في «جنون الحبّ»… غريزة العشق والقتل بئرها واحدة وحاملها الشغف!

النمسا ـ طلال مرتضى

من البديهي أن تستهجن، أو لربما تمتعض أو تشعر بالحنق حينما تجد أنك وقعت في مصيدة الكاتب. وهي أن يأسرك عنوان لكتاب ما، تعبره من دون اكتراث، لكنه يبقى عالقاً في مخيّلتك وقد تشعر بنكزة داخل روحك تحفّزك على السؤال: أما أغواك المعنون الذي لم يزل ينبّه تلافيف دماغك متل قطعة سكّر تذوب فوق حليمات لسانك؟

لعلّ الأمر بغاية السذاجة بالنسبة إلى القارئ الشغوف. لكن الصدمة أن يشتري رواية ما، وقع تحت سطوة عنوانها ليجد عنوانها الداخلي لا يمتّ للعتبة الخارجية بِصلة مطلقاً. وهو ما حدث لكثيرين ابتاعوا رواية «جنون الحبّ» للنمسوي ستيفان زفايج. بمعنى أن ستيفان أضاف على محتوى رواية «جنون الحبّ» رواية أخرى معنونة بـ«24 ساعة في حياة امرأة»، والتي صدرت عن «دار الهلال» المصرية آنذاك… عام 1972.

لربما يتساءل البعض ما جدوى الحديث عن مروية مرّت على صدورها اليوم أربعة عقود. وقد تطرّق النقّاد إليها في الكثير من الكتابات والقراءات وإلى هذا الوقت. وأجزم أن هذا يحصل لسببين مهمين وهما:

ـ يعدّ ستيفان زفايج 1881 ـ 1942 من أبرز كتّاب أوروبا في بدايات القرن الفائت المرموقين. إذ إنه اشتُهر بدراساته المسهبة التي تتناول حيوات المشاهير من الأدباء أمثال: تولستوي، ديستوفسكي، بلزاك، رومان، ورولان. فيتناول الشخصية بحيادية ويكشف حقيقتها كما هي من دون رتوش وفي الوقت نفسه يميط اللثام.

ـ أسلوبية ستيفان وطريقته الممتعة الشائقة بسرد حكاية المرويتين من حيث الحبكات والوقفات والتنبيهات للقارئ الذي يحوّله شريكاً فاعلاً في الكثير من الأحيان ليتخلص من رقابته. وقد قال عنه العالمي هيمنغواي: زفايج معجزة سردية وتحليلية تجبرك على متابعتها.

قصص عشق عاصفة…

بين دفّتَي المطبوع روايتان تحت معنون رئيس «جنون الحبّ»، يتلمس القارئ حالة الجنون الغريزي لدى أبطالها. وهي نوبة تتحوّل إلى عصف إجراميّ لا يمكن للمصاب به السيطرة على ذاته. والمفارقة هنا أن كلا القصتين لا تتشابهان، إلا أن ستيفان ترك بينهما خيطاً رفيعاً يربط في ما بينهما. ألا وهو الحب العنيف الذي يتعدّى مرحلة الشغف ليصل إلى درجة الهوس فالجنون.

فالقصّة الأولى تتحدّث عن السيدة «هنرييت»، وهي امرأة متزوجة وأمّ لشابتين. هادئة ومتماسكة. وفجأة، تهرب مع شاب جذاب وساحر، لم يمض على تعرّفها إليه أكثر من 24 ساعة، وقد التقت به في فندق كانت تؤمّه وعائلتها في منطقة الريفييرا الفرنسية. وهذا ما جعل من هروبها فضيحة شنيعة في هذا المجتمع الأرستقراطي.

وهنا، يأتي دور الراوي الذي ينبري في الدفاع عنها ويختلف مع الآخرين حول إصدار حكم بحقها من دون معرفة دافع هربها. الأمر الذي شجّع نزيلة إنكليزية لأن تقرّر الاعتراف بقصّة تؤرّقها عاشتها خلال 24 ساعة قبل عقدين من الزمن. حدث ذلك بعد وفاة زوجها، حيث الفراغ الذي قادها إلى ملاهي القمار لتلتقي بشاب عشرينيّ، خرج للتوّ من خسارة كبيرة. وقد قرأت مليّاً بأنه متّجه لوضع حدّ لحياته، فتتدخل وتنقذه من هاوية الانتحار وتمضي معه يوماً كاملاً وتُشبع لذّتها.

وهو ما يُعدّ خرقاً فادحاً لامرأة من الطبقة الأرستقراطية آنذاك. ولم يتوقف الأمر هنا، بل قرّرت تسديد كلّ ديونه مقابل أن يترك المغامرة ويعود إلى بلاده، حيث ذهب معها إلى الكنيسة وأقسم بأنه لن يرتاد أماكن القمار مرة أخرى. ثم أنها ذهبت إلى محطة القطار وقطعت له تذكرة للسفر والابتعاد من هنا. لكن هناك هاجساً دغدغ هواجسها جعلها توضّب حقائبها لتلحق به، ما حدا بها التوجّه إلى المحطة للمغادرة، لكن الحظّ شاء أن يغادرها القطار، لتعود مكسورة إلى الفندق فتُفاجأ مصعوقة بأن توبة صديقها كاذبة، وأنه عاد إلى المقامرة من جديد، إنّما بنقودها هذه المرّة.

وفي القصّة الثانية، تنجذب امرأة لشاب أوقع بها وسعى إلى خوض مغامرة تبادل الحبّ معها. وتستسلم له وتوهن أمام لفيح شهوتها. لولا ابنها البالغ 12 سنة، الذي يمنعهما من الخوض في هذه المغامرة بملازمته إياها وعدم تركها وحدها كفريسة سهلة لذلك الشاب المتعطّش لإرواء نزوته.

إعادة هدوء وقوّة ملائكية

يقول ستيفان في إحدى مقالاته: للحبّ القوة الملائكية نفسها التي تدفعنا إلى فعل المستحيل. للحب القوة نفسها في إعادة الهدوء وتخيّل التضحية والفداء. ليس كل ما يستطيع الإنسان تحقيقه يتأتى بالسهولة نفسها التي يتأتى بها مع الشعور بتلك القوة المستمدّة من الحبّ.

انطلاقاً من المقولة، نقرأ سرّ مغامرة كلّ من المرأتين. والذي يتجلّى بأن صراعاً داخلياً يكمن في روحيهما الحاملتين الرغبة. أو دافعاً دفيناً بأن تشتهي وتحبّ وتُمتلك جسدياً، وذلك منبته دوافع فيزيولوجية متأصلة في طبيعة المرأة كأنثى، وأيضاً يمثل الجانب السيكولوجي العربة التي تتحكّم بكل كيانها الفيزيولوجي، فإما أن توجّهها نحو إشباع لذّتها أو كبحها. وهنا في هذه الرواية، يصوّر قوة غريزتها والدافعية التي تجعلها تضرب بعرض الحائط تحديدات المجتمع والثقافة التي تكبح جماح هذه الشهوة المتأصلة فيها . وهذا ينطبق على الشاب المغامر، شغف المغامرة، ما يؤكد هنا أن غريزة النفس هي ذاتها، مكمن الحبّ أو الجريمة.

الروسي الكبير غوركي قال إنّه لا يتذكر أنه قرأ أعمق من تلك المرويّة.

بالتأكيد كان يقصد عمق التحليل النفسي لبواطن النفس البشرية، التي اجترعها زفايج التي فاقت جمالية أسلوبه السردي كل الرواة. والتي اتاحت للقارئ الاستمتاع بما قرأ.

سيناريوات معدّة مسبقاً

في الخلاصة، والتي قد تنسف كل ما تقدّم، وذلك من خلال السؤال الذي لم يطرح خلال العقود السالفة، وهو أن السيدة التي حاولت إنقاذ المغامر، صرّحت بأنها سألت ذات مرة عن مصيره، إذ وصلها الجواب المتوقع بأنه مات انتحاراً. وللبيان، أنّ رواية «24 ساعة في حياة امرأة»، هي آخر ما كتبه ستيفان زفايج قبل انتحاره هو وزوجته وكلبه. والسؤال الآن: هل تقمص ستيفان دوّر المغامر؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى