عبد الحليم حمّود يختار أناه… أنانا… لفتح باب آمن والخروج من إطار اللوحة!

النمسا ـ طلال مرتضى

أقول إن أيّ عمل أدبيّ أو فنّي لا يمثّلني، يشاركني حياتي فهو أجوف. ليس إلا قصيدة منظومة بعناية عارف في فنّ معمار الشعر، خاوية من الصور الحسّية التي تنعكس وتستعير منّا، فهي بالمقاييس قصيدة، لكنها جوفاء. والقصة التي تطابق معايير كتابتها تركيب القصة، من حبكة منتقاة، وآلية سرد متقنة بحرفنة كاتبها، حيث حملها على اللغة من دون أن يدغمها بأيّ جانب يمتّ لإنسانيته، هي قصة أيضاً.

والأمر عينه لا ينجّي الفنان التشكيلي الذي قلّما تبهره غواية اللون على حساب حساسية اللوحة المراد اجتراعها. هي لوحة، لكن الرائي المراقب يمر بها مثل عابر سبيل لا يأبه لمفاتن الطريق. وهنا، لا بدّ من وضع نقطة آخر السطر كمدلول لماهية حيواتنا المبعثرة بسلطة الحبر واللون. كي ننجو بحساسية، ولو يسيرة عمّا هو مفرز الآن في الساحة الأدبية والثقافية العربية. البحث عن الذات، أو الأنا، في ما هو منتج، يخضع لمقاييس وإرهاصات نعيشها في اليومي من حياتنا، بدءاً من رهافة أرواحنا والتي تساعدنا في تحسّس كلّ ما هو مدلول، عن طريق افتعالات الحواس والتي تقودنا إلى الدليل المادي أو الحسّي من دون مواربة. فمثلاً: إن وقوف شخص ما، أمام أيّ عمل أدبيّ أو لوحة، ولا يجد فيه شيئاً منه، بمعنى آخر لا يكون هذا العمل انعكاساً لروح المتجلّي أمامه، بمعنى مرآة لأناه، فهو بدع غير مكتمل الحواس. فالعمل الفني يمثل من ابتدعه بكامل حواسه، والتي هي انعكاسنا من دون تحيّز لسلطة الحزن أو الفرح. «سكون أيقوني» معنون شعريّ بامتياز، ممعن بهالة مخملية دافئة لا تشي لقارئه إلا بلبوسها الأرستقراطي، وهذا ليس أكثر من رجع للمعنون، داخل تلافيف ذاكرتنا المتخمة بأناها وحدها، تأخذ القارئ نحو نواص مترفة بغواياتها الخاصة.

إلى أن يتم الصدم غير المفتعل بين المعنون أعلاه، والمبدع الذي اجترعه. وهما معنونان متضادان بمشتهى اللغة والواقع، «سكون أيقوني» وعبد الحليم حمّود، فالأخير لم يكن يوماً إلا مثل زهرة، فلقت صخرة صلدة لتتلمس الشمس، ويشي هذا من خلال المقاربات الواقعية والعملية، إلى أنه الفنان الصيّاد الذي يقرأ جوانية قارئه وسلوكياته، قبل أن يشنق لوحته على مشجب قارئها. وهو سبيل ابتدعه حمّود حين بدأ بقراءة نفسية متلقيه، كون الأخير جزءاً من منظومة معاشة خاضعة لظروف الحالة التي تمر بها بلداننا. في معرضه الذي يفتتح أول نيسان 2016، في صالات قصر «الأونيسكو»، ترك حمّود لرائيه حيّزاً كبيراً من الشراكة، من خلال موضوعات تلامسه إلى حدّ الاختلاط والتماهي مع اللوحة المقروءة، عبر إسقاطات بغاية الحساسية، زجّها الفنان داخل الإطار، الذي يشي بحدود المتاح لنا، من دون أن يترك هامشاً كمتنفس على الأقل للادلاء بحيادية المتلقي النرجسي، هذا ما يجعل الأخير سطوة لغواية الفنان الذي تركه يجترع من دون دراية عناوين تخصّه هو وحده لكلّ عمل يراه، والبحث عن منافذ خلاص عبر تلمّس اللطاخات الزرقاء كدليل للصفاء، وعن فلوات أكثر عمقاً من تلك التي تركها حمّود مشرعة، إلى ما بعد الهوامش من البؤر الرمادية، الغالبة إلى السواد، التعب، وسرمدية القادم الغائم، وهذا الذي قلّما نجده في معطى أدبيّ أو فنّي آخر. يستدعي المتلقّي المنعكس في اللوحة للاستنفار والبحث عن وسيلة خروج بأقل خسائر، بعد التوصل إلى قناعة تامة، تشي بأن هذا المخلوق ـ أي الإنسان ـ الذي اجترع كل شيء على الأرض، من أدوات تحاكي السلم والحرب، ليس سوى مخلوق ضعيف، أوهن من عصفور حبس في قفص، وذلك عبر قناعة تدلي بأننا محبوسون داخلياً بلواعجنا وهمومنا، أو أن هذا المتجبر بسلطة كرسيه، وماله وأنانيته، قد تغويه وردة قابلة للذبول في «أوكواريوم» ذي فوح. عبد الحليم حمّود، فنان لم تلامس أعماله خطوط العالمية، لا لعدم أهليتها الفنية، بل لأنه فضّل البقاء في الظل ـ أي إنسانيته ـ الذي استوحى مشغولاته من عباءة محيطة، على هالات الضوء المزيفة، التي تشعّ بأحمرها، القابلة للانكشاف في أيّ وقت.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى