التلاسيميا العربية

د. رائد المصري

يبدو أنّ الحالة العربية ونمط الوعي العربي الجمعي الذي تنطبع به هذه الأغلبيات يشبه إلى حدّ كبير أمراض الوراثة، فكلّ ما نحمله من صفات وراثية تنقلها الجينات التي تحملها كروموزومات الأبوين نصفها من الأب ونصفها الآخر من الأمّ، هي التي تتحكّم بنوع هذه المركبات لكونها تنشأ وفق سيطرة الجينات…

هذا الوعي العربي الجمعي الذي أراد وعن سبق الإصرار والترصّد التحوّل عن رصد أولوية صراعاته في مواجهة المشروع الاستعماري الغربي، لأنه قرّر سلفاً عدم الاقتناع أو قرّر مسبقاً عدم فهم مجريات الصراع، قبل أن تقرّر أنت بدء النقاش حتى…

تلاسيميا الوعي العربي الجمعي لا تزال ترى في الرئيس التركي رجب أردوغان «الزعيم الحقيقي والأوحد»، حتى لو اقترف كلّ الموبقات وحجر على الأتراك بالإقامة الجبرية وصادر السلطات واختصر الدولة بشخصه، وحتى لو استباح ديار بكر الكردية وغيّر ديموغرافيتها، وألغى قرى من الوجود، وأيضاً لو ألقى بالنازحين السوريين واللاجئين عرض البحر بغية الابتزاز المادي الرخيص…

أردوغان هو «الزعيم» والممثل الحقيقي لهذا الوعي العربي الجمعي الممروض بالعصبيات القبلية والمذهبية حتى لو باع غزة وقضية فلسطين ولو تخلّى واعتذر للكيان الصهيوني، وأبقى رغم الإهانات «الإسرائيلية» له ولدولته على هذه العلاقات الدونية… فذنبه مغفور وعذره مقبول من الناحية المذهبية والجندرية ولو على حساب القضية الأساس وسلخ جلود الفلسطينيين…

التلاسيميا العربية الموروثة ووعيها الجمعي لا تنظر إلى عرب الصحراء الجنادرة إلا من بوابات المصدرين للريوع التي يقتاتون عليها، حتى لو كانوا هم أنفسهم بقاماتهم الممشوقة والمشوّهة أحياناً حاملين مناشف الأمراء للاغتسال بعد الانتهاء من وجباتهم الدسمة من مسلخ الحريات في اليمن وشرب دماء السوريين وأهل العراق وإثبات الفحولة الذكورية باغتصاب القضية «فلسطين»…

لقد شاءت الأقدار أن يُذبح طفل وأن يكون فلسطينياً في حندرات، طفل مصاب بمرض التلاسيميا، فلا مشكلة طالما أنّ ذبّاحيه هم أولى بدمائه لناحية وعيهم الجمعي. وطالما هو مرض متوارث، كما توارث البعض عقد النقص وعقدة الكرامة والعزة والخروج من بحر الهزائم.

فلا تنديد ولا استنكار ولا حتى الدهشة، فهم حرمونا متعة الدهشة في مواقفهم، ولو من خلال مرجع ديني كالأزهر، وهو ما بات يُطرح بشدّة علامات الاستفهام، ما إذا كان نور الدين الزنكي فاتحاً ومبشّراً ومتنوّراً إسلامياً.. فكيف سيُخترق هذا الوعي الجمعي بسماحة الإسلام ومبشّريه؟ وبعدالة القضية ومشروعية الدفاع عن المشروع الاستعماري الصهيوني والتكفيري؟ الجواب هو التلاسيميا العربية المتوارثة بمرض الدم والجينات والخيبات والقهر والتآمر.

الحالة العربية بأغلبيتها تبرّر لأردوغان ارتكاباته وبالحدّ الأدنى أنّها مشكلة تركية داخلية للهروب من قفص الاتهام. طيّب… لكن لم نستطع تفسير الموقف المتشدّد من النظام في سورية إلى اليوم منذ أكثر من خمس سنوات، وهو لا يمكن أن يشكل نقطة واحدة في بحر الانتهاكات الأردوغانية وحزب العدالة والتنمية التي يميل معظم المنتمين إلى هذا الحزب بنحو 65 بتأييد داعش وارتكاباتها وتجلّت في الممارسات التي أعقبت الانقلاب الفاشل من قتل وسحل للجنود الأتراك.

نحن ننتظر، بالطبع، موقف هذه الأغلبيات العربية بوعيها الجمعي والتلاسيميا الموروثة بشأن موقف أردوغان وتحوّلاته تجاه القضية السورية ومنع التدخل أو الكفّ عن التدخل في زعزعة استقرار هذه الدولة. هل سيبقى «الزعيم» الأوحد والحقيقي لأمة الإسلام بجناحها السني المعتدل، كما يسوّقون؟

لا فرق بين ذبّاحي الطفل الفلسطيني في حندرات السورية من قبل الجماعات الإسلامية المتطرفة، وأسمّيها إسلامية، لأنه لم تصدر أيّ فتوى تكفر هؤلاء عن مثل هذه الأفعال، وقتل الطائرات الفرنسية بالقصف مئتي مدني وعشرات الأطفال منهم والمظلومون.. وطبعاً من دون إشارة أو إدانة لهذه المجزرة المروعة، وهذا طبعاً يتعلق بالموروث الطبي التلاسيمي منذ التاريخ القديم وجيناته.

لقد اكتشف العالِم كولي العلاقة الوراثية لهذا المرض عام 1925، وما زال يُطلق عليه «فقر دم كولي». ولكنه بالحقيقة مرض عقلي منتشر في العديد من دولنا العربية، خصوصاً دول حوض البحر الأبيض المتوسط، ولهذا أطلق عليه فقر دم البحر الأبيض المتوسط أو الثلاسيميا، وهي كلمة يونانية تعني «فقر دم البحر المتوسط»… فهل من همّة تحرك ماكينة وعجلة الكرامة لأغلبياته؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى