حلب… مسرح الصراعات الجوهرية والظرفية

د. هلا علي

عندما تشتدّ الدموية وتبلغ الوحشية أقصاها، هذا يشي بأنّ النهاية قد اقتربت. هذا في الملاحم والأساطير. لكن هل ينطبق هذا على الواقع أيضاً؟ هل سيكون المشهد الحلبي الدموي هو آخر المشاهد السورية وخاتمها؟!

ربما لا يمكننا الكتابة عن أيّ جزء من سورية الثكلى اليوم إلا بالكثير من العاطفة والقليل من المنطق، فدموية المشهد فاقت الحدّ. واليوم لا أكتب عن حلب لأنها حلب الجريحة النازفة، ولم أكتب قبلاً عن حمص، التي كانت تحتضر، لأنها حمص، ولا أبكي دمشق وغوطتها أو حماه أو دير الزور أو أية محافظة سورية إلا لأنها عضو من الجسد السوري الذي يُراد له أن يتجزّأ ويتمزّق ويتشظّى ويدمى. السوريون كلهم أبناء سورية الثكلى الغارقة في دمها قبل دموعها. أسبوع واحد، خمسون شهيداً وخمسمائة مصاب في حلب حتى اليوم. أسبوع فيه من الموت أكثر مما فيه من الحياة. دي ميستورا يدعو لإنعاش الهدنة، وكيف يمكن إنعاش جسد ميت؟ هل كان إعلان الهدنة المتزامن مع إطلاق محادثات جنيف صدفة؟ وهل يمكن الفصل بين الدموية اللامعقولة في حلب وفشل المحادثات واعتبار هذا التزامن أيضاً وليد صدفة؟! حسناً، لماذا يدفع المدنيون الأبرياء الثمن؟ وهل يتساوى هذا الذي ينتظر في فندقه الوثير مفاوضات عقيمة لا طائل منها، وذاك الذي ينتظر جثة ابنه أو ابيه أو أخيه، وربما أشلاء فقط، ليدفنها ويزورها باكياً على وطن تتصارعه المصالح؟

حلب ابنة الحضارة التي كانت لاعباً أساسياً في الفن والسياسة والاقتصاد والزراعة والصناعة والتجارة أمست ملعباً للاعبين محليين واقليميين ودوليين. باتت مسرحاً لتصارع المصالح العربية والغربية، الدينية والعلمانية، التقليدية والليبرالية، القديمة والجديدة. مسرحاً مأساوياً لكلّ أشكال الصراع والاقتتال على مرأى من الدول راعية حقوق الإنسان والليبرالية والديمقراطية التي لا تأبه بدم أبرياء يُراق من أجل تحقيق مصالحها.

على أرض حلب يمكن للمراقب اليوم أن يشهد صراعات قوى واتجاهات مختلفة وانتقامات متناوبة ومتبادلة. صراعات منها الجوهري الأساس essential الذي يظلّ حاضراً على الدوام مهما كانت الظروف والملابسات، كالصراع الأميركي الروسي مثلاً، والسعودي الايراني. وصراعات أخرى ظرفية طارئة conjectural كالصراع بين الفصائل المسلحة بين بعضها البعض، وهذه صراعات يتمّ توظيفها بحسب الحاجة والموقف الحالي، يخلقها الحدث ويصنعها الظرف.

بين كلّ ذلك تنزف حلب. فهناك الصراع التركي الكردي، والاميركي الروسي، والسعودي الإيراني. وغير ذلك من صراعات محلية واقليمية ودولية. والحقيقة انّ هذه الصراعات لا تني تعبّر عن نفسها كلما دعت الحاجة وأينما وجدت مسرحاً لها. المدفعية التركية التي قصفت معقلاً هاماً للأكراد في ناحية راجو بعفرين ترجمت الاستخدام التركي للساحة الحلبية لتذكر الأكراد بموقفها المعادي لوجودهم. الصراع السرّي حيناً، العلني حيناً آخر، بين إيران والسعودية يفصح عن نفسه في دموية القتال بين «جبهة النصرة» المتصلة بتنظيم «القاعدة» المدعوم سعودياً والجيش السوري الذي يلقى تأييداً من إيران. الطموح السعودي الذي برز مؤخراً في تحدّي إيران كقوة مشرقية كبرى وجد في الساحة السورية والمشهد الحالي الحلبي فرصة للتعبير عن ذاته.

الاتفاقات والمحادثات والتسويات التي جرت بين بوتين وأوباما والتي أوحت باستقرار المصالح المشتركة للقوتين العظميين، لا تعني انتهاء الصراع الأميركي ـ الروسي الجوهري. يبدو سيد البيت الأبيض متخبّطاً أو في أحسن الأحوال غير مبال بما ستؤول اليه الأحوال في سورية، كما أنه يبدو كمن يصارع الوقت كي تنقضي ولايته ويخرج من المأزق الذي أحدثته تفاصيل «الربيع العربي» وتبعاتها. أوباما الذي أعلن في ما سماه «عقيدته» أنّ محاربة الارهاب يجب أن تبدأ بجدية، معتبراً أن السعودية وتركيا شريكتان في عرقلة محاربة الإرهاب، لا يأبه اليوم بترجمة فعلية لإنهاء الأعمال الإرهابية، فيقف موقف المتفرّج إزاء ما ترتكبه «جبهة النصرة» في حلب منذ أسبوع منتظراً ما ستكون عليه الخاتمة. والروسي ينتظر الفرصة المؤاتية ويستعدّ للقيام بدور ما مباشر أو غير مباشر على الأرض السورية، إضافة الى الدور الكبير في محادثات جنيف، الأمر الذي يبقي الطرف الروسي لاعباً أكبر في المشهد السوري. وسط ذلك كله تنزف أحياء المشارقة والسليمانية وتتسارع وتيرة القصف المتبادل، «داعش» تسيطر على عدد من القرى في ريف حلب الشمالي القريبة من الحدود مع تركيا، فصائل «أحرار الشام» تتراجع أمام «داعش». و»الجيش الحر» هدّد الجيش السوري بتوسيع دائرة القصف وهذا ما حدث، فالقصف هذه المرة طال أحياء كانت توصف بالآمنة نسبياً، وشدة الضربات التي فتكت بالمدنيين كانت واضحة بالكمّ والكيف.

قد تكون حلب المشهد الأخير في هذه الملحمة الدموية التي استمرّت أكثر من خمس سنوات. هذا لا يعني أنّ أشكال الصراع القديمة الجديدة ستنتهي، ربما تتخذ شكلاً آخر. يتوقف هذا على ما ستحمله المرحلة المقبلة وعلى ما ستنتجه اللقاءات الروسية الإيرانية السورية. الروسي يتطلع الى حضور يسجله التاريخ، السعودي يريد دوراً منافساً للإيراني، حزب الله يعلم أنّ حسم الأمر في سورية يوفر على لبنان دموية متوقعة. السوري يريد ابنه سالماً ووطنه آمناً لا تعنيه النظريات السياسية والمصالح الكبرى، يريد ألا تتسبّب الحرب بتحويل الصراع الى صراع داخلي. ويبقى الأمل ألا ينسى أيّ مواطن سوري في أية محافظة أنّ الجسد السوري وإنْ أصبح جريحاً نازفاً، الا أنه واحد غير قابل للتشظي. ويكفي الثمن الذي دفعه السوريون وما زالوا، بمختلف طوائفهم وأديانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم لقاء حروب دونكيشوتية استنزفت الروح والأرض. السلام والسلامة لحلب وأهل حلب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى