تفجيرات اسطنبول… بين الاعتذار لروسيا والتخلي عن «داعش»

شارل أبي نادر

ليست المرة الأولى التي تتعرّض فيها تركيا لعمليات إرهابية، فتاريخها القريب حافل بهذه العمليات التي طالت أغلب مرافقها الحيوية في الوقت الذي تلعب السياحة دوراً مهماً في اقتصاد الدولة الوحيدة تقريباً في العالم التي تجمع ثقافة أوروبية متحرّرة إلى درجة التفلت أحياناً، مع ثقافة إسلامية ملتزمة إلى درجة التشدّد أحياناً أخرى.

ما يميّز هذه التفجيرات العنيفة التي طالت مطار اسطنبول بالأمس في واحدة من أكثر العمليات دموية، وحيث أنّها نفذت بأسلوب داعشي بامتياز من خلال تقنية وحرفية يفهمها أردوغان جيداً، ودائماً لم تكن بعيدة عن مباركته أو عن إعجابه، أنها تترافق مع تخبّط وعدم استقرار واضحين في سياسة الرئيس التركي، والتي ظهرت في أكثر من صورة.

أولى صور التخبّط هذه ظهرت في تقديمه اعتذاراً لروسيا على خلفية حادثة إسقاط طائرة السوخوي فوق الأراضي السورية، ومقتل الطيار بطريقة وحشية، بعد تمنّعه عن ذلك سابقاً بالرغم من الطلب الصريح لبوتين لهذا الاعتذار واشتراطه كمدخل لإمكانية مناقشة الحادثة، متمترساً أيّ أردوغان خلف سيادة تركيا وأمنها القومي المؤتمن عليه، ليتخلى عن الإثنين فجأة وبطريقة مذلة من خلال اعتذار أشبه باستجداء والتماس لعطف وشفقة الرئيس الروسي.

ثاني هذه الصور حول التخبّط المذكور ظهرت من خلال موافقته الضمنية، ومن خلال غضّ نظره عن الهجوم الكردي بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على «داعش» في الشمال الشرقي لحلب، وتحديداً من خلال عبور الفرات والتقدّم ومهاجمة التنظيم في منبج، معقله العملاني المتقدّم في سورية، والذي يشكل نقطة الربط والتواصل الأمني واللوجستي بين وحداته وعناصره في كلّ من سورية والعراق وأوروبا وامتداداً إلى دول بعيدة أخرى، بعد أن كان يعتبر هذا العبور خطاً أحمر يهدّد الأمن القومي التركي.

في الحقيقة، يمكن تمييز هذا التخبّط في سياسة تركيا حالياً، والذي يعكس تخبّطاً في شخصية الرئيس التركي، وذلك من خلال هذا التناقض الذي رافق اعتذاره لروسيا أو بالتحديد للرئيس الروسي والذي ظهر من المعطيات التالية:

ـ يعتذر عن إسقاط طائرة روسية بصاروخ تركي من جهة، معتبراً أنه حادث مؤلم ناتج عن خطأ لن يتكرّر، ومن جهة أخرى يؤمّن مئة صاروخ أرض ـ جو متطوّر مضادّ للطائرات ويسلّمها لـ»جبهة النصرة» التي ينتشر عناصرها في الشمال السوري حيث تنفذ القاذفات الروسية والسورية تغطية جويّة واسعة.

ـ يعتذر من بوتين وفي نفس الوقت يؤمّن دعماً واسعاً ومساندة غير محدودة للمسلحين الإرهابيين وعلى رأسهم «جبهة النصرة»، والتي تعتبرها روسيا المجموعة الإرهابية الأكثر إعاقة وتأخيراً وضرباً للهدنة التي ترعاها عبر غرفة عمليات حميميم، وحيث تعمل روسيا بكامل طاقتها وجهودها الديبلوماسية والسياسية لفرضها والانطلاق منها بمفاوضات واسعة لإيجاد حلّ نهائي في سورية.

ـ يعتذر ويتقدّم من عائلة الطيار الروسي الشهيد بالتعزية الحارّة عارضاً استعداده للتعويض بأيّة طريقة يختارونها، وفي نفس الوقت يطلق سراح المتهم الأساسي الناشط التركي الذي كان يقاتل الجيش السوري في جبال اللاذقية مع مئات من أمثاله، والذي أقدم على إعدام الطيار المذكور رميّاً بالرصاص عند هبوطه بالمظلة، في جريمة شنيعة تخالف وبامتياز القوانين الدولية وقانون الحرب.

هذا من ناحية الاعتذار لروسيا، أما من ناحية تخليه «الظاهر» عن التنظيم الإرهابي «داعش» من خلال موافقته الضمنية على مهاجمته شمال شرق حلب ما بين غرب الفرات وامتداداً إلى منبج ومحيطها، فهو في الوقت نفسه ما زال يرعى معركة التنظيم تسهيلاً وتمويلاً وتسليحاً ودعماً ما بين العراق وسورية، مقدّماً الخبرات والتقنيات والطائرات بدون طيار التي تؤمّن له حماية استباقية من خلال كشف أيّ تقدّم للوحدات المختلفة التي تهاجمه.

واخيراً… ربما ستستطيع أن تستنتج سبب هذا التخبّط وعدم الاستقرار والضياع الذي يطبع سياسة «السلطان» رجب طيب أردوغان، وذلك بعد أن تتابع السيرة الذاتية لهذه الشخصية من خلال بعض المحطات التي طبعت تاريخه السياسي والمهني والاجتماعي، وخاصة بعد أن تعلم مثلاً أنه عُزل عام 1998 من مركزه كعمدة لبلدية اسطنبول بسبب اتهامه بالتحريض على الكراهية الدينية، وبعدها حُكم عليه بالسجن عشرة أشهر بسبب اقتباسه أبياتاً من الشعر في قصيدة نسبها لنفسه من شعر تركي معروف أثناء إلقائه خطاباً في إحدى المدن التركية، وحيث أنك ربما ستصدم بعد أن تعلم أنه حاز عام 2010 على جائزة «القذافي لحقوق الإنسان» مع ما تعنيه هذه الجائزة واسم صاحبها للرأي العام الإقليمي والدولي من مصداقية ومن قيمة اجتماعية وإنسانية وتاريخية، سوف تعتبر أنّ هذه العملية الإرهابية في مطار اسطنبول قد تكون فرصة أخيرة للرجل صاحب النزعة الأكثر غرابة وحقداً وتأرجحاً في الشرق، وربما في العالم، لإعادة النظر بكامل سياسته وتصويب طريق تركيا في الاتجاه الصحيح لمحاربة الإرهاب والابتعاد عن سياسة التهوّر والإجرام.

عميد متقاعد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى