أوهام الدعاية.. الحرب الجندرية وعبوديّة التعليم

هاني الحلبي

كثيرة هي الأفكار أو الأقوال التي أصبحت، بتردادها الببغائي من دون نقد عميق ومسؤول، قواعد عيش أدنى من الحياة وقواعد موت روحي ونفسي لا يمكنه أن يصيرَ حياة!

هذا الأسبوع، احتفل مدرِّسو لبنان بعيد المعلم والمقصود المدرِّس كما احتفلت نساء لبنان بعيدهنّ بمسمّى «يوم المرأة العالمي». للمعلمين ولنساء بلادي التهنئة بعيديهما الأثيرين اللذين أحيتهما احتفالات عدة متفرقة في الثانويات والمدارس وفي المناطق اللبنانية المختلفة. لكنها لا تغير من واقع المعلم ومن واقع المرأة حقوقياً واجتماعياً ونفسياً وأسرياً ومهنياً، لكنها تفسح ميداناً للوجاهة والتنافس والتنافح على المقاعد الأولى وأضواء الإعلام والمنابر الملوّنة..

من ناحية المرأة، قد أسست أوهام الدعاية فكرتين سادتا طويلاً أولاهما «وراء كل رجل عظيم امرأة»، حتى ظنّت كل أنثى أنها سر عظمة أي رجل. وهذا غير صحيح!! لتكون المرأة عظيمة أو الرجل عظيماً لا بد أنهما محتجان أسرة عظيمة متماسكة أو متقاربة على الأقل روحياً وقيمياً، والأهم أن تكون هذه الأسرة غنية بقيم التقدم والتربية والتحفيز والبناء المنتج. فليست العظمة جينة جندرية، لا في الأنوثة ولا في الذكورة، سوى ما كان نفاقاً جنسياً يتبادله المتسكّعون لاستدراج الآخر. فوراء كل عظيم أو عظيمة أسرة رعت.

ولقد انزلقت جمعية الأمم المتحدة في تسويق هذا الوهم بتسميات عدة، بسبب نظرتها الرقيمة الفردية المادية الجزئية السطحية للحقوق وللإنسان، فنظرت إلى الإنسان من حالاته وليس من جوهره. رأته امرأة وطفلاً وعجوزاً ومعوقاً.. وتغافلت عن الحالات الأخرى التي لم تحفل بها لتحدد لها يوماً عالمياً والإنسان هو كل هذه الحالات والمراحل العمرية وهو الجوهر الجامع بينها وما يفرق بينها فروق فردية أو اجتماعية او أسرية مثلاً..

ألم يكن جديراً أن يكون عيد للإنسان، من حيث هو قيمة مقدسة بذاته، غاية كل نظام يستحقّ أن يبقى ومنطلقه، غاية كل دولة تدّعي دولنتها وأساسها، غاية كل حركة اجتماعية سياسية اقتصادية ومبدؤها؟ ألا يحقّ للجنين، مهما كان جنسه، أن يكون له يوم عالمي؟ والجنين أولى الكائنات الحية، وبخاصة البشرية منها، بالعيد والرعاية والصحة النفسية، لعل الحامل المدخنة والسكيرة والعربيدة والشبقة والمتفلتة من كل حمية أن ترعوي فتشاركه موقفه من تفلّتها وتستفتيه قبل اختناقه بلحظة تخلٍّ حيث لا ينفع الندم؟

اهتمّت الأمم المتحدة بحالات جزئية تستدعي التضامن والدعم لكنها غفلت عن حالات عدة، فلم تهتم بالأرامل ولا بالعوانس ولا بالناشزات ولا بالمتسلّطات ولا بالمصابات بأمراض نفسية ولا يعرفن بها، ويرتكبن ما يرتكبن من جرائها وتحت تأثيرها بلا علاج..

والأدهى من كل هذا أن تلك الأمم المتحدة على ماذا؟ علينا بالتأكيد أنها أهملت الرجل. واعتبرته ذكراً فقط. وإذا كانت الذكورة إحدى وظائف الرجولة البيولوجية، فمن الظلم تعميمها وتعميم خصائصها، بل أخطائها التربوية على الرجولة كظاهرة بشرية. فالرجولة كالأنوثة قيمة بيولوجية وإنسانية وتربوية كبرى لا يجوز الافتئات منهما في أي ظرف ولأي سبب، إذا قصدنا إصلاحاً تربوياً حقيقياً وليس حالة انقلابية جديدة تؤسس لحالة انقلابية معاكسة لاحقة بعدها. وظنت جمعية الأمم المتحدة ومَن يستوحي نسقها المفهومي الرقمي الإحصائي أنها إذا اهتمت بالطفل والمرأة وحدهما صلُح المجتمع وارتقى الاجتماع الإنساني، وهي أغلوطة سائدة لادعاء العصمة، على قاعدة «أنا بريء من دم هذا الرجل». مع العلم أنّ إذا كانت المرأة وكان الطفل ضحيتين للرجل لأوجب علاج عنف الرجل أسوة بعلاج ظلم المرأة وفي الوقت نفسه لإصلاح الجو الأسري والنسق القيمي الاجتماعي وأنماط سلوكه وتوسيع قيمه المحمودة وتقليل المذمومة! فلا يمكن أن تعالج المريض المصاب بالعدوى من دون مكافحة الفيروس نفسه والبيئة المحتضنة له.

والإنسان بمعناه الأدق ليس هذا الفرد الذي تسوّق له الجمعيات الدينية كافة أنه عبد وكفاه الله شر التفكير والتطلع ومثلها الجمعيات غير الحكومية المتعهّدة برامج دولية لتنفيذها على حساب حركة إصلاح وطني اجتماعي صحيح، فيكون إصلاحها المزعوم على حساب الانتماء والترابط المجتمعي الواحد.

الإنسان هو مجتمع. هو أيضاً بيئة اجتماع حي ونامٍ متكاملة بشراً وطبيعة بشروطها السليمة للحياة. هو أيضاً النظام العام حقوقاً وواجبات الذي يحدد سمات الإنسان والمواطن، فيحرص عليها ويحميها أشخاص المجتمع ومواطنوه كافة، فلا يمكن نشر شرطي لكل مواطن، إذ لا بد من كون كل مواطن خفيراً على نفسه وعلى غيره، ولا يعني كونه خفيراً أن يكون عسساً ومخبراً للسلطة السياسية وأجهزتها، بل يعني أن يكون حريصاً وحارساً طوعياً لسلوكه وذاته وتصرفاته وديمومة صلاحية البيئة العامة وفعالية النظام العام، وفق مبدأ العقل شرع أعلى!

«مَن علّمني حرفاً صرتُ له عبداً»!!

وهمٌ آخر من أوهام الدعاية الشعبية تداولته الأجيال، ويكثر تقديمه مثلاً وقيمة على العرفان بجميل العطاء والوفاء للمعلم. وإن كان فيه مجاز يتيح لمستخدمه أن يبرر ما يقصده من العبودية لكن أية عبودية ليست حرية، ولا يمكنها أن تكون حرية قط. قيمة التعليم ليست في تكريس قداسة المعلمين ولا في استعبادهم تلاميذهم ولا في ألوهية المفاهيم والعلوم التي يعلّمونها ويقدّمونها. قيمة التعليم الوحيدة هي التمرين على الحرية. التمرين الأولي على الثورة على كل قيد يعطل الروح المقدامة والعقل المفتوح وسع الكون. في مرحلة كل قانون علمي كان الناس يعتبرونه أنه منتهى كشوف العقل ويطلبون دوام نعمته. لكن العقل كان يعرف أنه قدّامي ويشرع بفتح صفحة مذهلة جديدة فإذا بالقانون الجديد يعتبر سابقه وهماً أو حالة خاصة لا تصح أن تكون قانوناً عاماً ينبغي أن نخضع لها باستمرار.

القدرة على الابتكار هي سرّ كل تعليم وتعلّم وأي تعليم يقودنا إلى عبودية هو قناع الجهل المتنكّر بالحرف. يبقى الجهل أقل ضرراً وإفساداً من تعليم كهذا!

ألا ترون قلة الأحرار بين المتعلّمين لكثرة قرعهم أبواب النافذين؟ وهم لو شاؤوا لأوجدوا ثورة حقيقية غيرت التاريخ!

كان العثمانيون يحتقرون المعلمين ويهزأون منهم. يصفونهم بمعلمي صبية ويعتبرون الرجل مخنثاً او معطوباً لو علّم الصبية. هذا شأن الأمهات والنساء فقط. سياسة خبيثة لتحقير الحرف والكتابة والدراسة وتعميم الأمية والذكورة الفارغة.

وما زال العثمانيون بيننا كثراً أفواجاً أفواجاً، يكرّسون إقطاعية مذلة للإنسان الحر ويقتلون حرية المواطن.

مَن علّمني حرفاً أنار روحي بنور الحرف ففتح جلجلة الحرية والوعي وسلالم السمو أمامها فأرتقيها بخفّة فراشة وقوّة نسر!

ناشر موقع حرمون haramoon.org/ar

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى