نظرية فيلدمان… بعض الحقائق عن تجربة الإسلام السياسي في تركيا

هشام الهبيشان

انّ الحديث عن تجربة ما يسمّى «الاسلام السياسي» في تركيا يعيدنا إلى أطروحات المتصهين نوح فيلدمان، الذي كانت نظريته تقوم في الأساس على انّ العالم الإسلامي هو الشريك الأمثل للحضارة الغربية، فلا يرى فيلدمان العالم الإسلامي كخصم في صراع الحضارات، اذا تمّ وضع جماعات اسلامية بفكر غربي تحمل شعارت إسلامية في رأس هرم السلطة في عدة بلدان، فإنْ نجحت التجربة يتمّ تعميمها على أكبر عدد ممكن من الدول العربية والإسلامية، وحينها ستكون هذه الأمة شريكاً أو حليفاً محتملاً في النظام العالمي الجديد «بشرط استمرار التبعية طبعاً»، فيرى فيلدمان أنّ الحلّ الأمثل لاحتواء العالم الإسلامي وتفادي صراع الحضارات، والقضاء على الإرهاب الإسلامي «والمقصود بالإرهاب الإسلامي من وجهة نظر فيلدمان ليس داعش ومنتجاتها، بل كلّ فكر مقاوم يعارض تمدّد المشروع الصهيو الأميركي في منطقتنا العربية والإسلامية».

وهنا يقول فيلدمان انه تمّ اصطناع هذه الجماعات المتأسلمة لتكون هي الضامن لتوفير مناخ مناسب لاستمرار أمن دولة «إسرائيل»، فكلّ هذا ممكن إذا أمكن استعادة دولة الخلافة الإسلامية حسب ما يقول فيلدمان.

طبعاً، فيلدمان لا يرغب في دولة خلافة مثل الأموية أو العباسية مثلاً فهذا يعتبر تجسيداً لكابوس صراع الحضارات في أسوأ «سيناريواته» بل ولا حتى بنوع من الاتحاد الاقتصادي على غرار الاتحاد الأوروبي – حيث أنّ ذلك قد يؤدّي إلى خروج العالم العربي من التبعية للغرب، فنظرية فيلدمان حول «صعود الدولة الإسلامية» ترى أنه من الممكن الحصول من العرب والمسلمين على كلّ ما نريد، بدون عنف وبأقلّ تكلفة، إذا أمكننا ايهام المسلمين أنهم أصبحوا أحراراً ولهم كرامة عن طريق زرع جماعات اسلامية في هذه الدول تنادي بتطبيق الشريعة الاسلامية، وذلك ممكن عبر إيجاد نوع مختزل مما يمكن وصفه بدول خلافة اسلامية – يكون فيها للشريعة الإسلامية مكانة متميّزة، وإنْ كانت شكلية، ويقول فيلدمان إنّ سيادة الشريعة الإسلامية كقانون يحترمه ويقدّسه الجميع «قد تكون وسيلة أسهل وأقلّ تكلفة كي نجعل المسلمين يفعلون كلّ ما نريد وهم يظنون أنهم يفعلون ما يرضي الله ورسوله.

هذه النظريات التي يتحدث عنها فيلدمان، وجدت صداها في العالم الاسلامي، ومن اوائل الانظمة التي تنتهج منهج ما يسمّى بـ «الاسلام السياسي» هو النظام التركي، ففي تركيا ولدت مجموعة أحزاب ذات توجهات إسلامية وبدأت هذه الأحزاب مع نجم الدين أربكان عندما أسّس في عام 1970 «حزب النظام الوطني»، حيث وللمرة الأولى احتوى برنامج حزب سياسي تركي صراحة على موادّ لها طبيعة دينية وهو ما أدّى إلى حظره من قبل القضاء بعد أقلّ من عام على تأسيسه، وقد شكل هذا الحزب الأساس الحقيقي لسلسلة أحزاب الإسلام السياسي لاحقاً، فكان حزب السلامة الوطني ومن ثم الرفاه والفضيلة والسعادة وأخيراً حزب العدالة والتنمية بعد أن انفصل كلّ من رجب طيب أردوغان وعبد الله غول عن معلمهم أربكان وأسّسا حزب العدالة والتنمية عام 2001، وهو الحزب الذي يحكم تركيا منذ عام 2002 لليوم.

فاليوم تركيا أصبحت بين مطرقة الإسلام السياسي المتمثل بالطابع الإخواني وسندان العثمانية الجديدة بتطلعاتها المستمدّة من التاريخ والجغرافيا وهذا ما يؤكد أنّ تركيا أصبحت في محنة جديدة لها علاقة بالهوية والنظرة إلى الخارج انطلاقاً من تحديد الذات والمشروع المستقبلي لتركيا وعلاقتها بالمنطقة، وخصوصاً أنّ المطلوب من حزب العدالة والتنمية غربياً هو تعميم تجربة «الاسلام السياسي» في المنطقة خدمة للمشاريع الصهيو أميركية، فإذا نجح بتعميم تجربته على المنطقة فله البقاء، وإن لم يستطع فالعسكر دائماً موجودون ويمكنهم إعادة الإسلاميين للمعتقلات بسهولة والامثلة حية وشاهدة على ذلك، وبالعودة إلى حديث فيلدمان فيقول كذلك إنّ القانون في العالم الإسلامي قد يكون نوعاً ما من الشريعة، وإنّ أفضل وسيلة لإعلاء تلك الشريعة هي عودة نوع ما من علماء الإسلام لدور الرقيب والضامن لاحترام الشريعة، ووفق نظرية فيلدمان مطلوب أنظمة ذات مرجعية إسلامية لنظام الحكم، بدون تطبيق فعلي لأحكام الشريعة الإسلامية، مطلوب «دولة» أو بالأصحّ «دول خلافة إسلامية» دون أن تكون هناك وحدة إسلامية، مطلوب سيادة القانون الإسلامي مع عدم تفعيل جوهر ذلك القانون، فمن هذه الكلمات نلاحظ أنّ هذا التصوّر – دولة مدنية بمرجعية إسلامية – هو نفس المشروع الذي تتبناه، على الأقلّ في العلن، حركة الإخوان في مصر، والنهضة في تونس، ومجلس الثورة في ليبيا، وكذلك بعض الحركات الإسلامية في المغرب العربي.

وبالعودة الى تجربة الاسلام السياسي في تركيا هنا لا يمكن إنكار حقيقة انّ حزب العدالة والتنمية التركي، يحمل توجهات عثمانية، وهذه العثمانية الجديدة تثير جدلاً في الداخل التركي، وفي الوقت نفسه تثير هواجس تتجاوز العالم العربي، نظراً لما تركته الدولة العثمانية من إرث قام على القتال والغزو تسمّيها تركيا الفتح بكلّ ما تحمل هذه السياسة من مفاهيم استعمارية فيما يرى فيه حزب العدالة والتنمية مخرجاً لأزمة الهوية في تركيا ومدخلاً لعلاقة جديدة مع العالمين العربي والإسلامي.

ختاماً، يعلق هنا احد المختصين بالشأن التركي فيقول: لا يمكن إنكار حقيقة انّ النزعة العثمانية لحزب العدالة والتنمية باتت تتفوّق على النزعة الاخوانية للحزب أو الحرص على تقديم النموذج الذي يسعى فيلدمان لتعميمه، وهو المزج بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد إلى مشروع نيوعثماني ينتهي إلى إعادة بناء الخلافة من جديد بعد هدم أصول الجمهورية التركية التي بناها أتاتورك.

تبدو تركيا في كلّ ما سبق نموذجاً للدولة الحائرة في هويتها وجغرافيتها وخياراتها السياسية، ولعلّ مشكلتها الأساسية إزاء العالمين العربي والإسلامي في هذه المرحلة هي حضور البعد الإيديولوجي بقوة في سياستها الخارجية على حساب بناء علاقات تقوم على المصالح المتبادلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول.

كاتب وناشط سياسي الأردن

hesham.habeshan yahoo.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى