ومركز حياته إلى خارج حدود ما يسمّى بـ»بلدية القدس»، وهذا يسهم في تحقيق هدف الاحتلال في تفريغ المدينة والبلدة القديمة من سكانها وتجارها، وبما يحقق أهداف سياسة التطهير العرقي.

صمود المقدسيّين وتجار البلدة القديمة وتشبّثهم بهذا الوجود بحاجة إلى دعم وإسناد حقيقيين، ولن يستطيع المقدسيون ولا تجار البلدة القديمة، الصمود عبر البيانات والشعارات وجمل الإنشاء، ولا من خلال اللجان المشكلة باسم القدس عربية وإسلامية، والتي لا تقدّم شيئاً يُذكر للمدينة المقدسة، فهم الآن في ظلّ الانتفاضة المتصاعدة، التي كان للقدس شرف إطلاق شعلتها وشرارتها، وما ترتب على ذلك من عقوبات جماعية وقرارات وقوانين وتشريعات عنصرية بحق المقدسيين، أضحوا بأمسّ الحاجة إلى أعلى درجات الدعم والإسناد مادياً ومعنوياً. وإذا كانت الحكومات، عربية وإسلامية، غير قادرة على تقديم الدعم للمقدسيّين ولتجار البلدة القديمة، بفعل فقدان الإرادة والقرار والخوف من أميركا و»إسرائيل»، فلا بديل عن تنظيم حملات شعبية على غرار ما قامت به الحراكات الشبابية والجماهير المقدسية والفلسطينية من القيام بحملة تبرّعات عامة لمصلحة إعادة بناء وتوفير مساكن بديلة لأهالي الشهداء والأسرى التي هدمها الاحتلال. حراكات متواصلة على مستوى العالمين العربي والإسلامي وحتى العالم، وعبر وسائل الإعلام المختلفة، حيث يجري تجنيد وسائل الإعلام المختلفة من فضائيات وإذاعات وصحف ومواقع تواصل اجتماعي والكتروني لمصلحة مشاريع محدّدة في كلّ قطاع من القطاعات، على سبيل المثال حملة لدعم تجار البلدة القديمة في تغطية نفقات الكهرباء والماء وضريبة المسقفات «الأرنونا» إلخ… حملة أخرى وفي شهر آخر من أجل بناء مدرسة أهلية وخاصة، أو شراء مبنى أو مبنيين لمصلحة مؤسسة تعليمية، ومبادرة أخرى لدعم أنشطة ثقافية أو تربوية وغيرها. هذه المبادرات إذا ما أحسن استغلالها سيكون لها دور جدي في دعم وتعزيز صمود المقدسيين في مختلف المجالات، ومهما كانت المبادرة متواضعة، فإنها أفضل من أن نبقى نندب ونبكي والقدس تضيع، والبلدة القديمة تهوّد والتجار يغلقون محالهم التجارية لعدم قدرتهم على الصمود.

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى