محمد العبدالله… وجعٌ لاحقٌ

بلال شرارة

هناك رقابة مسبقة، تتوقع موتنا وتُحبِّر أجسادنا وتلفّها بأوراق جريدة، هي تكون مستعدّة لجنازاتنا، تحملنا على أكفّ لغتها الثقيلة، المحنطة. تكون قد كتبتنا بشكل مسبق قبل أن نلفظ أنفاسنا، ونحن سنكون قد زحنا من طريق مجدها، أرحنا واسترحنا .

بالمقابل هناك لغة لا ينهمر حبر أقلامها، إلا إذا وقع الموت على أحدنا، فهي تكتب بعد أن نُوارى الثرى وقبل مرور أسبوع على موتنا.

أنا لستُ من النوعين، أنا يتأخّر حزني، أحتاج إلى وحدتي لأحزن لأستعيد مشاهد وذكريات عن أوقاتنا المحفوفة بورق الزجاج، إلى اللحظات التي كتبنا فيها أنا والميت مسودّة حياتنا، أمسهم الذي أغلقوا خلفه الباب دفتر خرطوشي ، لذلك أنا لا أحتج في الحالين الآنفي الذكر مع علمي أنّ الكتّاب السوبرمانات – الخمس نجوم لن يجدوا في الغد حبل غسيل يعلّقون عليه مقالاتهم.

أنا والحمدلله الذي لا يُحمَد على مكروه سواه، أنا، لم أعد أشارك في الجنازات ولا في العزاء ولا في جلد الموتى منذ أن نشفت لغتي لكثرة رثاء مَن غادرنا مِن أصدقاء سبقونا إلى نومهم الأبدي الثقيل، وتركوا لنا لغة ولا أحلى، داعبوا في نسائم لغتهم صباحاتنا ولم يتركوا شيئاً من… خيرهم إلا وكتبوه: أشجارنا، أطيارنا، بلداننا، جدّلوا في مخيّلتهم شعر النساء، رسموا بالشعر ومض الشهوة في عيونهن وهمسوا في سرّهم عن ربيع خصب أجسادهن. وتمتموا عن كرز ثغر المرأة المنتظرة وعن حفرة القبل في غمازة وجهها.

بالأمس أنا لم أمش خلف جنازة محمد العبدالله تركته يمشي وحيداً، لم أضع مازة الذكريات عنه أمامي على مائدة الدردارة، ولم أشرب قهوة التذكّر مع الذين يعرفون والذين لا يعرفون. فقد صرت أعجز من أن أواري أصدقائي جدث الرحمة، ولم أعد أتحمّل وصول أخبار رحيلهم إلى نقطة الانكسار وأنه لم يعُد منهم نوى .

طيّب، محمد العبدالله كان يعرف موته، ليس لحظة موته بالضبط، ولكنه كان يعرف أنّ الأمر انتهى، وأننا نحن معارفه نكسب أوقاتنا في الأمكنة النائية عن جسده الملقى في غرفة مهملة ونرمي همّنا في البحر، وإذا داهمنا أحد بالسؤال فإننا ننسى أنّ المتلقي يحب لغة خطابنا ولا يخاف من صراخنا ولا يصدق أنّ الفاجر يأكل مال التاجر . الأمر نفسه كان يعرفه عبد الأمير عبد الله وبالتأكيد غازي قهوجي وجوزيف حرب وقبلهم عبد الرحمن الابنودي وزميل الهم والعمل زهير غانم. ولم يكن أحد منهم يريد أن يلمس عواطفنا المهترئة ولا أن يتحمّل شفقتنا بأن نجمع له عفواً لعائلته مالاً. ولا كانوا في حياتهم يهتمّون لارتجاف لغتنا في مناسباتهم.

أزعم أنه كانت لي علاقة كتابة واحترام وتقدير مع محمد العبد الله وعبد الأمير عبد الله وجوزيف حرب وغازي قهوجي و… و… صحيح لم أذهب إلى تكريم محمد العبدالله في المكان الذي باعوه فيه كتاباً ولم أمش خلف نعشه، ولن أستمع اليوم أو غداً على طاولات المقاهي البيروتية إلى سمسرات الكلام عن حياته ورحيله ووجعه قبل موته وبعده !

أنا ياما سهرت وإياه والحاج علي ومحمد جميل زريق ليالي، ياما سهرنا إلى مطلع الفجر ولم نرتد لا هو ولا نحن بيجامته الزرقاء وأنا درتُ على حِل شعري مع عبد الأمير في الليل البهيم، ولم يكن في طرقات ضيعتنا عفواً بلدتنا عفواً مدينتنا إلا حمار ربما نغل للمرحوم موسى السيد محمود. نحن، عبد الأمير وأنا، تحدثنا إلى الحمار من جريح قلبينا بوجدانٍ صافٍ لم نكن قد أكلنا لقمة واحدة طوال ذلك النهار ونصف الليل، كنا على بعل لا نملك شروى نقير ثم ذهبنا وجه الصبح إلى بيتينا. بعد سنة ألقى عبد الأمير القبض عليّ متلبّساً بالبصبصة على واجهات محلات الملبوسات في الحمرا التي كان يحلو لي أن أراها، أن أصيبها بالعين، طالما لا أستطيع أن اشتريها. يومها أتذكّر قال لي عبد الأمير إنّ بعض الكُتّاب يحاولون سرقة حكاياتنا عن صديقنا النغل فعجل واكتب سيرته أممه يا سيدي ؟ ذهبت وكتبت حتى مطلع الفجر وفي خاتمة الحكاية أتذكّر أنّ النغل انتحر بعد أن أخذ المرحوم أبو فؤاد يزقّ – أي ينقل على ظهره أحجار البناء لإعمار الطابق الثاني من ثانوية بنت جبيل.

أتذكّر أنّ جوزيف حرب لم يعترف البتة بمرضه ولم يقدّم إجابة حتى إلى باسم عباس الذي كان بمثابة وجدانه الأنقى عن سبب نحوله. أتذكّر كم حدثني جوزيف عن الثقافة الاستهلاكية.

أتذكّر كم تجنّب غازي قهوجي في أسابيعه الأخيرة إزعاج نقيق الضفادع العجوز في المقاهي، ولم يكن يسرّ بالكلام إلا لكبيرنا زهير جيباوي ولم يكن يتيح إلا لنعمة بدوي ولي زيارته. وهو قبل موته سأل ابنه حسين إذا كنا ناصيف سقلاوي وأنا قد حضرنا جنازته!

أتذكّر كان عبد الرحمن الابنودي يزورنا كلّ عام، يقف في أهبّة الشعر على مسرح الملعب الروماني. قال مرة أنا لم أعد أعرف ماذا قرأت هنا وماذا لم أقرأ. نحن حفظنا عن ظهر قلب حراجل القط والعمة يمنة هو من المطار إلى المطار في الجنوب، في بيروت ليلة واحدة زرنا منزل الشاعر محمد صفي الدين في الحدث وعندما مات الابنودي ادعوه ! زعموا أنه زارهم، أتذكّر عندما ذهبنا إلى مصر أنّ نصف وفد الحركة الثقافية قدّم التعازي لعائلته في الإسماعيلية، النصف الآخر بقي يتسكّع على حرجاج مطلّ على النيل. المهمّ أنّ الابنودي مات عزيزاً في قومه، ودّعته مصر الرسمية والناس. صديقي زهير غانم، الشاعر والفنان التشكيلي والناقد، كتب الشعر بالعرض، أخرجه من كمّه، كان يعرف آفات الشارع الثقافي العربي، كتب الكثير ما قرأناه وما لم نفعل. أقول لولا التمويل الحزبي لمجلتي أمل والعواصف لما وجدنا حبلاً نعلّق عليه غسيل كلامنا. يوم مات زهير غانم ذهبنا شوقي بزيع وأنا ومشت معنا ريشات فنانات تشكيليات في وداعه إلى بسنادة – اللاذقية . وكان صوته المتحشرج رغم الموت يردّد قصيدته: اللاذقية امرأة.

في كلّ الحالات، أنا لديّ الكثير من الحكايات ربما أقولها وأفضح الأكاذيب التي تسكن في المكان أو أطنّش ، طالما أنّ النار تشتعل في أطراف أثواب أعمار الذين لم يبق من جمهورهم إلا النادل في هذا المقهى أو ذاك.

أخيراً، سأترك لمحمد العبدالله أن يهدأ بعد عاصفة حياته الصاخبة وأن ينام.

عفواً يموت . فقد أتعبته وأنا أدخل منه إلى مسالك ومهالك الأحياء والأموات رحمهم الله.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى